كلمة في تقديم الطبعة الثانية‏

من هم العرب؟‏

العقائد السماوية‏

آداب الحياة والسلوك‏

التدوين‏

صناعات السلم والحرب‏

الأصل والنقل‏

الطب والعلوم‏

الجغرافيا والفلك والرياضة‏

الأدب‏

الفنون الجميلة‏

الموسيقى‏

الفلسفة والدين‏

أحوال الحضارة‏

الدولة والنظام‏

أثر أوروبا الحديثة في النهضة العربية‏

سداد الديون‏

الاجتماع والسياسة‏

الحكومة البرلمانية‏

الوطنية‏

الحركات الدينية‏

الأخلاق والعادات‏

الأدب والفن‏

الصحافة‏

إجمال‏

كلمة في تقديم الطبعة الثانية‏

من هم العرب؟‏

العقائد السماوية‏

آداب الحياة والسلوك‏

التدوين‏

صناعات السلم والحرب‏

الأصل والنقل‏

الطب والعلوم‏

الجغرافيا والفلك والرياضة‏

الأدب‏

الفنون الجميلة‏

الموسيقى‏

الفلسفة والدين‏

أحوال الحضارة‏

الدولة والنظام‏

أثر أوروبا الحديثة في النهضة العربية‏

سداد الديون‏

الاجتماع والسياسة‏

الحكومة البرلمانية‏

الوطنية‏

الحركات الدينية‏

الأخلاق والعادات‏

الأدب والفن‏

الصحافة‏

إجمال‏

أثر العرب في الحضارة الأوروبية

أثر العرب في الحضارة الأوروبية

تأليف

عباس محمود العقاد

كلمة في تقديم الطبعة الثانية

وصل إلى علمي - منذ ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب - مراجع كثيرة في موضوعه لم أكن قد اطلعت عليها، كما ظهرت في المكتبة الأوروبية مئات من كتب البحث والرحلة تزخر بالمعلومات الجديدة عن الشرق العربي القديم والحديث؛ لأن فترة ما بعد الحرب - كما هو معلوم - صرفت جهود الباحثين والمستطلعين في الغرب إلى تحقيق أحوال الأمم الشرقية التي برزت بعد الخفاء في ميادين السياسة الدولية.

وكانت أمم الشرق العربي في مقدمة الأمم التي انصرفت إليها جهود أولئك الباحثين والمستطلعين؛ إذ كانت في موقعها المتوسط بين القارات الثلاث قبلة الأنظار، ومحور المقاصد، ومدار البحث في أصول التواريخ والعقائد، بل أصول الثقافة الأوروبية التي لا تعدو أن تئول إلى الديانات الكتابية أو ثقافة اليونان.

وأعود بعد المقابلة بين هذه المراجع الحديثة والمراجع التي اعتمدت عليها من قبل، فلا أرى اختلافا في النتيجة، مع هذه الزيادة الضافية في المعلومات ومصادرها المتعددة.

فليس فيما وصل إلينا عن تاريخ الثقافة العربية شيء ينقض قواعد الفكرة الغالبة عن أثر حضارة العرب في التاريخ الأوروبي الحديث، وإنما تتجه هذه الزيادة إلى التوكيد والتثبيت، ولا تتجه إلى النقض والتغيير، فمن المراجع الأخيرة نعلم - مثلا - أن أثر السلالة العربية أقدم جدا مما يظنه الكثيرون، وأنها توغل في القدم إلى ما قبل التاريخ، وقد يكون هذا الأثر نتيجة لهجرة العرب إلى القارة الأوروبية قبل هجرة القبائل الهندية الجرمانية إلى تلك القارة.

ويعزز هذا الرأي أن البلاد العربية كانت في تلك العصور القديمة أقدر على صناعة السفن، وأرقى عدة للملاحة في عرض البحار؛ لأنها كثيرة الغابات، موفورة المنابع التي يستخرج منها الطلاء واللحام.

ومن الباحثين اللغويين من يرجح نسبة بعض المواقع اليونانية إلى سلالة من العرب أسستها أو سكنتها في زمن مجهول، ومنها مدينة لاريسا (العريش)، ومدينة لسكرا (العسكر)، وجبل الفنديس (الفند)، وهو في العربية الجبل العظيم.

فالمراجع الحديثة تؤكد أثر العرب في القارة الأوروبية، وتعود به إلى أزمنة أقدم من تاريخه الذي كان مفروضا قبل جيل أو جيلين.

وهذه المراجع الحديثة تزودنا في العصور التاريخية بالبراهين التي كانت تعوزنا لتقرير بعض الحقائق، والخروج بها من دائرة الظن والاستنتاج المعقول ... فمنذ أربعين سنة كان المستشرق الإسباني بلاسيوس يظن أن الشاعر الإيطالي، دانتي أليجيري، قد استمد وصفه لمناظر الجحيم والأعراف والفردوس من الكتب الإسلامية التي تتكلم عن البعث وعن المعراج، وهو يشير إلى سبق أبي العلاء المعري إلى هذا الضرب من القصص في رسالة الغفران، ويبني ظنه على مجرد التشابه بين الأوصاف العربية والأوصاف التي ترددت في أناشيد الكوميدية الإلهية.

ولكن الدراسات الأخيرة تثبت وجود هذه الأوصاف العربية في المكتبة اللاتينية والإيطالية التي كانت متداولة في أيدي المثقفين من الإيطاليين في حياة دانتي، ويقول الدكتور محمد عوض محمد: إنه اطلع على هذه «الحلقة المفقودة» طبقا لعنوان الترجمة اللاتينية والفرنسية القديمة والإيطالية.

قال الدكتور الفاضل في محاضرة ألقاها بمؤتمر أندية القلم في مدينة طوكيو منذ سنتين: ... هذه الترجمة علمت كما هو منتظر في قصر الملك ألفونسو في إشبيلية، الذي كان يعد نفسه ملكا مزدوجا على المسلمين والنصارى على حد سواء. وفي حوالي عام 1264م قام الطبيب اليهودي، إبراهيم الفقين، بترجمة قصة المعراج المتداولة بين الناس إلى لغة قشتالة، وهذه الترجمة فقدت، غير أن العالم الإيطالي «بونا فنتورا» (1221-1274) تولى ترجمة هذا النص الإسباني إلى اللغتين اللاتينية والفرنسية.

ووجدت نسخ من هذه الترجمة في أكسفورد وباريس والفاتيكان، وهذه النصوص نشرت في وقت واحد بواسطة الأستاذ تشيرولي في إيطاليا، والأستاذ مونيوز في إسبانيا، وكلاهما لم يكتف بنشر هذا النص القديم الذي يرجع إلى عام 1264؛ أي في العام السابق لميلاد دانتي، بل تحدث أيضا عن أثره في كتاب دانتي.

وقد أورد الأستاذ جبرييلي أدلة عديدة تثبت أن هذه التراجم كانت متداولة وفي متناول الكتاب بوجه خاص، وأورد من جملة الأدلة قصيدة من مرتبة دون مرتبة دانتي بكثير، ولكنه معاصر له، ويشير فيها صراحة إلى محمد وقصة المعراج ...

فالمراجع الحديثة التي تستقصي البحث عن أثر العرب في الحضارة الأوروبية لم تغير شيئا من قواعد الفكرة الغالبة التي شرحناها في هذا الكتاب، وإنما استحدثت في هذا البحث توكيدا لها وأدلة عليها، ولا تزال تتجه كل عام إلى مزيد من التوكيد والتثبيت. •••

أما الشق الآخر من هذا الكتاب - عن أثر الحضارة الأوروبية في العالم العربي الحديث - فهو من مسائل العيان التي لا تلجئنا إلى تاريخ وراء ما نذكره ونشاهده يوما بعد يوم.

إن العالم العربي يتقدم في الاستفادة من حضارة الغرب، ويخرج من محنة الخضوع السياسي للدول الغربية بكيان مستقل، وحياة ثقافية تنسب إليه، وتوشك أن تسلك به مسلك المناظرة لأمم الغرب في ميادين الأدب والفن، ومسلك الاقتداء الناجح في ميادين العلم والصناعة ... ومن الآمال الصادقة - لا من الأماني الحالمة - أن تكون مهمة الكاتب عن أثر العرب في الحضارة الأوروبية وأثر الأوروبيين في حضارة العرب المحدثين مهمة الموازنة بين كفتين متقابلتين، قبل نهاية القرن العشرين.

ويعلم قارئ هذا الكتاب من نعنيهم باسم العرب في التاريخ القديم، فهم أولئك الأسلاف من المتكلمين بالعربية التي لم تكن في العالم عربية سواها قبل خمسة آلاف سنة. ويخلفهم اليوم بهذا الاسم جميع الناطقين بالضاد ممن يشتركون في تراث واحد، ويرتبطون بمصير واحد، كلما تميزت الأقوام بمصايرها في ميادين الفكر والعمل والاجتماع.

وصفوة القول في موقف العالم العربي اليوم أنه الموقف الذي يطيب فيه النظر إلى الغد، كما يطيب فيه النظر إلى الأمس، فلا يفرد فيه الفخر بالآباء دون الأمل في الأبناء.

عباس محمود العقاد

من هم العرب؟

هم أمة أقدم من اسمها الذي تعرف به اليوم؛ لأنها على أرجح الأقوال أرومة الجنس السامي التي تفرع منها الكلدانيون والآشوريون والكنعانيون والعبرانيون، وسائر الأمم السامية التي سكنت بين النهرين وفلسطين، وما يحيط بفلسطين من بادية وحاضرة. وقد تتصل بها الأمة الحبشية بصلة النسب القديم مع اختلاط بين الساميين والحاميين.

فهذه الأمم كلها تتكلم بفرع من فروع لغة واحدة هي أصل اللغات السامية، ويدل على تلك اللغة اشتراك فروعها في بنية الفعل الثلاثي الذي انفردت به بين لغات العالم بأسره، وتشابه الضمائر والمفردات وكثير من الجذور والمشتقات، فضلا عن التشابه في ملامح الوجوه وخصائص الأجسام، قبل أن يكثر التزاوج بينها وبين جيرانها من الأمم الآسيوية أو الأفريقية.

وإذا كان لهذه الأمم جميعا أصل واحد، فأرجح الأقوال وأدناها إلى التصور أن يرجع هذا الأصل إلى الجزيرة العربية لأسباب كثيرة؛ منها: أن التحول من معيشة الرعاة إلى معيشة الحرث والزرع والإقامة في المدن طور من أطوار التاريخ المعهودة، وليس من أطواره المعهودة أن يتحول الناس إلى معيشة الرعاة الرحل في بوادي الصحراء بعد الإقامة في الحواضر والبقاع المزروعة.

ومنها أن الجزيرة العربية - في عزلتها المعروفة - أشبه المواقع بالمحافظة على أصل قديم، وهي كذلك أشبه المواقع أن تضيق فيها موارد الغذاء عن سكانها فيهجروها إلى أودية الأنهار القريبة.

ومنها أن اتجاه الهجرة من ناحية البحرين وناحية الحجاز متواتر في الأزمنة التاريخية القريبة والبعيدة، وأقربها ما حدث بعد الإسلام في وقت واحد من زحف العرب على العراق وزحفهم على الشام في عهد الخليفة الصديق. وليس لدينا ما يمنع أن يكون التاريخ الحديث دليلا على التاريخ القديم، ولا سيما إذا خلا التاريخ كل الخلو من رواية يقينية أو ظنية تومئ إلى هجرة النهريين وسكان الأودية إلى الجزيرة العربية في زمن بعيد أو قريب، فإن السمريين سكان ما بين النهريين الأقدمين كانوا هنالك قبل عشرة آلاف سنة، ولم يصل إلينا قط خبر عن هجرتهم إلى مكان في الجزيرة العربية، كائنا ما كان موقعه من تلك البلاد، بل ثبت على التحقيق أن الساميين هم الذين هجروا مواطنهم إلى ما بين النهرين؛ حيث قامت العواصم التي تسمى بالأسماء السامية كمدينة بابل «باب الله» أو «باب إيل». •••

أما الرأي الآخر الذي يرجح أن الأمم السامية نشأت في بقعة من الأرض غير الجزيرة العربية، فأشهر القائلين به هو الأستاذ «جويدي الكبير»، العالم الإيطالي المعروف في القاهرة، وأقوى الحجج التي يستند إليها مستمد من مضاهاة اللغات السامية، وكثرة أسماء النبت والأمواه في لهجاتها الأولى. وعنده أن اشتراك اللغات السامية في هذه المفردات مما يدل على أرومة نشأت في بلاد مخصبة كثيرة الزروع والأنهار، ولم تنشأ في صحراء العرب وما شابهها من البقاع.

وهذا الرأي ضعيف لا يقوم بالحجة الناهضة، ولا تؤيده حالة الجزيرة العربية قبل الكشوف الحديثة بزمن طويل، فضلا عن حالة الجزيرة التي تدل عليها تلك الكشوف في طبقات الأرض وعوارض الجو وعلم الأجناس.

فالمروج الفيحاء والبقاع المخصبة لم تكن مجهولة قط في جنوب الجزيرة ولا في جوانبها الشرقية الشمالية عند البحرين ووادي اليمامة، وهي البقاع التي مر بها المهاجرون من قديم الزمن، تارة من اليمن إلى البحرين إلى ما بين النهرين وبادية الشام، وتارة من البحرين بداءة إلى ما وراءها من المشارف الشمالية.

ولم تزل بقاع اليمامة إلى ما بعد الإسلام مشهورة بالمراعي الواسعة، والعيون الثرارة، والأمطار الغزيرة، والمروج المعشبة التي تخلفت مما هو أخصب منها وأعمر بالإنسان والحيوان في أقدم الأزمان. وقد لاحظ الرحالة الألماني شوينفرت أن القمح والشعير والجاموس والمعز والضأن والماشية وجدت في حالتها الآبدة في اليمن وبلاد العرب القديمة قبل أن تستأنس في مصر والعراق.

وتبين من الكشوف العلمية في العهد الأخير أن الجزيرة العربية تعرضت لأدوار الجفاف وطوارئ الزلازل منذ عصور موغلة في القدم ، فكان القفر فيها يجور على الخصب في أدوار طويلة بعد أدوار أخرى على التدريج، قبل أن تجور الصحراء على معظمها في عصور التاريخ.

فحالة الجزيرة العربية كافية لتفسير التشابه بين لغات الساميين في ألفاظ الخصب والثمرات والأمواه، ولكن الرأي الآخر - رأي الأستاذ جويدي - لا يفسر لنا الفرض القائل بهجرة العرب مثلا مما بين النهرين أو من الشام إلى قفار الصحراء. وهو فرض لا دليل عليه من الروايات القديمة، ولا من الأحوال المرجحة على حسب التقدير المعقول، ولا من السوابق المألوفة كما رأينا الأمثلة عليها في التاريخ الحديث. •••

وعلى هذا يصح أن نعتبر أن سلالة العرب الناشئين في جزيرتهم الأولى قد سكنت أواسط العالم المعمور منذ خمسة آلاف سنة على أقل تقدير، وأن كل ما استفاده الأوروبيون من هذه البقاع في هذه العصور هو تراث عربي أو تراث انتشر في العالم بعد امتزاج العرب بأبناء تلك البلاد.

وليس هذا التراث بقليل؛ لأنه يشتمل على كل أصل عريق - عند الأوروبيين - في شئون العقل والروح، وأسباب العمارة والحضارة؛ وهي: (1) العقائد السماوية، و(2) آداب الحياة والسلوك، و(3) فنون التدوين والتعليم، و(4) صناعات السلم والحرب وتبادل الخيرات والثمرات.

العقائد السماوية

والأديان الكتابية هي أول ما يخطر على البال حين يجري الكلام على العقائد السماوية التي تلقاها الأوروبيون من تراث الجزيرة العربية، أو من تراث الأمم السماوية؛ لأن الأديان الكتابية الثلاثة - وهي الموسوية والمسيحية والإسلام - ظهرت وانتشرت بين سلالات الجزيرة العربية، على اختلاف موعدهم من الهجرة منها إلى الأقطار التي تليها.

ولكننا لا نعني هذه الأديان حين نتكلم في هذا الفصل عن العقائد السماوية؛ لأنها من وقائع العيان التي لا تزال قائمة في وقتنا الحاضر بغير حاجة إلى استقراء التواريخ، ومضاهاة الأخبار والروايات.

وإنما عنينا بالعقائد السماوية كل ما عرفه الأوروبيون الأقدمون عن السماء وأفلاكها ومداراتها، وسلطانها المزعوم على الأرضين، وطوالعها النافذة في جميع الأحياء، سواء ما انطوى منها تحت عنوان «علم الفلك»، أو ما انطوى تحت عنوان الكهانة والتنجيم.

فمما لا خلاف عليه أن العرب نشئوا في بلاد أصحى سماء، وأسطع فضاء من البلاد الأوروبية، وأنهم سبقوا أبناء البلاد الغائمة والآفاق المحجبة إلى رصد النجوم، ومراقبة المطالع والمغارب في القبة الزرقاء؛ لأنهم على سهولة الرصد عندهم كانوا في حاجة دائمة إلى توسم المطر، وترقب الأنواء، والخبرة بمواقيت الإدلاج والإسراء في رحلاتهم الطويلة بالصحراء.

ووافق علمهم هذا علم المدائن والأمصار التي قامت بين النهرين؛ إذ من المحقق أن تقسيم الأشهر والأيام كما شاع في بلاد الكلدانيين والساميين قد كان عليه طابع اللغة العربية القديمة، وأن النسيء في حساب الأشهر، والأسبوع في حساب الأيام كانا من المخلفات السامية في تلك البلاد، وظلت بقاياه بين العرب في الصحراء إلى ما بعد الإسلام.

وكائنا ما كان الرأي في الاقتباس من الحضارات السمرية بين النهرين، فليس «الأسبوع» من عمل السمريين، ولم يظهر بينهم قبل ظهور البابليين.

وعن هذه الأقوام العربية الأولى تلقى الأوروبيون عقائدهم عن الأسبوع، وأرباب الأيام وسلطانها على الأحياء أو على الأحداث والزروع والضروع.

ولا تزال أسماء الأيام الإفرنجية تحمل طابع العقائد «السماوية» كما كان يعتقدها أسلاف العرب المعرقون في القدم، وتتداولها لغات الغربيين إلى هذه الساعة التي نحن فيها.

جاء في الجزء الأول من إخوان الصفاء عن أوائل ساعات الأيام: «اعلم أن الليل والنهار وساعاتهما مقسومة بين الكواكب السيارة؛ فأول ساعة من يوم الأحد للشمس، وأول ساعة من يوم الاثنين للقمر، وأول ساعة من يوم الثلاثاء للمريخ، وأول ساعة من يوم الأربعاء لعطارد، وأول ساعة من يوم الخميس للمشترى، وأول ساعة من يوم الجمعة للزهرة، وأول ساعة من يوم السبت لزحل ...»

ونضرب صفحا عن تقسيم الليالي والساعات؛ لأن تقسيم أوائل الأيام يغنينا فيما نحن فيه، فيوم الأحد يعرف في الإنجليزية باسم «سنداي»

Sunday

أو يوم الشمس.

ويوم الاثنين يعرف باسم «منداي»

Monday

أو يوم القمر، ويوم الثلاثاء يعرف باسم «ثيوزداي»

Tuesday

أو يوم «ثيوز»؛ إله الحرب عند أمم الشمال الأولى، وتوضحه التسمية الفرنسية لهذا اليوم؛ لأن يوم الثلاثاء يعرف فيها باسم

Mardi

أو يوم مارس، وهو المريخ.

ويوم الأربعاء يعرف في الإنجليزية باسم «ودنزداي»

Wednesday

أو يوم «ودين»؛ إله المعارف والفنون عن قدماء التيوتون، وتوضحه التسمية الفرنسية أيضا؛ لأن يوم الأربعاء يعرف فيها باسم

Mercredi ؛ أي يوم عطارد، وهو بالفرنسية

Mercure

أو بالإنجليزية

Mercury .

ويوم الخميس يعرف في الإنجليزية باسم «ثورزداي»

Thursday ، أو يوم «ثور» إله الرعد عند قدماء التيوتون، وتوضحه التسمية الفرنسية؛ لأن يوم الخميس فيها يعرف باسم

Jeudi ؛ أي المشترى أو الإله جوبيتر

Jovis dies . ويرجع هذا الاسم «ياهو»

Jehova

الذي يشير به أبناء الأمم السامية إلى الله، ولا يزال كثير من العرب حتى اليوم يستغيثون بالله فينادون «يا هو!»

ويوم الجمعة يعرف في الإنجليزية باسم «فرايداي»

Friday ، أو يوم الربة فريج

Frig

زوجة عطارد ومقابلة الزهرة في صفاتها، وتوضحه التسمية الفرنسية؛ لأن يوم الجمعة يعرف فيها باسم يوم الزهرة

Vendredi ، أو يوم فينوس.

ويوم السبت يعرف في الإنجليزية باسم «ساترداي»

Saturday ، أو يوم زحل

Saturn

في تلك اللغة إلى اليوم. •••

ويتبين من معاني أيام الأسبوع عندهم أن عقائد التنجيم التي أخذوها عن السلالات العربية قد تغلغلت في شعوبهم الأوروبية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وهي العقائد التي ترتبط بالمعيشة اليومية، وطوالع الأوقات، وسلطان الأفلاك العليا على الأحياء وحوادث الأيام.

فهي على هذا أكبر شأنا وأشد إيغالا في الحياة من تسمية مقتبسة من تقويم منقول.

وقد اصطبغت حياتهم العاطفية بما تلقوه من أسماء تلك الأرباب وخصائصها، فشملت الشعور بالقداسة، والشعور بالغضب، والشعور بالحب والغرام والجمال.

فاسم الإله الأكبر

Jove

أو

Jehova

مأخوذ كما قدمنا من اسم «ياهو» الذي يجري على ألسنتنا إلى أيامنا الحاضرة.

وإله الغضب والحرب عندهم مأخوذ بلفظه ومعناه عند الساميين الأقدمين؛ لأن

Mars

هي تصحيف ظاهر لكلمة المريخ.

وربة الحب أو العذراء الفاتنة «فينس» هي تصحيف كلمة «بنت» السامية، وكانت تكتب عندهم بالباء ثم صحفت إلى الفاء كما يقع ذلك في كثير من الأسماء، وهكذا فعلوا بأسماء الزهرة الأخرى، فصحفوا عشتار إلى «استار»؛ أي النجمة، وهي عثتار في اللغة العربية اليمانية القديمة، ثم عرفها الساميون في شمال الجزيرة العربية باسم عشتار وعشتروت.

وكذلك أخذوا أدونيس

Adonis

إله الفتوة والجمال من «أدوناي»، بمعنى السيد أو الرب عند الكنعانيين.

فهم قد مزجوا معيشتهم اليومية وحياتهم العاطفية بعقائد السماء التي تلقوها عن السلالة العربية، ولم يقصروا النقل على علم الفلك ولا أزياج النجوم؛ فإنهم - كما سيلي في بعض فصول هذا الكتاب - قد ظلوا ينقلون عن العرب في هذا العلم إلى ما بعد الإسلام بزمن طويل، وقد بقيت في لغاتهم عشرات الأسماء العربية للكواكب والمصطلحات الفلكية بتحريف قليل أو بغير تحريف.

آداب الحياة والسلوك

وقد كانت المدرسة الكبرى المعنية بآداب الحياة والسلوك - بين مدارس الفلسفة التي اشتهرت باسم «الفلسفة الإغريقية» - هي مدرسة شرقية في أصول أساتذتها، وأصول مبادئها، وأصول تفكيرها التي انفردت بها بين أصول التفكير الغالبة على عقول حكماء الإغريق الأصلاء.

ونعني بتلك المدرسة الشرقية الرواقيين؛ فقد كان رأس هذه المدرسة «زينون» من أصل «كنعاني» أو فينيقي كما كان الإغريق يسمون بعض الكنعانيين، وكان مولده على الشاطئ الشرقي من جزيرة قبرص في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد.

وكان من أقطاب هذه المدرسة من ولد في صيداء، ومن ولد على ضفاف نهر العاص أو نهر دجلة.

وكان لها شأن جليل في الثقافة الإغريقية، ثم في الثقافة الرومانية، ثم في المدرسة الأفلاطونية التي نشأت بالإسكندرية، وبقي لها هذا الشأن في تفكير الأوروبيين وآداب سلوكهم إلى عصور النهضة والإصلاح الديني وما لازمه من ضروب الإصلاح الأدبية، فكانت الفلسفة الرواقية هدى لطلاب الإصلاح في طلب الكمال، وطلب السعادة، وطلب الحكمة العلمية في الحياة.

وحسبك شاهدا على مكان هذه المدرسة من السيطرة على الآداب الأوروبية في دولة الرومان، أن سنيكا وشيشرون وإبيكتيتس ومارك أورليوس كانوا من أتباع الرواقيين، وأنها المدرسة التي طاولت كل مدرسة أخرى في أمد البقاع واتساع النطاق، فلم تضارعها في طول بقائها واتساع نطاقها مدرسة فلسفية نشأت على عهد الإغريق والرومان، وأن النمط الرواقي في الحياة كان ولم يزل بين الغربيين قدوة الرجل الكامل - أو طالب الكمال - إلى عهد ديكارت الفرنسي، وإمرسون الأمريكي، ومن تتلمذ عليهما إلى هذا الجيل.

وقد كان طابع الذهن السامي - ونكاد نقول: طابع الجزيرة العربية - ملحوظا على كل ما علمته المدرسة الرواقية في باب الغيبيات، أو باب العلم الطبيعي، أو باب الأخلاق.

فكانت تدين بالتوحيد ونسبة الفعل كله إلى الله، والانفعال كله إلى المادة، وقد تميل أحيانا إلى وحدة الوجود فيما طرقته من بحوث ما وراء الطبيعة.

وكانت ترى في باب العلم الطبيعي أن الشيء الموجود هو الذي يفعل أو ينفعل، ولا وجود لغير ذلك من الفروض المثالية أو الفروض الخيالية؛ فكل ما في الكون مرجعه إلى الحس والتجربة، وقدرة الفعل والانفعال.

ولعلهم كانوا في هذا الباب روادا سابقين للمدرسة التجريبية التي ظهرت بعدهم بألفي سنة. ويعزو «سترابو»، الجغرافي الكبير، إلى موخوس الصيداوي أنه أول من قال بالجوهر الفرد قبل حرب طروادة. ويستند في هذا الخبر إلى رواية بوسيدنيوس، الفيلسوف الرواقي المعروف، وهو سبق له معناه في عصر الكلام على الجوهر الفرد والقنبلة الذرية.

أما في الأخلاق، فلا قيمة عندهم للبحث الفلسفي إن لم يكن له نفع في طلب الحياة الفاضلة، ونشدان السعادة، والتطلع إلى الكمال. ومساك الأخلاق المثلى عندهم ضبط النفس، وتربية الإرادة، واجتناب المطامع والشهوات.

وليس من العسير تعليل هذه النزعة الرواقية، أو هذه الفلسفة العربية القديمة؛ لأنها تنبعث من مصادر ثلاثة كل منها خليق أن يتجه بها هذا الاتجاه؛ وهي: سلطان القبيلة، وسلطان الدين، وسلطان الدولة والنظام.

فالقبيلة تفرض على أبنائها حياة الصبر والشظف، والمحافظة على التراث القديم، وتجعل كل فرد من أبنائها مسئولا عن القبيلة بأسرها، فعليه من أجل ذلك حساب عسير في كل صلة بين سائر الأفراد من تلك القبيلة، أو من أبناء القبائل الأخرى، وغاية ما يحذره الرجل في ظل هذا السلطان أن «يخلع»؛ فيصبح كما يسمونه خليعا لا حساب عليه.

ثم يأتي سلطان الدين والكهانة بعد انتظام القبيلة في دور الحضارة والعرف الموروث، ولم تفترق الكهانة القديمة عن المواسم والآداب التي تلتزم في آداب المعيشة والسلوك، ويتعرض الخارج عليها لخطر جسيم يضارع خطر «الخلع» أو يزيد عليه؛ لأنه يخلعه من حظيرة قومه وحظيرة الله على السواء.

ويتمشى مع سلطان الدين سلطان النظام والقانون في الدولة المهيبة قائما على ركنين من وشائج العصبية وفرائض العبادة، أو قائما على الحاسة الموروثة في عنصر النسب، وعلى العقيدة المستقرة في الضمير.

فإذا اتفقت هذه المصادر الثلاثة على إنشاء مدرسة من مدارس الحكمة، فلن يكون عجيبا أن تنشأ هذه المدرسة على مثال الرواقيين، فإن نشأتها بين السلالات العربية مفهومة قريبة التعليل، وإنما المستغرب الذي يخفى تعليله للوهلة الأولى أنها انتشرت في البيئة الإغريقية والبيئة الرومانية أو البيئة الأوروبية على الإجمال، فلولا ما أصاب العالم الأوروبي من القلق النفساني بعد فتوح الإسكندر وقبل الدعوة المسيحية لتعذر فهم ذلك الانتشار.

التدوين

ولا تستطاع المبالغة فيما استفاده البشر من اختراع طريقة لإثبات المعاني بالحروف، وإثبات الأعداد بالأرقام؛ فإن تدوين المعارف البشرية كلها راجع إلى هذا الاختراع النفيس.

ومما يقل فيه الخلاف بين المؤرخين والمنقبين أن حروف الكتابة العربية والكتابة الإفرنجية ترجع إلى مصدر واحد، وأن الأوروبيين اعتمدوا على الكنعانيين أو الإرميين في اقتباس حروفهم الأولى، وهي مشابهة في لفظها ورسمها لبعض الحروف السامية، ولا سيما الألف والباء والجيم والدال، وكلها ذات معان معروفة في لغات الساميين.

ومعظم الباحثين في هذا الموضوع يرجحون أن الحروف الكنعانية أو الإرمية تدرجت من حروف مصرية مأخوذة عن الصور الهيروغليفية القديمة، وأن اللوحة التي عثر بها سير فلندرس بتري، في شبه جزيرة سيناء (سنة 1906)، تشتمل على النموذج الوسط بين الصور القديمة والحروف الأبجدية كما نشرها الكنعانيون والإرميون. ويقدرون أن هذه اللوحة ترجع إلى أقدم من ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. وقد كان الإرميون في ذلك العهد يعيشون في شبه جزيرة سيناء.

ولعل الصور الهيروغليفية في مصر سبقت مثيلاتها في بلدان العالم لتوافر ورق البردي ومداد الكتابة الثابت في وادي النيل. ولكن الأوروبيين لم يقتبسوا مباشرة من وادي النيل لحرص الكهنة على إخفاء هذه الأسرار ... فلما بلغت من الزمن طور الحروف الشائعة أمكن أن تنتقل إلى جوار مصر في سيناء وتخومها الشرقية، حيث أقام الإرميون والكنعانيون .

ومما لا شك فيه أن فضل النشر والتعميم لأبناء الجزيرة العربية في هذا الاختراع النفيس؛ لأنهم نقلوه إلى الأقطار الآسيوية كما نقلوه إلى الأقطار الأوروبية، فأخذ الهنود حروفهم من اليمن كما أخذ الإغريق حروفهم من عرب الشمال بفلسطين.

وطريقة الترقيم الحسابية أحدث كثيرا من طريقة الكتابة بالحروف، ولكن تقويم الحروف بالقيم الحسابية قديم في الشعوب السامية، ولما اقتبسوا الأرقام الهندية بعد الإسلام صقلوها، وأضافوا إليها علامة الصفر والطريقة العشرية، ومن ثم عرفت هذه الأرقام عند الأوروبيين باسم الأرقام العربية، ولا يزال اسم الصفر عندهم «زيرو»

Zero

محرفا عن اسمه فيها.

صناعات السلم والحرب

ويرى «إسحاق تايلور»

Issac Taylor

أن الإغريق اقتبسوا نظام الأوزان وسك النقود عن البابليين من طريق الإرميين فالليديين في آسيا الصغرى.

وقد كان للإرميين بطون في العراق وبطون في سيناء وفلسطين، فكانوا ينشرون ما اقتبسوه من وادي النهرين ووادي النيل على السواء، وكان الإغريق على اتصالات بهم في الموانئ الشرقية من آسيا الصغرى إلى تخوم سيناء، فنقلوا عنهم وسائل الحضارة والتجارة قبل أن يهتدي إليها أبناء القارة الأوروبية بزمن طويل.

والإغريق ملاحون قدماء في صناعة الملاحة، ولكنهم لم يسبقوا الكنعانيين إلى هذه الصناعة؛ لأن هؤلاء قد عكفوا على نقل التجارة البحرية وأوشكوا أن يحتكروها في شرق البحر الأبيض إلى ما بعد أيام الإسكندر ونشأة الإسكندرية، وأعانهم على تجويد الملاحة كثرة الأخشاب الصالحة لبناء السفن في أرض كنعان، وكثرة المحاصيل التي يحتاجون إلى بيعها والمبادلة عليها في الموانئ القريبة أو البعيدة، ووقوع بلادهم على شواطئ بحر تفضي إليه التجارة الآسيوية في أبعد الأقطار.

وربما تعلم الإغريق صناعة السفن من الكنعانيين أو من البابليين، وقد تفيدنا هنا قصة نوح وسفينته؛ لأنها سفينة ورد لها ذكر في التاريخ، ولا شك أنها لم تبن في بلاد الإغريق، بل بنيت في بلاد قريبة من بلاد التوراة، أو قريبة مما بين العراق وفلسطين، وقد وجدت آثار السفن الفينيقية القديمة الجنوبية. وقد ذكر هيرودوت رحلات الفينيقيين والمصريين في عهد الفرعون نيخاوس، وكانوا أول من عرف الأمم في ساحل أفريقيا الشرقية معرفة يقين. إنما كان الإغريق يعرفونهم على أيام هوميروس معرفة سماع.

فإذا كان تحقيق السبق عسيرا اليوم، فالأمر الذي لا يعسر تحقيقه أن الكنعانيين - أو الفينيقيين كما سماهم الإغريق - توسعوا في الملاحة وإقامة المستعمرات البحرية البعيدة توسعا لم يبلغه الإغريق في الزمن القديم، وأنهم إذا كانوا قد اقتبسوا الموازين والنقود والكتابة وأرصاد النجوم وخصائص الأيام الفلكية عن الساميين، فليس بالبعيد أنهم تلقوا عنهم دروسا في الملاحة والتجارة، وبناء السفن وتوجيهها في البحر على حسب الطوالع والنجوم.

ومما يلاحظ في سياق الكلام على مقتبسات الإغريق من الدول السابقة في شئون الحياة اليومية وشئون الحضارة عامة، أن أبقراط الملقب بأبي الطب قد نشأ في جزيرة كوس، وأن جالينوس أشهر الأطباء اليونان بعده قد نشأ في آسيا الصغرى، وأنهما قد ساحا في أرض كنعان وإرم كما ساحا في الديار المصرية، ولا خلاف في اقتباس أبقراط وجالينوس من طب الفراعنة القديم، ولكن المعارف التي اقتبسها أهل آسيا الصغرى من كنعان وبابل لا بد أن تشمل المعارف الطبية التي تلازم الحضارات العريقة، ولا يمكن أن تستثنى منها بفرض من الفروض. •••

وتلك هي خلاصة الحضارة القديمة في كلمات معدودات، فلم تكن هناك صناعة من صناعات السلم لم يتتلمذ فيها الإغريق على أمة من سلالة الجزيرة العربية، أو لم يكونوا فيها لاحقين على إثر سابقين.

وعلى هذا الاعتبار - أي اعتبار الساميين جميعا من سلالة الجزيرة العربية - يجب أن يعود إليهم فضل الفنون الحربية التي استفادها الرومان من القائد القرطاجي المشهور باسم هنيبال؛ فإن معركة «كاني»

Gannae

التي هزم فيها الرومانيين بنصف عددهم على وجه التقريب لا تزال محورا للبحث والمناقشة، ومرجعا للدرس والتعلم في أحدث مدارس أوروبا العسكرية، وهي على هذا لم تكن إلا فنا من فنون كثيرة فوجئ بها الرومانيون من أساليب ذلك القائد العظيم في نقل الجنود بالبر والبحر، والنزول بهم على الشواطئ المكشوفة، والصعود بهم إلى قلل الجبال، واستخدام السفن المبتكرة في البحر، وابتكار الخطط السريعة لتسخير الحيوان في المعارك البرية، ومنه الفيل والحصان.

ولو شاء المؤرخ أن يعد هنيبال عربيا بحتا - ولا يجعله من السلالة العربية وحسب - لكانت له قرينة من اسمه واسم وطنه وتاريخ ظهوره ... فإنه ظهر في القرن الثالث قبل الميلاد حين كانت الأمة العربية قد شارفت طورها الحديث الذي بقيت عليه إليه اليوم، وكانت في اسمه لهجة العربية كما كانت تلفظ في ذلك الزمان، أو على نحو مقترب منها غاية الاقتراب؛ لأنه سمي «حنى بعل»، وهو اسم يرادف نعمة بعل أو نعمة الله. وسميت بلدته «قرية حداش» أو القرية الحديثة، فصحفت إلى قرتاش فقرطاج - بتعطيش الجيم - كما نطق بها الرومان. وكان اسم أبيه حامي القرية أو «هاملكار» بعد التصحيف والتحريف. •••

وخلاصة ما تقدم أن الأوروبيين تتلمذوا على أبناء الجزيرة العربية في مسائل العقيدة ومسائل الحضارة والمعيشة اليومية، قبل أن تبلغ أوروبا مبلغ المعلم لغيره في أمر من الأمور.

ولا يقدح في هذا أن السمريين - سكان ما بين النهرين الأولين - كانوا شعبا من شعوب العنصر الآري، كما جاء في بعض التقديرات التي تستحق النظر والترجيح.

فإن المحقق الذي لا تختلف فيه الظنون أن المعارف الفلكية التي وصلت إلى الأوروبيين، وبنوا عليها عقائدهم في الكواكب والأيام مصبوغة بالصبغة البابلية، سواء في الأسماء أو الصفات، وأن الكتابة قد وصلت إلى الأوروبيين والهنود من طريق أبناء الجزيرة العربية في أقصى الشمال أو أقصى الجنوب، وأنه مهما يكن الظن بالابتكار في أطواره الأولى، فالطابع السامي ظاهر على أول ما اقتبسه الأوروبيون من دروس الفلك والكتابة والحكمة الرواقية، وبعض أسباب التجارة والملاحة والعمارة، وليس في شيء من ذلك، لا في غيره، طابع ظاهر للسمريين.

الأصل والنقل

الأصالة قدر مشترك بين جميع الحضارات، فكل حضارة أبدعت ونقلت، وكانت لها سمة تميزها بين الحضارات العالمية، ولم توجد قط حضارة تفردت بالإبداع، أو تفردت بالنقل، أو خلت من السمة التي تميزها بين سمات الحضارة.

إلا أن البدعة الحديثة التي نشأت حول الآرية والسامية قد جنحت بالأوروبيين منذ ظهرت فيهم إلى اختصاص الحضارة العربية بالنقل دون الإبداع، وحببت إليهم أن يميزوا عليها حضارات الأمم الآرية - ولو كانت شرقية - بملكة الإبداع والتفكير الحر، ولا سيما في المباحث النظرية التي يراد بها العلم للعلم، ولا يراد بها العلم للتطبيق أو للانتقاع به في مرافق المعيشة؛ لأن تمييز الشرقيين الآريين ينتهي إلى تمييز العنصر الأوروبي في أصوله الأولى، وهي الدعوى التي يسوغ بها سيادته على أمم العالمين.

وقال منهم قائلون: إن هذه السمة - سمة النقل - لازمت الجنس العربي منذ كان له تاريخ متصل بتاريخ العالم في أقدم العصور، فالسمريون سبقوا الأمم العربية فيما بين النهرين، وبلغوا شأوا عظيما من الحضارة والعمران تدل عليه الآثار التي بقيت بعدهم، ولا تزال فضلة منها كافية لتقديرها أحسن تقدير؛ فلا جرم كان البابليون الكلدانيون مسبوقين إلى حضاراتهم فيما بين النهرين، ولم يكونوا فيها سابقين ولا مبتدعين.

ولما تجدد ظهور العرب بعد الإسلام كانت لهم حضارة، ولكنها كانت كذلك حضارة منقولة، ولم تكن بالحضارة المبتدعة على أيديهم، وثبتت سمة النقل بإحصاء أسماء العلماء والمفكرين الذين نهضوا بأمانة الثقافة في ظل الدولة العربية، فإنهم كلهم - إلا القليل منهم - كانوا من الشعوب الأعجمية التي دانت بالإسلام، ولم يكونوا من العرب الأصلاء، وتلك هي الحجة التي يستند إليها دعاة العصبية الأوروبية في تجديد الأمم التي لا تتوشج بينها وبين الأوروبيين واشجة قرابة، من مزايا الإبداع والتفكير.

وهذا الكتاب - فيما نرى - هو موضع الفصل في هذه الدعوى الشائعة، أو هو على الأقل موضع الإشارة إلى البيئة الراجحة والبيئة المرجوحة من أقوال دعاتها؛ لأن تمحيص المزايا العربية هو قوام الكلام على آثار العرب في الحضارة الأوروبية.

وأول ما يوجب التشكيك في هذه الدعوى أن نسأل: أين هي الحضارة التي أبدعت ولم تنتقل؟ وأين هي الحضارة التي يقال عن جميع علمائها: إنهم من عنصر محض خالص ينتمون إليه ولا يمتزج بالعناصر الأخرى؟

فالإغريق نقلوا قبل أن يبدعوا، وعلماؤهم - كما أشرنا إلى ذلك في غير هذا الموضع - قد نبغوا في آسيا الصغرى وجزر الأرخبيل وصقلية والإسكندرية وفلسطين والشام وتخوم العراق، ولم ينحصر نبوغهم في مكان واحد يقال إنه هو موطن العنصر الخالص الذي لا يشوبه عنصر دخيل.

ويصدق هذا على الهند وفارس والصين، كما يصدق على أية أمة من سلالات الأوروبيين المحدثين.

ولا شك أن السمريين الأقدمين كانوا سلالة أخرى غير السلالة العربية؛ لأنهم يخالفونها في معدن اللغة وخصائص المزاج، ولكن الجزم بمنشئهم الأصيل أمر لم ييسر للباحثين إلى يومنا هذا؛ فقد تباين القول في منشئهم حتى قال أناس: إنهم من المغول، وقال آخرون: إنهم من المصريين، وقال غير هؤلاء وهؤلاء: إنهم أوروبيون منحدرون من الشمال.

إلا أن القول بأن العرب الذين وفدوا إلى بلادهم لم يبدعوا شيئا غير ما أبدعه السمريون هو محض تخمين وتظنين؛ لأن العالم لم يتلق عن السمريين أثرا من آثار حضارتهم في حينها، ولما اتصلت العلاقة بين بلادهم وما جاورها كانت السمات العربية ظاهرة في معدن اللغة، وعادات الاجتماع، ومزايا التفكير؛ فلا موضع هنا للجزم بأن العرب نقلوا ولم يبدعوا، وأن السمريين قبلهم أبدعوا ولم ينقلوا، مع جهلنا كل الجهل بما أبدعوه وما نقلوه.

أما في العهد الإسلامي فقد اشتركت الأمم الأعجمية حقا في أمانة الثقافة، وكان لفضلائها قسط عظيم في مختلف العلوم والدراسات، ولكنها لم تنهض هذه النهضة إلا بعد ظهور الإسلام فيها، ولم تكن لها في إبان مجدها القديم فضلة على العنصر العربي في الدراسات النظرية التي يراد بها العلم للعلم، ولا يراد بها العلم للتطبيق أو للانتفاع به في مرافق المعيشة.

وكل نظر صحيح في هذه المسألة يوجب الشك في السبب الذي يردها إليه دعاة العصبية العنصرية، وهو العجز الأصيل في تفكير العربي، وقلة استعداده للبحث الفلسفي، والدراسة النظرية، والاهتمام بالمعرفة والاستطلاع لغير الكسب والانتفاع، مثال ذلك: أن الذين جمعوا الحديث في أول حركة الجمع كانوا من الأعاجم، وكانوا أقلهم من العرب الأصلاء، ولم يقل أحد قط: إن العربي تعوزه ملكة الرواية وحفظ الأنساب والإسناد، وهو الذي وعى بالمحافظة من أنسابه وإسناده ورواياته ما لم يدخل في وعي أمم كثيرة من أمم البداوة أو الحضارة .

فلا بد من الرجوع إذن إلى سبب غير السبب العنصري المزعوم لتعليل القلة الملحوظة في عدد العلماء من العرب الأصلاء في بعض العصور.

وأدعى من هذا إلى البحث عن سبب غير ذلك السبب، أن العرب الأصلاء قد اشتغلوا بالفلسفة والحكمة في الأندلس، وعلى عهد العلويين وأواخر العباسيين، وأن تاريخ الثقافة العربية يشتمل على أناس، مثل: ابن الهيثم، والحسن بن أحمد الهمداني (المتوفى سنة 334) صاحب كتاب سرائر الحكمة، وأنساب حمير، وهو محيط بمباحث الفلسفة عن أصل العالم، وقواعد النطق والكلام، ومثل ابن النضر القاضي الذي قال فيه أبو الصلت في رسالته عن منجمي مصر:

أما المنجمون الآن بمصر فهم أطباؤها كما حذيت النعل بالنعل، لا يتعلق أكثرهم من علم النجوم بأكثر من زائجة يرسمها ومراكز يقدمها، وأما التبحر ومعرفة الأسباب والعلل والمبادئ الأول فليس منهم من يرقى إلى هذه الدرجة، ويسمو إلى هذه المنزلة، ويحلق في هذا الجو، ويستضيء بهذا الضوء، ما خلا القاضي أبا الحسن علي بن النضر المعروف بالأديب، فإنه كان من الأفاضل الأعيان المعدودين من حسنات الزمان.

وفي كتب التراجم والسير - ولا سيما أخبار الحكماء للقفطي - خلاصات طيبة عن كثير من الفلاسفة والحكماء ممن لم يرزقوا الشهرة في صدر الإسلام، وقد اشتهر مع هذا رجال كالكندي، ومحمد بن إبراهيم الفزاري، وأبناء موسى بن شاكر الثلاثة؛ محمد وأحمد والحسن، في العهد الذي برزت فيه أسماء العلماء من الغرباء عن السلالة العربية.

ولا يذهب بنا البحث عن سبب القصور العنصري إلى بعيد؛ فإن الأسباب كثيرة مكشوفة قريبة التناول لمن يريد أن يراها، ومنها أن الأعاجم سبقوا العرب إلى صناعة الكتابة؛ لأن العرب كانوا في صدر الإسلام أصحاب قيادة ورئاسة، شغلتهم الفتوح وسياسة البلدان المفتوحة عن دراسة العلوم التي يغني عنهم فيها أعوانهم من الأتباع والمرءوسين.

ومن تلك الأسباب أن الأمم الطارئة على الإسلام كانت أحوج إلى تعلم اللغة والفقه والبحث عن مصادرها، وإلى الاستمساك في بلادهم النائية بعروة الدين لا تربطهم بالدولة عروة سواه.

ومنها أن الدولة العباسية قامت على الأعاجم ، فقربتهم وتعهدتهم بالمكافأة والتشجيع، فأقاموا على البحث والعلم وهم على ثقة من حسن الجزاء.

ومنها أن عدد الفضلاء الأعاجم هو عددهم بالقياس إلى جميع أفراد الأمم التي ينتمون إليها، أما عدد الفضلاء من صميم العرب، فهو عددهم بالقياس إلى الفاتحين الراحلين عن الجزيرة العربية، وهم قلة صغيرة إلى جانب الذين تخلفوا بعدهم في البادية على نحو معيشتهم الأولى.

ومنها أن الجدل والمناظرة من لذات الأمم المغلوبة؛ لأنها تلتمس فيها الغلب الذي فاتها من جانب السيادة والقيام على العروش، فالقصور العنصري سبب لا تلجئنا إليه الحقائق ولا تزكيه عند المنصفين.

أما الثابت من هذه الحقائق فهو أن الدفعة التي أحيت الحضارة في رقعة الدولة الإسلامية قد جاءت من السلالة العربية، وأن حضانة الدولة الإسلامية هي التي سمحت ببقاء ما بقي من حضارة الفراعنة والإغريق والفرس والهنود، ولولا قوة «موجبة» في العبقرية العربية لما جاءت تلك الدفعة، ولا تيسرت تلك الحضانة.

ليس كل ما انتقل على أيدي الحضارة الإسلامية عربيا محضا في الأصول والفروع، ولكن حسبها أنه لم ينقطع على أيديها، فاتصلت بفضلها وشائجه بالتاريخ القديم والحديث، فحفظت تراث الإنسانية كلها، وزادت عليه، ونقلته إلى من تلاها. وكل حضارة صنعت ذلك فقد صنعت خير ما يطلب من الحضارات، ومن طلب إليها ألا تورث الناس إلا شيئا جديدا من ابتداعها فقد طلب إليها أن تلغي كل ما تقدمها، أو هو قد طلب إليها ما يناقض الحضارة في فضيلتها الكبرى، وهي فضيلة السماحة والحرص على تراث بني الإنسان. وفيما يلي بعض ما حملته من أمانة الحضارة إلى العالم الحديث.

الطب والعلوم

أشاد هوميروس في الأوديسا بمهارة الأطباء المصريين، وقال هيرودوت غير مرة: إنهم كانوا يعالجون أنواعا شتى من الأمراض يختص كل منهم بمرض يبرع في علاجه، وروى أن قورش أرسل إلى مصر في طلب طبيب للعيون، وأن دارا كان عظيم الإعجاب بهم، كثير الثناء عليهم. وكان الإغريق يعرفون اسم «أمحوتب» رب الحكمة في مصر القديمة، ويسمونه بلغتهم أموثيس، وقد نقلوا عن الطب المصري كثيرا من العقاقير، كما نقلوا آلات الجراحة بغير تبديل.

وتلقى الإغريق شيئا من الطب الكلداني كما كان في عصوره القديمة مزيجا من السحر والتعويذ والعلاج.

ثم دارت دورة الثقافة الإنسانية على أتمها في هذه الصناعة التي يحتاج إليها جميع الناس، فأعاد الإغريق ما أخذوه وما زادوه إلى المصريين في عهد مدرسة الإسكندرية، وإلى الكلدان والسريان في أواخر الدولة الرومانية الشرقية، وكان في ذلك الحين حصة من تراث الأديرة وكهانها يتدارسه من يتدارسون العلوم باليونانية أو اللاتينية، وكان معظمهم يومئذ من رجال الدين.

واستعان الفرس بأطباء السريان والروم، فأنشئوا المدرسة الطبية والمستشفى المشهور بجنديسابور، وكان عليه معول الشعوب القريبة كلها في إتمام معارفهم الطبية، والتوسع في الاطلاع على فنون العلاج عن سائر الأمم، ومن تلاميذه النابهين بين أطباء العرب الحارث بن كلدة الذي تعلم الطب في الجاهلية وأدرك الإسلام.

وقد عرف العرب التطبيب في أقدم عصور الجاهلية على طريقة البداوة في مزج الطب والكهانة، وعلاج الأمراض بالوسائل البدائية، فكان لكل قبيلة عرافها الذي يستشار في كل ما حزبها من الأمور، ومنها العلل والشكايات.

جعلت لعراف اليمامة حكمه

وعراف نجد إن هما شفياني

وكان طلب هؤلاء العرافين يخلط بين الرقى والتبخير وتعاطي الأدوية التي تقترن بالعزائم والتعاويذ، ومع العرافين أطباء مختصون بالعلاج لا يزاولون الكهانة، ولا يموهون على المرضى باسم الجن أو الأصنام، ويعالجونهم بالفصد والكي والحجامة والحمية، وبعض العقاقير والأعشاب التي تنبت في بلاد العرب، أو تجلب من الهند والصين.

ووصايا هؤلاء الأطباء تدل على خبرة حسنة بتصحيح الأجسام كما قال الحارث بن كلدة: «من سره البقاء ولا بقاء؛ فليباكر الغداء، وليخفف الرداء، وليقلل غشيان النساء.»

وسأله معاوية: ما الطب يا حارث؟ فقال: الأزم يا معاوية! يعني الجوع. وكان ينهى عن الاستحمام بعد الطعام، ويوصي بالتخفيف من الديون والهموم. وكانت لهم طريقة عملية ناجعة في التماس الدواء لما استعصى عليهم دواؤه، وهي أن يخرجوا المريض إلى طريق القوافل ليراه من أصيب بمثل مرضه، ويصف له الدواء الذي شفاه.

ويبدر لنا أن اشتغال العرب الطويل برعي الماشية قد باعد بينهم وبين طب الكهانة والخرافة، وقارب بينهم وبين طب التجارب العملية؛ لأنهم راقبوا الحمل والولادة والنمو وما يتصل به من الأطوار الحيوية، وشرحوا الأجسام فعرفوا مواقع الأعضاء منها، وعرفوا عمل هذه الأعضاء في بنية الحيوان نحوا من المعرفة السليمة، فافتربوا من الإصابة في تعليل المرض والشفاء.

وجاء الإسلام فقضى على الكهانة، وفتح الباب للطب الطبيعي على مصراعيه؛ لأنه أبطل المداواة بالسحر والشعوذة، ولم يحدث في مكان الكهان طبقة جديدة تتولى العلاج باسم الدين، بل سمح النبي - عليه السلام - باستشارة الأطباء ولو من غير المسلمين، فلما مرض سعد بن أبي وقاص في حجة الوداع عاده النبي وقال له: إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضر بك قوم وينتفع آخرون، ثم قال للحارث بن كلدة: «عالج سعدا مما به» والحارث على غير دين الإسلام. وذكر القرآن لقمان الحكيم:

ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ، ومنها: التطبيب، أو هي الطب قبل سائر ضروب الحكمة، فجعل الإسلام هذه الصناعة نعمة يشكرها من أسبغها الله عليه، واتخذها وظيفة معترفا بها ولو لم تكن من أعمال المتدينين.

لهذا كثر اشتغال المسيحيين بالطب في ظل الدولة الإسلامية، ونبغ الأطباء بين نصارى المشرق، في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة الغربية تحرم صناعة الطب؛ لأن المرض عقاب من الله لا ينبغي للإنسان أن يصرفه عمن استحقه، وظل الطب محجورا عليه بهذه الحجة إلى ما بعد انقضاء العهد المسمى بعهد الإيمان، عند استهلال القرن الثاني عشر للميلاد، وهو إبان الحضارة الأندلسية.

وقد دعي إلى الامتحان في بغداد نحو تسعمائة طبيب على عهد المقتدر بالله، وهم غير الأساتذة الثقات الذين تجاوزوا مرتبة الامتحان، وهي عناية بالطب والصحة لم تشهدها قط حاضرة من حواضر التاريخ القديم.

ومن هذه الكثرة في عدد الأطباء ومعلمي الطب يتبين لنا أن الحاجة إلى دراسة الطب والعلوم كانت حاجة عمران كامل، ولم تكن حاجة أفراد أو طوائف محددة.

فمن الجائز في بداية الأمر أن الملوك احتاجوا إلى الأطباء البارعين ، فاستقدموا إليهم من ترامت إليهم سمعتهم بالقدرة والدراية، ومن الجائز كذلك أن بعض الرهبان أو العلماء في طوائف السريان والروم كانوا ينقطعون لدراسة العلم فيما انقطعوا له من صنوف الدراسات، ولكن العاصمة لا تتسع لأكثر من ألف طبيب في وقت واحد ما لم تكن الحاجة إلى الطب والعلم حاجة عمران واسع الأطراف.

وقد كان السريان والروم في أماكنهم، وكان معهم أقوامهم وذووهم وكتبهم وودائعهم في ظل القياصرة والأكاسرة، فلم يتسع نطاق المعرفة هذا الاتساع، ولم يبلغ ارتقاء المعيشة في عهد الحضارة الرومانية أو الفارسية هذا المبلغ، وإنما الجديد في الأمر هو التفاعل الطيب في بنية المجتمع مع قيام الدولة الصالحة التي نهضت بها العبقرية الإسلامية، وتكفلت بها سماحة الدين الجديد.

ولم تكن مزاولة الصناعة وحدها هي الغرض المقصود من هذه النهضة الواسعة، وهذا التعليم المستفيض؛ لأن أشهر الأطباء كانوا يضيفون إلى علم الطب علما آخر كالفلسفة أو الهندسة أو الفلك أو الكيمياء، وكانوا يؤلفون الموسوعات ويطلبون البحث في أمهات هذا العلم حيث كان.

وقد كان بعض الدراسة كافيا لمزاولة الصناعة في تلك العصور، ولكنهم طلبوا العلم للعلم؛ فلم يقنعوا بما وجدوه من كتب الإغريق الأقدمين أو كتب الفرس والهنود، ورجعوا إلى كل مظنة من مظان التوسع في هذه البحوث، فتساوى بحثهم عن كتب الطب، وبحثهم عن كتب الهندسة والنجوم وسائر المعلومات، ووضعوا الكتب فيما قرءوه وترجموه؛ فإذا هو موسوعات تشمل «الوصفة» الهندية إلى جانب الوصفة العربية أو الفارسية أو اليونانية، وإذا هي مباحث تهذيب واستقصاء، وليست متاجر أرباح.

ومن موسوعات الطب الإسلامية ما لم يوضع له نظير في الضخامة والتمحيص على قدر أسباب التمحيص في زمانه، وقد ترجمت كلها إلى اللاتينية، فنقلت هذه الصناعة بين أطباء أوروبا من حال إلى حال، ولم يضارع مؤلفي العربية فيها أحد من علماء الأوروبيين إلى مطلع العصور الحديثة مع شغف الأوروبيين أخيرا بادعاء ملكة العلم، واتهام الشرقيين بأنهم لا يطلبون العلم إلا للصناعة وأرباحها، فعكست الآية هنا، وأصبح أطباء أوروبا يقرءون كتب العربية ليستفيدوا منها في مزاولة الصناعة وكسب الأموال، وتشابهوا في ذلك جميعا ما لم يكونوا من الرهبان والقسوس الذين انقطعوا عن الدنيا، فلا يجهرون بطلب المال من صناعة الطب ولا غيرها من الصناعات.

فترجم كتاب القانون لابن سينا في القرن الثاني عشر - وهو موسوعة جمعت خلاصة ما وصل إليه الطب عند العرب والإغريق والهنود والسريان والأنباط - وترجم كتاب الحاوي للرازي سنة 1279، وهو أكبر تلاميذ الرازي بعد موته، لأنه عمل لا يضطلع به الأفراد.

وترجمت كتب ابن الهيثم في ذلك العصر، فكان عليها معول الأوروبيين اللاحقين جميعا في البصريات.

وظهر من برامج جامعة لوفان المحفوظة أن كتب الرازي وابن سينا كانت هي المرجع المعول عليه عند أساتذة تلك الجامعة إلى أوائل القرن السابع عشر، وجاء المدد من الأندلس العربية، فأمد أوروبا بمرجعها الأكبر في الجراحة وتجبير العظام، وهو كتاب «التعريف لمن عجز عن التصريف»، لأبي القاسم خلف بن العباس، وقد طبع باللغة اللاتينية في القرن الخامس عشر، وكان قبل طبعه دروسا متداولة بين أبناء الصناعة يعتمدون عليها في الأعمال الجراحية، ولا سيما فتح المثانة وإخراج الحصاة، وقال العالم الطبيعي الكبير هاللر في رواية جوستاف لوبون: إن كتب أبي القاسم كانت مرجع الجراحين جميعا بعد القرن الرابع عشر للميلاد، وقد ترك كتيبا صغيرا عن الآلات الجراحية التي تستخدم في العمليات على اختلافها، مع توضيحها بالأشكال وطرائق الاستخدام.

وتكاثرت المستشفيات باسم المارستانات في أنحاء الدولة الإسلامية بعد القرن الثالث الهجري، وكانت لهم طريقة لطيفة للتحقق من جودة الهواء وصلاح الموقع لبناء المستشفيات تغني عن الأساليب العلمية التي اتبعت في العصر الحاضر، بعد كشف الجراثيم والإحاطة بوسائل التحليل، فكانوا يعلقون اللحوم في مواضع مختلفة من المدينة في وقت واحد، فأيها أسرع إليه العفن اجتنبوا مكانه، واختاروا المكان الذي تتأخر فيه عوارض الفساد.

وقد تسلم العرب الطب في مرحلة من مراحله الطويلة بين النظريات القديمة والنظريات الحديثة، فكانت نظرية بقراط أن الأخلاط أربعة: دم وبلغم وصفراء وسوداء، وأن المرض هو اختلال النسبة بين هذه الأخلاط، والعلاج هو ردها إلى نسبتها الأولى، وكانت نظرية جالينوس أن الأمزجة أربعة؛ وهي: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، فمن أصيب من قبل الحرارة فعلاجه البرودة، ومن أصيب من قبل الرطوبة فعلاجه اليبوسة، وعلاج كل عرض من هذه الأعراض يقتصر على هذا القياس.

وكثر بين أطباء مدرسة الإسكندرية انتقاد هذه النظريات، ولا سيما نظرية بقراط، فأبطلها إرازسترات

Erasistratus ، ونصح لأتباعه بإهمالها وإيثار الملاحظة الدقيقة عليها، وجاء بعدهم من اكتفى في التوصيف بسؤال المريض، والمقابلة بين حالته وأحوال المرضى الآخرين، وتسجيل الظواهر والأعراض في جميع الأحوال.

فلما تناول العرب الطب كانت هذه الصناعة في المرحلة بين تناسي النظريات القديمة ونشأة النظريات الحديثة، ولم تكن العلوم في جملتها قد وصلت إلى الطور الذي يسمح بابتكار هذه النظريات، فاعتمدوا الملاحظة والتجربة، ولم يعولوا كل التعويل على التزام النظريات أو ابتكار الجديد منها، وتصرفوا في العلاج فلم يتقيدوا برأي جالينوس في علاج البرودة بالحرارة، أو الحرارة بالبرودة، بل كان منهم من يعالج البرد بالبرد في بعض الحالات، أو يجمع بين الحمية والتبريد والترطيب كما كان يفعل صاعد بن بشر، رئيس المستشفى العضدي ببغداد، وقد عرفوا العلاج بالعوض كما يؤخذ من كلامهم عن خصائص أعضاء الحيوان، فإن الدميري، صاحب كتاب الحيوان، يذكر منافع رئة الثعلب مثلا أنها تداوي الصدر؛ لأن هذا الحيوان لا يلهث إذا عدا، ويذكر غير ذلك من خصائص أعضاء الحيوان.

وسبقوا الإفرنج إلى وصف الجذام، وشرح مرضي الجدري والحصبة، وعلاج أمراض العين، وحاموا حول مذهب فرويد في الطب النفساني وعلاقته بالمسائل الجنسية على نحو تجريبي خليق بأن يحتذى في تقرير المعارف والمشاهدات، فمن ذلك أن حظية للرشيد تمطت في بعض الأيام ورفعت يدها فبقيت منبسطة لا يمكنها ردها، وعولجت بالتمريخ والدهن فلم تنتفع بهما، فلما سئل جبرائيل بن بختيشوع قال للرشيد: «إن لم يسخط علي أمير المؤمنين فلها عندي حيلة، قال له الرشيد: ما هي؟ قال: تخرج الجارية إلى ها هنا بحضرة الجميع حتى أعمل ما أريده، وتمهل علي ولا تعجل بالسخط. فأمر الرشيد بإحضار الجارية فخرجت ، فأسرع إليها جبرائيل ونكس رأسه وأمسك ذيلها كأنه يريد أن يكشفها، فانزعجت الجارية وبسطت يدها إلى أسفل ذيلها» ... فقال جبرائيل: قد برئت يا أمير المؤمنين. ولما سئل في تعليل ذلك قال: «هذه الجارية انصب إلى أعضائها وقت المجامعة خلط رقيق بالحركة وانتشار الحرارة، ولأجل أن سكون حركة الجماع يكون بغتة جمدت الفضلة في بطون الأعصاب، وما كان يحلها إلا حركة مثلها، فاحتلت حتى انبسطت حرارتها وحلت الفضلة فبرئت».

ويروى عن ابن سينا أنه دعي لعيادة فتى مريض لم يهتد الأطباء إلى علته، فأمر باستدعاء رجل من عرفاء المدينة، وتناول يد الفتى يجس نبضها ويرقب وجهه، وطلب من العريف أن يسرد أسماء الأحياء في المدينة، فسردها حتى جاء ذكر حي منها فازداد نبض الفتى، ثم سأله أن يذكر بيوت الحي، فازداد نبض الفتى عند واحد منها؛ فسأله عمن في البيت من الفتيات، وقال لأهل الفتى: زوجوه تلك الفتاة؛ فهذا هو الدواء.

وعالج أطباء العرب الجنون علاج الأمراض الطبيعية، وقد كان يسمى عند الإفرنج بالمرض الإلهي أو المرض الشيطاني؛ لأنهم كانوا يحسبونه من إصابات الأرواح أو الشياطين. •••

واقترنت بحوث العرب في الطب ببحوثهم في الكيمياء؛ فاستفاد الأوروبيون منهم كثيرا في هذا العلم المستحدث، وربما كانت فائدتهم من دروس العرب الكيمية أعظم مما استفادوه من دروسهم الطبية.

فالقلويات معروفة في مصطلحات الكيمياء الحديثة باسمها العربي

Alkali ، وماء الفضة - وهو من أهم الحوامض المستخدمة في التجارب الكيمية - لم يظهر وصفه في كتاب قبل كتب جابر بن حيان، وهو صاحب الفضل فيما عرفه الأوروبيون عن ملح النوشادر وماء الذهب والبوتاس وزيت الزاج وبعض السموم.

وقد ترجم له كتابه السبعون وكتاب تركيب الكيمياء إلى اللغة اللاتينية في أوائل القرن الثاني عشر، وظلت كتبه عمدة في هذا العلم بين الأوروبيين إلى أواخر القرن السابع عشر، فترجم كتابه الاستتمام إلى اللغة الفرنسية سنة 1672.

ونقلت كتب الرازي كما نقلت كتب جابر بن حيان، ومنها تلقى الأوروبيون تقسيم المواد الكيمية إلى نباتية وحيوانية ومعدنية، وتقسيم المواد المعدنية أدق تقسيم عرف في العصور الوسطى، ولعل التاريخ الأوروبي لم يتأثر بشيء من كشوف العرب في المعدنيات كما تأثر بكشف البارود واستخدامه في قذائف الحصار وأسلحة القتال.

وفي الطبيعيات أخرج العرب الثقل النوعي لكثير من العناصر والجواهر النفيسة، ونقلوا رأي الإغريق في الجاذبية وتعليل الثقل، وفحواه أن الأجسام الثقيلة مجذوبة إلى أصلها في السماء، ولكن البيروني شك في ذلك، ووجه إلى ابن سينا سؤاله الذي يدل على ميله إلى القول بأن الأجسام كلها مجذوبة إلى مركز الكرة الأرضية، وذلك حيث يقول: «ما الصحيح من قول القائلين: أحدهما يقول: إن الماء والأرض يتحركان إلى المركز، والهواء والنار يتحركان من المركز، والآخر يقول: إن جميعها يتحرك نحو المركز، ولكن الأثقل منها يسبق الأخف في الحركة إليه؟»

وقد مهدت هذه الآراء سبيل نيوتن إلى كشف قانون الجاذبية وتعليل الثقل على أساس العلم الحديث.

وللبيروني أيضا فضل السبق إلى درس السوائل في عيون الأرض ومرتفعات الجبال، وما تحكم به حركاتها في حالي التوازن والارتفاع، ومن رواد هذه المباحث في اللغة العربية أبناء موسى بن شاكر أصحاب كتاب الحيل، الذي يعد أصلا من أصول «الميكانيكا» قبل تطورها الأخير في عصر الآلات.

وعلى سذاجة البحوث التي انتهى إليها علم التاريخ الطبيعي قبل القرن الثامن عشر كانت مؤلفات العرب خير المراجع في هذه العلوم للأوروبيين وغير الأوروبيين؛ فإنهم جمعوا المتفرق من المعلومات القديمة عن الحيوان والنبات، وزادوا عليه، وتوسعوا فيه. فنقلوا عن الهند والكلدان واليونان والأنباط، واعتمدوا على المشاهدة في بلادهم وغير بلادهم، كما فعل ضياء الدين المالقي المعروف بابن البيطار، فقد ولد بمالقة وساح في أنحاء العالم الإسلامي، ووصل إلى أقصى بلاد الروم للبحث عن الأعشاب وأصناف النبات، وعينه الكامل الأيوبي رئيسا للعشابين بالديار المصرية، وهم يقابلون في عصرنا هذا علماء النبات وعلماء الصيدلة في وقت واحد، وألف كتاب «الأدوية المفردة»، فاستوعب فيه صفوة المعلومات التي أدركها علم زمانه في هذه البحوث.

جاء في كتاب «الحضارة الأوروبية سياسية واجتماعية وثقافية» لمؤلفيه أساتذة الفلسفة؛ جيمس وستفال توسون وفرانكلن شارلز بام وفان نوستراند : «في خلال قرنين نقل إلى العربية كل ما خلفه الإغريق من التراث العلمي على التقريب، وأصبحت بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة مراكز لامعة لدراسة العلم وتلقينه ... وأخذت المعرفة بهذه الثقافة الإغريقية العربية تتسرب إلى أوروبا الغربية في أواخر القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر.

ولم يكن تسربها من أثر الغزوات الصليبية كما سبق إلى الخاطر، ولكنه جاء من طريق صقلية إلى إيطاليا، ومن إسبانيا المحمدية إلى إسبانيا المسيحية، ثم إلى فرنسا. وتسابق الرجال من ذوي العقول اليقظى إلى بلارمة وطليطلة لتعلم اللغة العربية، ودراسة العلوم العربية، والعجيب أن معظم هؤلاء الرجال كانوا من الإنجليز،

1

مثل: أديلارد أوف بات، ودانيال أوف مورلي، وروجر أوف هيرفورد، وإسكندر نكوام، وكانت أوروبا الغربية في القرون الوسطى، وقضى بعض الطلاب سنين عدة في ترجمة الكتب العلمية العربية إلى اللغة اللاتينية ... وترجم جيرارد أوف كريمونا، المتوفى سنة 1187 في الثالثة والسبعين من عمره، واحدا وسبعين كتابا مختلفا من هذه الكتب، وقاربه في وفرة الإنتاج أفلاطون أوف تيفولي.

وعلى هذا النحو كانت أوروبا قد استولت في مستهل القرن الثالث عشر على محصول العلم الإغريقي والعربي بحذافيره، وأصبح تدريس العلم في الجامعات الحديثة من الأمور المقررة المتفق عليها، وكان أعظم علماء ذلك العصر الإنجليزي الفرنسيسكاني روجر باكون (1214-1292)، وهو لا يقصر في عظمته عن شأن البرنس الكبير، وكلاهما قد تولى التدريس في جامعة باريس، ولم ينتصف القرن الثالث عشر حتى ظهرت مجموعة هذه المعارف في سفر ضخم من تصنيف فنسنت أوف بوفيس سماه مرآة الطبيعة، وحوى فيه كل ما وسعته المعرفة البشرية في ذلك الحبل من طب وظواهر كونية وفلك وجغرافية وظواهر جوية، وكلام عن طبقات الأرض والمعادن والنبات والأحياء والتشريح ... إلخ». •••

على أن الجانب المهم من أثر هذه الموسوعات الثقافية في أوروبا لا يتوقف على تعديد المعلومات: كم «معلومة» بلغت، وكم معلومة أخذها العرب أو أخذها منهم الأوروبيون؟ وإنما المهم أن الأوروبيين تناولوا مشعل العلم من أيدي العرب فاستضاءوا به بعد ظلمة، وبلغوا به بعد ذلك ما بلغوه من هذا الضياء العميم الذي انكشفت به أحدث العلوم، ولو لم يحمل العرب ذلك المشعل شرقا وغربا لكان من أعسر الأمور أن يقدح الأوروبيون نوره من جديد، وإذا أفلحوا في قدحه فقصاراه في ثلاثة قرون أن يقف دون الشأو الذي انتهى إليه جهد الإنسان في عشرات القرون.

الجغرافيا والفلك والرياضة

يعتبر بطليموس، صاحب «المجسطي»، معلم الجغرافية الأول في العصور القديمة؛ لأن اسمه كان أشهر الأسماء التي أذاعها العرب في أوروبا بعد مولده بعدة قرون.

ومن الخطأ أن يظن أن علم الجغرافية علم يوناني في أصوله ومبتكراته لاشتهاره باسم مؤلف من كلمتين يونانيتين؛ لأن بطليموس نفسه قد اقتبس كثيرا من المصريين كما اقتبس كثيرا من الكنعانيين، وقد سبقه من اليونان جغرافيون وسياح اعتمدوا على أهل مصر وبابل فيما أثبتوه من الأصول الجغرافية التقليدية، ومنها الكلام عن النيل وإثيوبيا، وتقسيم الدنيا إلى سبعة أقاليم، ويبدو على هذا التسبيع طابع البابليين الذين تحدثوا قديما عن الكواكب السبعة، والأيام السبعة، وجعلوا التسبيع سمة من سمات الخليقة الإلهية.

فبطليموس نشأ في الإسكندرية، واقتبس فيها ما توارثه المصريون من الأرصاد والتقاويم، وأخبار الرحلات، وقصص السياح على عهد الفراعنة عما طرقوه من البرور والبحور، وقد بلغ من شيوع هذه الرحلات بين الإغريق الأقدمين أنها تطرقت إلى الإلياذة والأوديسا من شعر هومر، كما تطرقت إلى شعر غيره من فحول الشعراء.

ولصلة لا شك فيها بين علم المصريين الأقدمين وعلم الإسكندريين راجت المدرسة الجغرافية في الإسكندرية رواجا لم تبلغه في أرض الرومان ولا اليونان، فاشتهر فيها بولبيوس وبسدونيوس وثيوفان ومتلين، كما وفد إليها استرابون قبل بطليموس بنحو مائة سنة، وهذا عدا الفلكيين الذين كان لهم من البحث الجغرافي نصيب.

ويعزو بطليموس فضلا كبيرا إلى كتاب مارنيوس الصوري الذي دون في كتابه خبرة الكنعانيين وخبرة المصريين، واعتمد عليه بطليموس كثيرا من تقسيم خطوط العرض وخطوط الطول.

والواقع الذي تتفق عليه آراء المؤرخين أن أوروبا لم تطلع على جغرافية بطليموس قبل انتقالها إليها من طريق الثقافة العربية، وأنها وصلت إلى الأوروبيين مزيدة منقحة بما أضافه إليها الجغرافيون المسلمون، ولا سيما البيروني في رحلاته إلى آسيا الشرقية.

واخترع ابن يونس المصري في القرن التاسع للميلاد الرقاص، ثم توالى بعده من ضبط حركاته، وانتظام ذبذباته.

وليس أرجح من الأقوال التي ترجع بتاريخ الإبرة المغناطيسية إلى الملاحين العرب والمسلمين؛ لأن الأقوال التي ترجع بهم إلى مخترعات الصين يشوبها كثير من الشك، ومثلها الأقوال التي ترددها بين الرومان واليونان، ولم يكن باب الاقتباس مغلقا بين الصين والعرب في فنون الملاحة؛ إذ كانت السفن تغدو وتروح زمنا طويلا قبل الإسلام بين الحيرة العربية وموانئ الصين. وقد أثبت العلامة جوستاف لوبون نسبة الإبرة إلى العرب في كتابه عن الحضارة العربية، وهو إثبات له قيمته في بابه، فإن أعوزته أدلة الجزم القاطع لم تعوزه أدلة الترجيح.

وقد اشتهر في المشرق الإسلامي جغرافيون مبرزون أضافوا إلى العلم أحسن التحقيقات من طريق الأرصاد الفلكية، ومشاهد الرحلات، وتمحيص الروايات، ولكن الأندلس هي التي جعلت صفوة هذه المعلومات، وأشاعتها في الأقطار الأوروبية التي تجاورها، وكان للشريف الإدريسي خاصة أعظم الفضل في جمع هذا العمل وتجديده، وإحياء العناية به بين ذوي الشأن في زمانه.

فلما أراد روجر الثاني، ملك صقلية النورماني في القرن الثاني عشر، أن يستوفي معلومات عصره الجغرافية لم يجد من يعتمد عليه في ذلك غير الشريف الإدريسي، الذي ولد في سبتة، ودرس في قرطبة، وتطايرت شهرته في بلاد الحضارة الإسلامية والمسيحية. فوضع كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، وصنع له الملك كرة فضية - تمثل كرة الأرض - زنتها أربعمائة رطل رومي؛ ليتخذها مثالا لما يثبته من معالم الكرة الأرضية.

ولا يعرف أن أحدا سبق الإدريسي إلى بيان الحقيقة عن منابع النيل العليا، كما حفظت في الخرائط التي بقيت في بعض المتاحف الأوروبية، ومنها خريطة محفوظة بمتحف سان مرتين الفرنسي ترسم النيل آتيا من بحيرات إلى جنوب خط الاستواء، بعد أن تخبط الجغرافيون في وصف منابعه وتعليل فيضانه منذ أيام هيرودوت الملقب بأبي التاريخ.

ومن الخرائط المرسومة والآراء النظرية التي نقلت عن العرب تلقى كولمبس صورته عن الكرة الأرضية، وتخيل أن الأرض كثمرة الكمثرى المستطيلة ترتفع قمتها في الهند، وترتفع لها قمة أخرى مقابلة لها في مكان آخر يشبه إقليم الهند بمناخه وثمراته، ومحصول أرضه ومائه، وكانت الخريطة التي أوحت إليه هذه الفكرة مباشرة خريطة الكردينال بطرس الإيلي التي سماها «صورة الدنيا»

Image mundi ، واعتمد فيها على المصادر العربية ونشرها في أوائل القرن الخامس عشر قبل رحلة كولمبس بنحو ثمانين سنة، وهو فضل يحسب للعرب في كشف العالم الجديد.

ولقد كانت آراء البيروني ومروياته في علمي الجغرافية والفلك شائعة بين الأوروبيين المهذبين، ومما نقله البيروني عن أهل الهند «أن على ترابيع خط الاستواء أربعة مواضع هي جمكوت الشرقي والروم الغربي، وكنك الذي هو القبة والمقاطر لها، فلزم من كلامهم أن العمارة في النصف الشمالي بأسره»، ثم قال: «وأما اليونان فقد انقطع العمران من جانبهم ببحر أوقيانوس، فلما لم يأتهم خبر إلا من جزائر فيه غير بعيدة عن الساحل، ولم يتجاوز المخبرون عن الشرق ما يقارب نصف الدور جعلوا العمارة في أحد الربعين الشماليين، لا أن ذلك موجب أمر طبيعي؛ فمزاج الهواء الواحد لا يتباين، ولكن أمثاله من المعارف موكول إلى الخبر من جانب الثقة، فكان الربع دون النصف هو ظاهر الأمر، والأولى أن يؤخذ به إلى أن يرد دليل لغيره ...»

ومعنى هذا الكلام الواضح أن موجب العقل يقضي بوجود جانب مغمور في الجانب الغربي من الكرة الأرضية، ولكن لا يقطع بوجوده إلا بعد المشاهدة وتواتر الخبر من الثقات. وهذه هي الحقيقة التي اعتمد عليها كولمبس فاقتحم بحر الظلمات على رجاء تحقيق الفكرة المنطقية برؤية العيان.

ولو بقي الرأي الغالب على أهل أوروبا عن تسطيح الأرض كما كان قبل شيوع كتب الجغرافيين من العرب - مع إنكار الكنيسة للقول باستدارتها ودورانها - لكان من المتعذر جدا أن يسنح في ذهن كولمبس خاطر السفر إلى الغرب للوصول إلى الأقطار الآسيوية، ولكن العرب أشاعوا هذه الحقيقة في أهم الكتب الجغرافية التي ألفوها، فكتب ابن خرداذبة - المتوفى سنة 885 للميلاد - «أن الأرض مدورة كتدويرة الكرة موضوعة في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة»، وقال ابن رستة - المتوفى سنة 903: «إن الله جل وعز وضع الفلك مستديرا كاستدارة الكرة أجوف دوارا، والأرض مستديرة أيضا كالكرة مصمتة في جوف الفلك»، وأتى بالبراهين على ذلك فقال: «والدليل على ذلك أن الشمس والقمر وسائر الكواكب لا يوجد طلوعها ولا غروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل يرى طلوعها على المواضع المشرقية قبل غيبوبتها عن المغربية، ويتبين ذلك من الأحداث التي تعرض في العلو؛ فإنه يرى وقت الحدث الواحد مختلفا في نواحي الأرض، مثل كسوف القمر، فإنه إذا رصد في بلدين متباعدين بين المشرق والمغرب، فوجد وقت كسوفه في البلد الشرقي منهما على ثلاث ساعات من الليل مثلا، أقول: وجد ذلك الوقت في البلد الغربي على أقل من ثلاث ساعات بقدر المسافة بين البلدين ... إلخ»، وقال المسعودي - المتوفى سنة 956: «جعل الله عز وجل الفلك الأعلى وهو فلك الاستواء وما يشتمل عليه من طبائع التدوير، فأولها كرة الأرض يحيط بها فلك القمر، ويحيط بفلك القمر فلك عطارد إلخ.» وقال المسعودي في مروج الذهب: إن الشمس «إذا غابت في هذه الجزائر - أي جزائر الأقيانوس - كان طلوعها في أقصى الصين، وذلك نصف دائرة الأرض.»

وقد تولى العلماء غير الجغرافيين تقرير هذه الحقيقة بالأدلة الفلسفية، كما فعل ابن سينا في جوابه عن سؤال أبي حسين أحمد السهلي عن علة قيام الأرض في الفضاء وثبات الأجسام عليها؛ حيث قال: «... ينبغي حينئذ ضرورة أن تكون جميع الأجسام الثقال، حيوانا كانت أو غير حيوان، تميل بطبعها وتنجذب من جميع الجوانب كلها إلى وسط العالم.» وألم في ختام الرسالة بأقوال الأقدمين فقال: «ذهبت طوائف من القدماء إلى آراء أخرى غير ما سبق؛ فمن أصحاب فيثاغورث من قال: إن الأرض متحركة دائمة على الاستدارة، ومنهم من قال: إنها هابطة إلى أسفل، وغيرهم من ذهب إلى سكونها.»

فشيوع العلم باستدارة الأرض بفضل تداوله في الكتب العربية هو الخطوة الأولى التي تسبق كل خطوة في طريق كولمبس ومن صدق بدعوته من أبناء زمانه، ولولا هذه الخطوة لكان أهل أوروبا الشمالية أولى بكشف الدنيا الجديدة لأنهم أقرب إليها، ولهم دراية بالملاحة كدراية أبناء الشواطئ الجنوبية.

على أننا قرأنا رأيا لبعض المشتغلين باللغة والتاريخ عندنا يؤكد فيه سبق العرب إلى كشف الدنيا الجديدة بأدلة لغوية تاريخية يعتمد عليها، وأشهر من قال بذلك الأب أنستاس الكرملي صاحب البحوث الطويلة في مشتقات الألفاظ وتواريخها، فإنه يشير إلى تيار الخليج الحار في المحيط الأطلسي فيقول:

سبق العرب سائر الأمم إلى معرفة هذا التيار وخواصه، وإلى حركته من المكسيك إلى أرلندة، ومن هذه إلى تلك، فكانوا يركبونه من موطن إلى موطن بحيث كانوا يدهشون سكان جزر المانش؛ أي جزر القصدير وأهالي جزيرة أرلندة، فكانوا إذا ظعنوا إلى أنحاء المكسيك مكث بعضهم فيها، وعاد القليلون منهم إلى بلادهم راكبين متن ذلك التيار المبارك مسبحين ربهم، مباركين مسلمهم. ونعرف أنهم كانوا يقيمون في الديار التي عرفت بعد ذلك بالمكسيك من أسماء الحيوانات التي سموها بها، وهي أسام تعرف بها إلى اليوم، لكن لا يفقه أهلها معانيها ولا علماء الغرب الذين اتخذوها ...

إلى أن يقول: «وأما بعض هذه الألفاظ فمنها التمساح المسمى عندهم

Aligator ؛ فإنهم لم يعرفوا من أي لغة هي، إنما يقولون: إنها بلسان البلاد التي يعيش فيها. ولم يزيدوا على هذا القدر. أما أنها من لغتنا المصرية فمما لا شك فيه؛ لوجود العمامة والكوفية في رأسها؛ أي الألف واللام، وهي العمرة التي يمتاز بها القحطاني دون غيره ...»

وقد كنا نود أن يستند القول بوصول العرب إلى بينة أقوى من هذه البينة، لأن الواقع أن أصل تسمية التمساح بهذا الاسم الإسباني معروف؛ إذ هو مأخوذ من

El Lagarto

الإسبانية المصحفة من

lacerata

اللاتينية، بمعنى فصيلة الضب والعظاية، وإلى اللاتينية ترجع كلمة

lizard

الإنجليزية التي يسمى بها ذلك الحيوان، وكلتاهما قريب من قريب.

إلا أننا مع هذا لا نوافق الأب أنستاس الكرملي على أن كولمبس كان مدينا بالفضل في معرفة العالم الجديد لمراجع من القرن الخامس للمسيح، وذلك ما يؤخذ من مقال الأب حيث قال: «وأول من انتبه لهذا الأمر راهب اسمه برندان السائح البحار المولد ... سنة 483م، وهو من أصل شريف يرتقي إلى ملك أرلندة ... ففي عام 545م تهيأ لتحقيق ما يختلج في صدره من الأماني مع أربعة عشر راهبا من مقتحمي الأهوال، فابتنوا مركبا كبيرا ليستكشفوا ما هنالك ... وفي سنة 552 نزل برندان ورفاقه على ساحة أميركة ... ولا جرم أن كلنبس كان واقفا أتم الوقوف على خبر رحلة برندان، فتمكن من أن يقنع الملك فردينند والملكة إيزابلة بأن يوافقا على هذه الرحلة للبحث عن العالم الجديد ...»

فقصة برندان هذه من الأقاصيص التي يرتاب فيها الثقات، ولا يجدون لها أصلا مكتوبا قبل القرن الحادي عشر للمسيح، وهي التي يصح أن يقال: إنها مقتبسة من المصادر العربية؛ لأنها تحكي لنا حكاية الحوت الكبير الذي نزل عليه المسافرون وظنوه جزيرة راسية، فتحرك بهم وأوشك أن يغرقهم، وليس في القصة وصف للقارة الجديدة، بل وصفها كله خيال عن نعيم الأبرار الموعود في أرض الصالحين والقديسين.

وقد تواترت أقاصيص الجغرافيين العرب عند المغررين الذين طرحوا بأنفسهم في بحر الظلمات، فهلك منهم من هلك، وعاد منهم من عاد بأخبار تشبه الأساطير، ولا تبدو عليها مظنة الثقة والاعتماد. ومن ذلك إشارة المسعودي في مروج الذهب إلى أخبار «من غرر وخاطر بنفسه في ركوبه، ومن نجا منهم ومن تلف، وما شاهدوا منه وما رأوا».

ومنه وصف الإدريسي في «نزهة المشتاق» حيث يقول: «إنهم وصلوا - من لشبونة بعد اثني عشر يوما - إلى بحر غليظ الموج، كدر الروائح، كثير القروش، قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف، ثم فردوا قلاعهم في اليد الأخرى، وجروا في البحر في ناحية الجنوب اثني عشر يوما، فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل، وهي سارحة لا راعي لها ولا ناظرة إليها، فقصدوا الجزيرة فنزلوا بها، فوجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين بري، فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها، فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها.»

إلى أن يقول : «فاعتقلوا فيها في بيت ثلاثة أيام، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم وفيما جاءوا وأين بلدهم، فأخبروه بكل خبرهم، فوعدهم خيرا وأعلمهم أنه ترجمان الملك ... فلما علم الملك ذلك ضحك وقال للترجمان: خبر القوم أن أبي أمر قوما من عبيده بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهرا إلى أن انقطع عنهم الضوء وانصرفوا في غير حاجة ولا فائدة تجدي.»

وهذه وما جرى مجراها أقاصيص ملفقة تحيط بها الشكوك، ولا سيما قول الرواة: إن المغررين وجدوا في الجزيرة «رجالا شقرا زعرا، شعور رءوسهم سبطة، وهم طوال القدود، ولنسائهم جمال عجيب».

ولو وصل أولئك المغررون إلى القارة الجديدة لرأوا هناك ما رآه كولمبس، وعادوا بخبر أصح من هذه الأوصاف، وليس فيها جميعا ما يزيدنا على الظن بأن روادا من العرب حاولوا استطلاع بحر الظلمات؛ فلم يصلوا منه إلى نهاية، وهو ظن نستطيع أن نذهب إليه، بل نجزم به بغير حاجة إلى تلك الأقاصيص.

وأقوى من هذا التقدير دلالة على سبق العرب إلى ارتياد العالم الجديد، أن كولمبس عاد من أمريكا بذهب مخلوط بالنحاس على النحو الذي يخلط به أهل غانة الأفريقية، وبالنسبة التي يلاحظونها في هذا الخليط، وأن لغات الهنود الحمر تشتمل على كلمات أوروبية، وأقدم منها الكلمات العربية التي تتخللها مع بعض التصحيف والتحريف، ولكن قرينة الذهب أقوى وأقرب إلى الاحتمال، لأن تحقيق الزمن الذي تسربت فيه الكلمات المزعومة أمر عسير المراجع؛ إذ كانت الرحلات قد توالت بعد كشف أمريكا بين الشواطئ الأمريكية في أيام رواج النخاسة واختلاط النخاسين والعبيد بمن يتكلمون العربية في أفريقيا الغربية، وليس من السهل إثبات تواريخ الألفاظ في لغات كلغات الهنود الحمر لا تعتمد على الكتابة والتسجيل.

وأجدر بنا أن نقول كما قال البيروني: إن الأمر موكول إلى الخبر من جانب الثقة، فإن فضل العرب القائم على الحقائق في المعارف الجغرافية يغنيهم عن كل فضل قائم على الظنون.

وليس للجغرافية - بعد - من عماد تقوم عليه غير السياحة والاستقراء والأرصاد الفلكية، وفي كل أولئك فضل ثابت للعرب والمسلمين غير منسي ولا منكور.

فقد كانت السياحة فيما بين القرن العاشر والقرن السادس عشر فنا إسلاميا من فنون أهل المغرب على الخصوص، وهم قدوة الأوروبيين في هذه الشئون، ومن سياح المسلمين المشهورين أبو عبيد الله البكري، الذي ولد في مرسية، وألف كتابي «معجم ما استعجم»، و«المسالك والممالك»؛ وتوفي في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد، ومنهم الشريف الإدريسي المتقدم ذكره، ومنهم محمد بن عبد الرحيم المازني الذي ولد في غرناطة وألف «نخبة الأذهان في عجائب البلدان»، وتوفي في القرن الثاني عشر، ومنهم ابن جبير الذي ولد في بلنسية قبل منتصف القرن الثاني عشر وكتب رحلته المتداولة بين قراء العربية، ومنهم ابن بطوطة صاحب «تحفة النظار في غرائب الأمصار»، أكبر الرحالين في القرن الرابع عشر على الإطلاق.

وهؤلاء غير الرحالين الشرقيين من أمثال: المسعودي، وابن حوقل، وياقوت الحموي، والبيروني، وعشرات آخرين لم يشتهروا هذه الشهرة، ولم يتركوا بعدهم من المطولات مثل ما ترك هؤلاء.

ويدل على أثر المسلمين في الملاحة تلك الكلمات التي لا تزال محفوظة في لغات الأوروبيين بما يشبه حروفها العربية، مثل:

Tare

من طرح السفينة، و

Felouque

من الفلك، و

Calfata

من القلفطة، و

Amiral

من أمير البحر،

Arsenal

من دار الصناعة،

risk

بمعنى المغامرة في طلب المعاش من كلمات رزق،

Avala

من كلمة حوالة و

Avaare

من كلمة عوار،

Wissil

الألمانية من كلمة وصل و

Calibre

من كلمة قالب، وغير ذلك كثير ولا سيما في كلام أهل الأندلس والبرتغال.

وقد كشفت على شواطئ البحر البلطي وفي البلاد الأوروبية الشمالية أحافير شتى ترجع إلى القرون الوسطى، منها نقود إسلامية، وهي تدل على اتصال التجارة الشرقية بأطراف أوروبا في الشمال، وعلى دخول تلك الأقطار في نطاق الجغرافية الإسلامية بالمعاملة أو العيان.

وإذا كان وصول العرب إلى القارة الأمريكية قبل كولمبس مقطوع به على سبيل التحقيق، فمن المحقق أنهم وصلوا في المحيط الأطلسي إلى أمد بعيد، وانتهوا إلى جزيرة الآزور، وكشفوا سواحله إلى أقصى الجنوب.

أما المعارف الجغرافية من طريق الأرصاد الفلكية، فمن مآثر العرب فيها أنهم قاسوا محيط الكرة الأرضية في عهد المأمون، ثم قاسوه على طريقة البيروني بتقدير ارتفاع الجبال بالدقائق والدرجات؛ وأنهم صححوا خطوط الطول والعرض، وحققوا الاعتدال الشمسي، وضبطوا التقاويم، وأحكموا الأزياج، قال جوستاف لوبون في كتابه عن حضارة العرب: إن التقويم السنوي الذي أصلح في عهد السلطان ملك شاه أصح من التقويم الغريغوري الذي أتمه الأوروبيون بعد ستمائة سنة؛ لأن التقويم الغريغوري يقع فيه خطأ ثلاثة أيام في كل عشرة آلاف سنة، ولا يقع بحساب التقويم العربي غير خطأ يومين، وأنهم عرفوا مقياس خط النهار قبل الأوروبيين بألف سنة، وأنهم كشفوا الاختلاف الثالث في سير القمر الذي أغلقه بطليموس، وأنهم هم الذين عينوا الأماكن على الخرائط، واستدركوا كثيرا من الأخطاء التي وقع فيها الإغريق في درجات العرض والطول، ومنها أخطاء بطليموس الكبير، وكانت أخطاؤهم لا تتجاوز الدقائق حيث تتجاوزها أخطاء الإغريق إلى الدرجات.

ولا حاجة إلى استقصاء طويل في علم الفلك لإقرار فضل العرب فيه على الأمم الأوروبية، فإن الأسماء العربية باقية بلفظها في المعجمات الفلكية الأوروبية سواء في أسماء الكواكب والنجوم، أو أسماء المدارات والمصطلحات، ومن مئات هذه المفردات نكتفي بالقليل للدلالة على الكثير كالطرف

Altaref

وكرسي الحوزاء

Cursa

والكف

Caph

والأرنب

Armab

والعرقوب

Arkab

والسمت

Azimuth

وأدحى النعام

Azha

والبطين

Botein

وزبانتي العقرب

Zuben Hakrabi

والوزن

Wezn

والنسر الواقع

Wega

والساهور

Saros

وصدر الدجاجة

Sadr

وسعد السعود

Sadalsud

ورجل الجبار

Rigel

والزورق

Zaurek

وقرن الثور

Tauri

والراعي

Errai

والذنب

Denob ... وأمثال هذه الأسماء المحفوظة بألفاظها كثير غير ما ترجموه بالمعاني دون الألفاظ. •••

والعلاقة بين الفلك والعلوم الرياضية توجز لنا البيان عن خط الثقافة العربية من الرياضيات في جملتها. وقد تغني العناوين هنا عن التفضيلات التي تلتمس في مطولات هذا الباب؛ فإن الجبر يعرف باسمه العربي في جميع اللغات الأوروبية؛ لأن الإغريق وقفوا به عند القواعد الأولى التي أثبتها ديوفانتس

Diophantus

الإغريقي السكندري في القرن الثالث للميلاد. وقد لخص جوستاف لوبون تجديداتهم في هذه العلوم فقال: إنهم أدخلوا الخط الممارس إلى حساب المثلثات، وحلوا المعادلات المكعبة، وقد توسعوا في مباحث المخروطات، وأحلوا الجيوب محل الأوتار، وأنشئوا النظريات الأساسية لحل مثلثات الأضلاع. وروي عن بعض الثقات أن تجديدات العرب في هذه المسائل وأمثالها كانت ثورة علمية بعيدة الآثار.

وليس بالشرقيين غلو في القول إذا ارتفعوا ببعض الرياضيين الإسلاميين إلى الذروة العليا في علم الرياضة جمعاء؛ فإن الأستاذ كارل ساخاو، الذي كان أستاذا للغات السامية في جامعة فيينا، يقول عن البيروني: إنه أعظم العقول التي ظهرت في العالم.

والأستاذ لالاند الفلكي الفرنسي المشهور في القرن الثامن عشر يقول عن البتاني: إنه واحد من عشرين رياضيا ظهروا في العالم القديم والعالم الحديث.

ومن تمحيص القول في نشأة العلوم الرياضية أن نلغي منه اللغو الذي يتداوله بعض الأوروبيين المحدثين ليؤثروا الإغريق وحدهم بالفضل في ابتداع الهندسة وتطبيق الرياضة النظرية على الفلك وسائر الفنون، فقد بلغت العصبية «الأوروبية» ببعضهم أن يعزوا إلى طاليس فضل الإنباء بالكسوف قبل وقوعه، وينسوا الحقائق الحسية التي تدل على سبق المصريين والبابليين في هذه الدراسات، ومن هؤلاء من يكتب عن تاريخ الفلسفة الإغريقية قديمها وحديثها؛ كجون برنيت

Burnet ، أو يكتب خاصة عن تاريخ هذه الفلسفة من طاليس إلى أفلاطون، ويغفل عما كتبه أفلاطون نفسه في نشأة الرياضيات؛ لأن أفلاطون قرر في حوار فيدراس أن توت، الإله المصري، هو الذي اخترع الحساب والهندسة والفلك وكتابة الحروف، وكان ينعى على قومه أنهم لا يعنون بهذه العلوم عناية المصريين كما جاء في الفصل السابع من قوانينه؛ حيث قال: «إن الأحرار عليهم أن يتعلموا من هذه المسائل بمقدار ما يبذل للتعليم في مصر لعدد كبير من الأطفال حين يتعلمون الكتابة»، وإن الأطفال المصريين يتدرجون من تعلم الجمع والطرح والقسمة إلى التمرينات في قياس الأطوال والسطوح والمكعبات، ثم ختم الكلام الذي ورد في ذلك الحوار على لسان الأثيني آسفا لذلك الجهل المخجل المضحك الذي أطبق على سائر بني الإنسان في هذه الدراسات.

وقد كان إقليدس - الذي ينسب إلى صور - يتلقى العلم على تلاميذ أفلاطون في أثينا، ويسمع منهم أمثال هذا الكلام عن شغف الحكماء المصريين بالدراسات الرياضية، وسعة المجال الذي يدرسون فيه الرياضيات على الإجمال ، فلا جرم يرحل بعد ذلك إلى الإسكندرية، وينبغ بعد ذلك في هندسته نبوغا لم يسجل لأحد من الأثينيين الذين اقتصروا على معارف بلادهم في هذا الباب، ولم يرحلوا عنها إلى مصر أو بين النهرين.

طاليس نفسه قد حضر إلى مصر وقال هيرونيمس

Heronymus

الرودسي: «إنه لم يتعلم قط إلا في أيام رحلته إلى مصر واختلاطه هناك بالكهان.»

وهيرودوت هو الذي روى لنا قصة إنباء طاليس بالكسوف قبل وقوعه، وهو الذي روى كذلك أن الإغريق أخذوا آلة قياس الانتقال الشمسي والاعتدالين بالظلام من البابليين، وتواترت الأقوال في كتب التاريخ الرياضي بأن البابليين قد رصدوا الكسوف، وحسبوا له دورة تتم بعد مائتين وثلاث وعشرين دورة قمرية؛ أي في ثماني عشرة سنة وأحد عشر يوما، وطبقوا ذلك الحساب من أزمنة مجهولة قبل كل رصد منسوب إلى الإغريق.

فليس مما يليق بالعالم أن ينكر الحقيقة تعصبا لجنس من الأجناس؛ لأن العلم الصحيح وحب الحقيقة لا يفترقان. ومهما يكن من غلو الغالين في تقويم حصة الإغريق من التراث الرياضي، فالحقيقة التي لا تقبل النزاع أنهم أخذوا من الشرق قبل أن يأخذ منهم الشرق، وأن أبناء هذا الشرق هم الذين أعطوا الأوروبيين وديعة تلك الحصة كبرت أو صغرت، وزادوا عليها ما زادوه بالتنقيح والابتكار.

الأدب

كتب الأستاذ جب

Gibb

في مجموعة تراث الإسلام فصلا ممتعا عن أثر العرب في الآداب الأوروبية، استشهد فيه بكلمة للأستاذ ماكييل

Mackail

من محاضراته على الشعر قال فيها: «إن أوروبا مدينة لبلاد العربية بنزعتها المجازية الحماسية

Romance ، كما هي مدينة بعقيدتها لبلاد اليهودية ...» «وإننا - يعني الأوروبيين - مدينون لبطحاء العرب وسورية بمعظم القوى الحيوية الدافعة، أو بجميع تلك القوى التي جعلت القرون الوسطى مخالفة في الروح والخيال للعالم الذي كانت تحكمه رومة.»

ولا يقر الأستاذ جب كل هذا التعميم والإطلاق، ولكنه لا يبطله كل الإبطال، ولا ينفي الأثر الذي تركه الأدب العربي في شعر الأوروبيين ونثرهم منذ القرن الثالث عشر إلى القرون الحديثة، وإن كان يرجح أن هذا الأثر قد تسرب من طريق الإيحاء والرواية اللسانية بين المسلمين الذين كانوا يتكلمون العربية وبعض اللغات الأوروبية، وبين شعراء فرنسا الجنوبيين ممن لم تثبت معرفتهم بالعربية على التحقيق.

والذي نعتقده على أية حال أن العقل يأبى كل الإباء أن قيام الأدب العربي في الأندلس يذهب من صفحة التاريخ الأوروبي بغير أثر مباشر على الأذواق والأفكار والموضوعات، والدواعي النفسية، والأساليب اللغوية التي تستمد منها الآداب.

ويزيدنا اعتقادا لذلك أن أوروبا كانت تتلقى آثار الثقافة العربية من ثلاث جهات متلاحقة في القرون الوسطى؛ أولاها: جهة القوافل التجارية التي كانت تغدو وتروح بين آسيا وأوروبا الشرقية والشمالية من طريق بحر الخزر أو طريق القسطنطينية، وربما كانت هذه هي الطريق التي وصلت منها أطراف الأخبار الإسلامية إلى بلاد الاسكندناف.

والجهة الثانية: هي جهة المواطن التي احتلها الصليبيون وعاشوا فيها زمنا طويلا بين سورية ومصر وسائر الأقطار الإسلامية.

والجهة الثالثة: هي جهة الأندلس وصقلية وغيرهما من البلاد التي قامت فيها دول المسلمين، وانتشر فيها المتكلمون باللغة العربية.

وقد اقترنت بموضوعات الأدب العربي أسماء طائفة من عباقرة الشعر في أوروبا بأسرها خلال القرن الرابع عشر وما بعده، وثبتت الصلة بينهم وبين الثقافة العربية على وجه لا يقبل التشكيك، أو لا يسمح بالإنكار.

ونخص منهم بالذكر بوكاشيو ودانتي وبترارك الإيطاليين، وشوسر الإنجليزي، وسوفانتيز الإسباني، وإليهم يرجع الأثر البارز في تجديد الآداب القديمة بتلك البلاد.

ففي سنة 1349، كتب بوكاشيو

Boccaccio

حكاياته التي سماها «الصباحات العشرة»، وحذا فيها حذو «الليالي العربية» أو ألف ليلة وليلة التي كانت يومئذ في دور النشر والإضافة بين مصر والشام. وقد ضمنها مائة حكاية من طراز حكايات ألف ليلة وليلة، وأسندها إلى سبع من السيدات، وثلاثة من الرجال اعتزلوا المدينة في بعض الضواحي فرارا من الطاعون، وفرضوا على كل منهم حكاية يقصها على أصحابه في كل صباح تزجية للفراغ، وقد ملأت هذه الحكايات أقطار أوروبا، واقتبس منها شكسبير موضوع مسرحيته «العبرة بالخواتيم»

All is Well That ends Well ، كما اقتبس منها لسنغ الألماني مسرحيته «ناثان الحكيم».

وكان «شوسر»، إمام الشعر الحديث في اللغة الإنجليزية، أكبر المقتبسين منه في زمانه ؛ لأنه لقيه حين زار إيطاليا، ونظم بعد ذلك قصصه المشهورة باسم «قصص كانتربري»، وأدارها على محور يشبه المحور الذي اختاره بوكاشيو لقصص الديكاميرون، ومنها قصة «السيد» التي اقتبس فيها إحدى قصص ألف ليلة وليلة، واستهلها بالكلام على بلاط خان من خانات التتر أو المغول. ولم يزل الشعراء الغربيون ينسجون على هذا المنوال في نظم القصص إلى عهد لونجفلو

Longfellow ، صاحب الديوان الذي سماه «قصص خان بمنعطف الطريق».

وربما كانت صلة «دانتي» بالثقافة العربية أوضح من صلة بوكاشيو وشوسر؛ لأنه أقام في صقلية على عهد الملك فردريك الثاني الذي كان يدمن دراسة الثقافة الإسلامية في مصادرها العربية، ودارت بينه وبين هذا الملك مساجلات في مذهب أرسطو كان بعضها مستمدا من الأصل العربي، ولا تزال نسخته المخطوطة محفوظة في مكتبة السير توماس بودلي بأكسفورد.

وقد لاحظ غير واحد من المستشرقين أن الشبه قريب جدا بين أوصاف الجنة في كلام محيي الدين بن عربي وأوصاف دانتي لها في القصة الإلهية. وقد كان دانتي يعرف شيئا غير قليل من سيرة النبي - عليه السلام - فاطلع على الأرجح من هذا الباب على قصة المعراج، ووصف الإسراء، ومراتب السماء، ولعله اطلع على رسالة الغفران لأبي العلاء، واقتبس من هذه المراجع كلها رحلته إلى العالم الآخر كما وصفها في القصة الإلهية. وأكبر القائلين بالاقتباس على هذا النحو هو عالم من أمة الإسبان انقطع للدراسات العربية، وهو الأستاذ آسين بالسيوس

Asin Palacios .

وعاش بترارك في عصر الثقافة العربية بإيطاليا وفرنسا، وحضر العلم بجامعتي مونبليه وباريس، وكلتاهما قامتا على تلاميذ العرب في الجامعات الأندلسية. أما «سرفانتس» فقد عاش في الجزائر بضع سنوات، وألف كتابه «دون كيشوت» بأسلوب لا يشك من يقرؤه في اطلاع كاتبه على العبارات العربية والأمثال التي لا تزال شائعة بين العرب حتى هذه الأيام. وقد جزم برسكوت

، صاحب الاطلاع الواسع على تاريخ الإسبان، بأن فكاهة «دون كيشوت» كلها أندلسية في اللباب. •••

إلا أن الأثر الذي يفوق هذه المقتبسات الفردية جميعا هو الأثر الشامل الذي يعزى إليه أكبر الفضل في إحياء اللغات الأوروبية الحديثة، وترقيتها إلى مقام الأدب والعلم بعد أن كانت مجفوة مزدراة في حساب العلماء والأدباء، وبعد أن كان كل أدب وكل علم لا يكتب بغير اللاتينية أو الإغريقية، ولا يكاد يكتب فيها أحد غير رجال الدين ومن في حكم رجال الدين، وهم يقصرون الفهم على أنفسهم، ولا يشركون فيه جمهرة، ولا سيما طبقة السواد.

فقد كان شيوع التعليم بالعربية سببا لإهمال اللاتينية والإغريقية، وخطوة لا بد منها لإحياء اللغات الشعبية وتداول الشعر والبلاغة، والعلم من طريق غير طريق القسوس والرهبان والمنقطعين للمباحث الدينية. ويروي لنا دوزي في كتابه عن «الإسلام الأندلسي» رسالة ذلك الكاتب الإسباني، الفارو، الذي كان يأسى أشد الأسى لإهمال لغة اللاتين والإغريق، والإقبال على لغة المسلمين، فيقول: «إن أرباب الفطنة والتذوق سحرهم رنين الأدب العربي؛ فاحتقروا اللاتينية، وجعلوا يكتبون بلغة قاهريهم دون غيرها.» وساء ذلك معاصرا كان على نصيب من النخوة الوطنية أوفى من نصيب معاصريه، فأسف لذلك مر الأسف وكتب يقول: «إن إخواني المسيحيين يعجبون بشعر العرب وأقاصيصهم، ويدرسون التصانيف التي كتبها الفلاسفة والفقهاء المسلمون، ولا يفعلون ذلك لإدحاضها والرد عليها، بل لاقتباس الأسلوب الفصيح. فأين اليوم من غير رجال الدين من يقرأ التفاسير الدينية للتوراة والإنجيل؟ وأين اليوم من يقرأ الأناجيل وصحف الرسل والأنبياء؟ وا آسفاه، إن الجيل الناشئ من المسيحيين الأذكياء لا يحسنون أدبا غير الأدب العربي واللغة العربية، وإنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكثيرة بأغلى الأثمان، ويترنمون في كل مكان بالثناء على الذخائر العربية، في حين يسمعون بالكتب المسيحية فيأنفون من الإصغاء إليها؛ محتجين بأنها شيء لا يستحق منهم مؤنة الالتفاف. فيا للأسى! إن المسيحيين قد نسوا لغتهم، فلن نجد فيهم اليوم واحدا في كل ألف يكتب بها خطابا إلى صديق. أما لغة العرب فما أكثر الذين يحسنون التعبير بها على أحسن أسلوب! وقد ينظمون بها شعرا يفوق العرب أنفسهم في الأناقة وصحة الأداء ...»

وقد قال دانتي: إن الشعر الإيطالي ولد في صقلية، وشاع نظم الشعر باللغة العامية في إقليم بروفنس

؛ حيث تلتقي الأمم اللاتينية في الجنوب، فانتشر من ذلك الإقليم أولئك الشعراء الجوالون الذين عرفوا باسم التروبادور

Troubadour ، واشتق الأوروبيون اسمهم هذا من كلمة تروبر

Trobar ، وقيل في رأي بعض المستشرقين: إنها مأخوذة من كلمة «طرب» أو طروب، وإن اسم قصيدهم

Tenson «تنزو» مأخوذ من كلمة «تنازع» العربية ... لأنهم كانوا يلقون الشعر سجالا يتنازعون فيه المفاخر والدعاوى كما يفعل القوالون حتى اليوم بين أبناء البادية المحدثين، ولوحظ بين أوزانهم وأوزان الزجل الأندلسي تشابه جد قريب.

وقد ظهر الزجل قبل ظهورهم، وتغنى به المطربون، وتداوله المنشدون في البيوت والأسواق، ووجدت في أشعار الأوروبيين بشمال الأندلس كلمات عربية، وإشارات إلى عادات لم توجد بين قوم غير المسلمين، وهي: تخميس الغنائم، واختصاص الأمير بالخمس منها. •••

ولم تنقطع الصلة بين الأدب العربي - أو الأدب الإسلامي على الجملة - وبين الآداب الأوروبية الحديثة من القرن السابع عشر إلى اليوم. ويكفي لإجمال الأثر الذي أبقاه الأدب الإسلامي في آداب الأوروبيين أننا لا نجد أديبا واحدا من نوابغ الأدباء عندهم خلا شعره أو نثره من بطل إسلامي أو نادرة إسلامية، ومنهم شكسبير وأديسون وبيرون وسوذي وكولردج وشلي بين أدباء الإنجليز، ومنهم جيتي وهردر ولسنغ وهيني بين أدباء الألمان، ومنهم فلوتير ومنتسكيو وهيجو بين أدباء الفرنسيين، ومنهم لافونتين الفرنسي. وقد صرح باقتدائه في أساطير بكتاب كليلة ودمنة الذي عرفه الأوروبيون من طريق المسلمين.

ولقد تأثرت القصة الأوروبية في نشأتها بما كان عند العرب من فنون القصص في القرون الوسطى، وهي المقامات وأخبار الفروسية ومغامرات الفرسان في سبيل المجد والغرام، وترى طائفة من النقاد الأوروبيين أنفسهم أن رحلات جليفر التي ألفها سويفت، ورحلة روبنسون كروزو التي ألفها ديفوي مدينة لألف ليلة وليلة، ورسالة حي بن يقظان التي ألفها الفيلسوف ابن طفيل. وقد كان لألف ليلة وليلة بعد ترجمتها إلى اللغات الأوروبية أول القرن الثاني عشر أثر يربى على كل آثارها السماعية قبل الترجمة المطبوعة، واقترن ذلك بنقل التصانيف الأخرى التي من قبيلها، فأصبح الاتجاه إلى الشرق حركة مألوفة في عالم الأدب كما كانت مألوفة في عالم السياسة والاستعمار.

على أن المدرسة المجازية الحماسية في أوروبا في القرون الوسطى إنما هي وليدة الحياة الحماسية المجازية التي سرت إلى الغرب كله من فاتحي العرب والمسلمين بالقدوة العملية التي لا فكاك منها، ويعتقد «أبانيز» الكاتب الإسباني المشهور - كما يرى القارئ في موضع آخر من هذا الكتاب - أن أوروبا لم تكن تعرف الفروسية، ولا تدين بآدابها المرعية ولا نخوتها الحماسية قبل وفود العرب إلى الأندلس وانتشار فرسانهم وأبطالهم في أقطار الجنوب، وهو اعتقاد يعززه كثير من الأسانيد.

ولعل أقوى الأسانيد التي تعززه ذلك النموذج العسكري الجديد الذي لم يكن معهودا في أبطال الوقائع الرومانية أو الإغريقية، وذلك الغرام الملتهب الذي لم يسبق له نظير في غزل الغربيين من أهل الجنوب أو الشمال، وذلك التقديس للمعشوقة على نمط العذريين، أو على النمط الذي أجاز لمتصوفة المسلمين أن يمزجوا بين نغمة العبادة ونغمة التشبيب، ولم يكن تشبيب العاشق بالحبيب في آداب الغرب إلى هذا المقام.

وقد بلغت المفردات العربية التي أضافها الإسبان وأهل البرتغال إلى لغتهم ما يملأ معجما غير صغير، ولكن العبرة مع ذلك بدخول تلك المفردات في الحياة الاجتماعية والمقاصد النفسية، لا بمجرد دخولها في صفحات المعاجم، فإنها لم تتمثل على الألسنة إلا بعد أن تمثلت في أحوال المعيشة ونوازع الإحساس والتفكير، ومن هنا يعزى إليها من فعل الإيحاء والتوجيه أضعاف ما يعزى إليها من فعل النقل والتلقين.

الفنون الجميلة

فنان جميلان لم يكن لهما نصيب كبير في الحضارة العربية؛ وهما: التمثيل والتصوير بنوعيه، ونوعاه هما: الرسم والنحت؛ أي صنع التماثيل.

وشأن العرب في ذلك كشأن كثير من الأمم الشرقية أو الغربية، فإن التمثيل والتصوير لم يكونا في التاريخ القديم من الفنون الشائعة بين شعوب الحضارة، ولا بين البداوة من باب أولى.

وقد نشأ التمثيل حيث نشأ في بلاد الإغريق من بعض الشعائر الدينية التي كانت في موسم إله الخمر والصبوة ديونيسس

Dionysus .

وكان في أول عهده مقصورا على الرقص والغناء، ثم أضيف إليه ممثل واحد يشغل الوقت بين الرقصات والأغاني ببعض الألاعيب والتراتيل، ثم أضيف إلى الممثل الواحد زميل فزميلان، وتعددت الأدوار في العرض الواحد تبعا لهذه الزيادة وهذا التنويع، حتى نشأت الرواية المسرحية على وضعها المعروف عند قدماء الإغريق.

فالشعوب التي دخلت عباداتها الدينية الأولى من أمثال هذه الشعائر لم تخلق فيها فرصة لتطوير فن التمثيل على هذا المنوال، وربما كان في المجتمع العربي سبب آخر من الأسباب التي حالت دون تطور التمثيل من أصل اجتماعي غير أصول العبادات؛ فإن التمثيل بعض الفنون التي ترتبط بالحياة الاجتماعية أوثق ارتباط، ولا يعقل التمثيل في بيئة لم تتعدد فيها أدوار الحياة الاجتماعية على حسب اختلاف الأعمال والصناعات والمشارب والطبقات، فإنما يقوم التمثيل من الناحية الاجتماعية على التجاوب بين الأفراد والأسر كلما تعددت العلاقات، وتنوعت المطامع والنزعات، ولم يكن في مجتمع البداوة مجال كبير لهذا التجاوب الكثير بين أسرة وأسرة، وبين إنسان وإنسان، وما كان من ذاك قائما في حياتهم البدوية أو حياتهم الحضرية، فقد وجد الكفاية للتعبير عنه في القصائد والأغاني، وألعاب الفروسية، وضروب المساجلات والمفاخرات التي تتفق لهم من حين إلى حين.

أما التصوير فقد قيلت في تعليل نقصه عند العرب أقوال شتى لا تستند إلى رأي جدير بالإقناع، ومنها أن قلة التصوير من قلة الإحساس، أو قلة انطباع المحسوسات في النفس بتلك القوة التي تفيض عنها، فتلتمس لها مخرجا بالتمثيل والتجسيم.

ولما قيل: إن التصوير لم يبلغ مداه من التوسع والارتقاء في الحضارة العربية لأسباب دينية، قال المتهمون للقريحة السامية: إن تحريم الصور والأنصاب إنما هو نتيجة لضيق الحظيرة، ونضوب الحس، وليس هو بالسبب الأصيل لإعراض العرب عن رسم الصور ونحت التماثيل.

قالوا: ولولا انقطاع التعاطف الحي بين العربي وبين الحيوان لما صدف عن تشبيه الأحياء وتصويرها في الأبنية والأوراق كما صنع أبناء الأمم الأخرى في الشرق القديم.

ولكن الصحيح الذي ينساه أصحاب هذه الأقاويل، أن الشعوب الأخرى لا تعرف تعاطفا حيا بين الإنسان والخلائق الحية التي تلازمه أوثق ولا أكرم من التعاطف الذي كان بين العربي والجواد أو الناقة، أو كلب الصيد، أو ظباء الفلاة ومهاها وطيورها وسائر حيواناتها. وقلما نظم شاعر عربي في عهد البداوة قصيدة من الشعر إلا استهلها بوصف محبوب، أو وصف جمل أو ناقة وصف جواد كريم.

ولم يشبه الشعراء في أمة من الأمم القديمة جمال الأحباب والحسان بجمال المها والظباء كما فعل شعراء العرب الأسبقون ومن اقتدى بهم من الشعراء اللاحقين، وهذا ولا شك إحساس نافذ قد وجد سبيله إلى التعبير بفن من الفنون الميسورة لأبناء الصحراء؛ إذ ليس التصوير وحده وسيلة للتعبير عن الإحساس، ولا سيما التعبير في بيئة بدوية تمتنع فيها أدوات التصوير.

وجدير بالذكر في معرض الكلام على تحريم الصور، أن هذا التحريم قد دان به أناس كثيرون في آسيا الصغرى، واشتهرت به طائفة كبيرة من طوائف الكنيسة الرومانية الشرقية عرفت باسم محطمي الأصنام أو الأيقونات

Iconoclast ، وكانت دعوتها في القرن السابع مقدمة لانفصال الكنيسة الشرقية عن الكنيسة الغربية. ولم تخل الكنيسة الغربية بعد هذا الانفصال من أتباع أشداء يدينون بمذهب أولئك المحرمين. ولولا احتضان المعابد لفن النحت والتصوير لكان من المشكوك فيه أن تفي المطالب الاجتماعية وحدها في أقطار أوروبا بحاجة هذين الفنين، وحاجة المشتغلين بهما من نوابغ المصورين والمثالين.

ويجوز أن يقال في هذا الصدد: إن الفرق بين العرب والأوروبيين في تطور النحت والتصوير إنما هو فرق بين تخطيط المسجد وتخطيط الكنيسة كما توحيه العقيدتان.

فلم يكن في هذا الإسلام محل للوسطاء بين الله والإنسان، وليس فيه من ثم محل لأسرار الكهانة ومحاريبها، ولا لتجسيم الإله والقديسين، وليس بالمنظور من العبادة الإسلامية - مع هذا الاعتقاد - أن تحتضن الفنون التي تزخرف المعابد بالصور والتماثيل، وليس أفعل في تشجيع الفنون من رعاية المعبد وغيرة العقيدة، وهما قد فعلا في ترقية فن البناء بين المسلمين ما فعلته الرغبة في تمجيد القديسين من ترقية النحت والتصوير بين الأوروبيين.

فالمسجد لا يحتضن الصور والتماثيل، فلم يتسع لها المجال في الحضارة الإسلامية كما اتسع لها في الأقطار الأوروبية.

ولكنه لا يمنع البناء الجميل والقباب الفاخرة، فكان هو أساسا لفن العمارة العربية الذي ضارع أجمل فنون البناء في القديم والحديث.

وقد كانت للسليقة العربية - أو الشرقية - سمة خاصة فيه تدل على طابع مستقل عن الأساليب التي اقتبس منها العرب فنون البناء؛ فمن الخطأ أن يقال: إن الأسلوب البيزنطي هو أساس المدرسة التي اتخذت البناء في الشرق على هذا الطراز؛ لأن الطراز البيزنطي نفسه نفحة من نفحات الشرق التي خالفت بينه وبين أساليب القارة الأوروبية من قوطية أو رومانية، ولولا هذه النفحة من روح الشرق لما حدث هذا الاختلاف بين بناء بيزنطة وبناء الجرمان أو الطليان.

ومما لا شك فيه أن العرب قد اعتمدوا على فنون البناء في الأمم التي سبقتهم إلى هذه الفنون، ومنهم الفرس والروم والمصريون، وأنهم قد استعانوا بالبنائين من القبط والأرمن في كثير من العمارات، ولكن الذي لا شك فيه كذلك أن اليد الصانعة لم تكن في الحقيقة إلا الأداة المعبرة عن الروح العربية التي لا تلتبس بغيرها.

فمن ذا الذي يتملى منظرا من مناظر القصور العربية ويعزل بينه وبين رشاقة النخلة الهيفاء، وخفة الفرس الضامر، وهودج الحرم المكنون، وتناوب الحياة بين الفضاء والظلال؟ ومن ذا الذي ينظر إلى تلك الأقواس والنوافذ ولا يعقد الصلة بينها وبين الحافر تارة، والخف تارة أخرى؟ بل من ذا الذي يسمع المقابلة بين المصاريع والقوافي في الشعر العربي ولا يلمح المصدر الذهني الذي أوحى به ماثلا في الأنساق والمقابلات، أو في المربعات المتقابلة كما ظهرت في أول بناء مقدس حج إليه العرب، وهو البيت الحرام؟

فالروح العربي قد أضفى مثاله على طراز البناء المنسوب إليه بغير مراء، فلا يرى الناظر عربية ثم يخطر له أنها من وحي أوروبا، أو وحي الصين، أو وحي فارس على تشابه الطرز في بعض الصفات.

ونحسب أن هذا الطابع الصراح هو الذي منع اقتباس الطراز العربي بتفصيلاته في الأقطار الأوروبية التي اتصلت بالحضارة الإسلامية؛ لأنه إما أن يكون طراز إقليم أو طراز مسجد، وكلاهما لا يقتبس بتفصيلاته لاختلاف المناخ والعقيدة والمراسم الدينية.

ومن هذا اقتبس الأوروبيون ما وسعهم اقتباسه من طراز البناء العربي متفرقا في القصور والقلاع والأماكن التي لا شأن لها بالعقائد والمراسم الدينية.

فشاع في إنجلترا على عهد الملكة اليصابات وما بعده بعض النقوش البارزة التي أطلقوا عليها اسم النقوش العربية

Arabesque ، وبنوا قلاعهم بعد الحروب الصليبية على طراز العربي في مضاعفة الجدران وإقامة البروج ما بينها، وتخطيط الحصون المركزة، وإقامة الأبواب المنحرفة ذات الزوايا القائمة التي تحول دون استخدام الباب عند الوصول إليه لتصويب القذائف إلى الأفنية الداخلية. وقد أخذوا من الكنائس الشرقية التي تأثرت بالطراز العربي أنماطا من الزوايا والبروج المستديرة لم يكن لبناة الكنائس عهد بها في المغرب قبل الحروب الصليبية.

ولا أدل على مدى السلطان الفني الذي كان لمصنوعات العرب بين الأوروبيين من محاكاتهم لها بغير تصرف فيها دون أن يفهموا معناها، ومنها ما كان حروفا مكتوبة ينقلها الصياغ وهم لا يحسنون قراءتها؛ لأنهم حرصوا على محاكاة الزخارف والمزركشات العربية كما رأوها على الأقمشة والمعادن والأخشاب المرصعة أو المنقوشة.

وقد ذكر الأستاذ توماس أرنولد في كتاب «تراث الإسلام» أنهم عثروا في أرلندة على صليب من مصنوعات القرن التاسع - على الأرجح - نقشت البسملة على زجاجة في وسطه بالحروف الكوفية، واشتملت كنيسة بمدينة فلورنسة في منظر تتويج السيدة العذراء على أنسجة بين أيدي الملائكة منقوشة بالحروف العربية، ودخلت الأشكال الشرقية على هذا النحو في ظهارات الصور وبين المناظر المرسومة على الجدران، فكان لها نصيب من توجيه فن الرسم عند نهضته في القرون الوسطى.

على أن العرب لم يتجافوا الصور بتة في عصور الجاهلية أو عصور الدولة الإسلامية؛ لأن أشعارهم حافلة بأوصاف الدمى والعرائس والتصاوير في الملابس والمباني والآنية، وحلى الزينة، وقصور الملوك والأمراء. وقد أشار النابغة إلى دمى الرخام حين قال:

أو دمية مرمر مرفوعة

بنيت بآجر تشاد وقرمد

وأحصى البحاثة المرحوم أحمد تيمور باشا في كتابه القيم عن التصوير عند العرب مئات الأبيات التي تدل على انتشار الرسم والنحت، ومصنوعات هذين الفنين في المباني والمصوغات والمنسوجات التي يصنعها المسلمون، وأتى على أسماء كثير من مصوري العرب الذين فرغوا لنقش الرسوم أو نحت التماثيل من المعادن والأحجار.

وليس بنا في هذا الفصل أن نتوسع في الشواهد والأمثلة التي تدل على وجود الصور والمصورين في الحضارة العربية، فإنما يعنينا هنا أن العرب لم ينفردوا بالتخلف في فني التصوير والنحت بين أمم العصور القديمة، وأنهم لم يقصروا فيهما لنقص في الحاسة الفنية أو العواطف الحيوية، وقد كان ذوقهم الفني زمنا من الأزمان قدوة للأوروبيين في مجال الفن الذي يعم القصور والبيوت والمصانع والأسواق، ولا ينحصر في دوائر الفن ومراسم ذويه.

الموسيقى

أما في الموسيقى فالاختلاف ظاهر بين الموسيقى العربية وموسيقى العصر الحديث في أوروبا، من القرن الثامن عشر إلى الآن.

ولكن هذا الاختلاف لا يرجع إلى فارق أصيل بين الفطرة العربية والفطرة الأوروبية، كما خطر لبعض المحدثين الغربيين في معرض المفاضلة بين العناصر والأجناس؛ لأن الموسيقى الأوروبية القديمة كانت على مثل هذا الفارق بينها وبين الموسيقى الأوروبية في أطوارها الأخيرة، فكانت موسيقى اليونان والرومان قائمة على الأغاني الحسية، أو على الأنغام التي تصاحب الرقص والغناء، ويتغلب فيها قصد الطرب على قصد التعبير، وكانت الألحان الأوروبية إلى ما قبل القرن الثامن عشر ألحان ترنيم وتنغيم، ولم تكن ألحان تنسيق وتنويع على الأسلوب الذي سماه المحدثون «بالهرمونية»، أو فن تناسق الألحان المختلفة.

والأوروبي الحديث مع هذا لا يطرب لموسيقى «الهرمونية» فطرة وارتجالا بغير تعليم أو تدريب، فإذا تعددت الأنغام، وتفاوتت الطبقات، واتسع نطاق التباعد بين القوافي المرددة؛ فالسامع الأوروبي يضل طريقه إليها، ويشعر بالجهد والإعياء في محاولة التوفيق بينها، وربط فواصلها، وانتظار اللازمة التي تسري بين فصولها، ولا بد له من إحاطة واسعة بمواضع الإيقاع وطبقات الأنغام حتى يسيغ تلك الموسيقى المركبة، ويغتبط بسماعها اغتباط المرء بفنون الذوق والجمال، وقد يكون على أرقى نصيب من الفن الموسيقي الرفيع، ثم يستمع إلى توقيع جديد فينفر منه حتى يسيغه ويستعذبه بعد التأمل والأناة، وفي ذلك يقول الأستاذ دوجلاس مور

Douglas Moore ، أستاذ الموسيقى بجامعة كولومبيا، في كتابه «من الأنشودة إلى الموسيقى العصرية»:

إن السامع الذي تدرب على سماع النماذج السهلة خليق أن يشعر بالانقباض إذا أحس أنه يضل طريقه عاجلا وهو يصغي إلى السيمفونية. فليطمئن إذن، ولا بأس على ذلك؛ لأن ما يتفق له من هذا القبيل يتفق لغيره على نحو من الأنحاء بالغا ما بلغ نصيبه من التدريب والاختبار؛ إذ إن قدرتنا على الانتباه المركز أضيق من أن تتسع كثيرا لتعليق الإصغاء مع صحة السماع، وأهل الصناعة أنفسهم يرتاحون للمألوف من الموسيقى فوق ارتياحهم إلى الجديد منها؛ لأن مجهودهم في الإصغاء إلى المألوف قليل بالقياس إلى الجديد، ولكن المرانة والدأب على الانتباه مع الصبر والتفهم يمهدان الطريق إلى الألفة، ويعجلان بتمهيده، فتزداد القدرة على استيعاب معاني الموسيقى الجليلة وآياتها الرفيعة أوفر مزيد ...

فالذي طرأ على الموسيقى الأوروبية الحديثة من التنويع والتركيب قد باعد بينها وبين موسيقى اليونان والرومان، كما باعد بينها وبين موسيقى العرب والشعوب الشرقية على التعميم، ولم يكن طارئا على الفطرة الأوروبية أو الفطرة الإنسانية، وإنما كان طارئا من طوارئ المعارف والمخترعات بعد التوسع في علم الصوت، وتركيب الآلات، وتلقيح الموسيقى الحسية بموسيقى العبادات، ثم بموسيقى السبحات الروحية والتأملات الفلسفية.

فقد تباعد الاختلاف بين الموسيقى القديمة والموسيقى الحديثة في اليوم الذي اتسعت فيه؛ للاشتمال على العواطف الدينية والصلوات الإلهية، وأصبح السامع يصغي إليها في محاريب العبادة وهو متهيئ للخشوع والإنابة إلى عظمة الله، والغوص في سرائر الأكوان، فلما اتسعت الموسيقى لهذه التعبيرات العليا لم يكن لها أن تضيق بتعبيرات الحكمة العميقة، والبداهة الصوفية، والنفحات العبقرية التي شاع سلطانها في أوروبا بعد وهن السلطان الديني فيها من جراء ثورات التمرد والتجديد.

وليس بعجيب من أجل هذا أن تكون بلاد الموسيقى الكنسية هي بلاد الموسيقى الهرمونية، أو بلاد الموسيقيين الذين أبدعوا في الأوبرا والسيمفوني وسائر فنون التركيب، وهي - على الأغلب - بلاد إسبانيا وإيطاليا والنمسا وألمانيا، ثم روسيا التي شاعت في كنائسها فرق الترتيل والتقسيم. وقد يلفت النظر في هذا الصدد أن الأقاليم التي انقض فيها سلطان الموسيقى الكنسية مرة واحدة - وهي أقاليم ألمانيا اللوثرية - كان نصيبها من كبار الموسيقيين دون نصيب الأقاليم التي اتصل فيها القديم بالحديث. •••

إلا أن الصلة لم تنقطع بين العرب وتطور الموسيقى الأوروبية في هذا الطريق؛ لأن الأندلس هي البلاد التي تلقت فن الأنغام على العرب، وامتزجت فيها الموسيقى الحسية بموسيقى العبادة عدة أجيال بعد زوال الدولة العربية، فكان للإنسان رقص ديني ترعاه الكنيسة، وتنعقد فيه الصلة بين موسيقى الأقدمين وموسيقى المحدثين.

ومن الحقائق المقررة أن أبناء أوروبا الغربية كانوا يتعلمون أفانين الأنغام على أساتذة من العرب الأندلسيين، وأنهم نقلوا أسماء بعض الآلات بألفاظها العربية، فبقيت في اللغات الأوروبية حتى اليوم بعد تصحيف يسير؛ فكلمة لوت

Lute

من العود، وكلمة نكر

Naker

من النقارة، وكلمة

Clef

أو المفتاح الموسيقي من أقليد، وكلمة

Rebec

من الرباب، وأزياء الفنانين التي توارثتها أوروبا بعد تبدل أسبابها قد بقيت مشابهة لأزياء المغنين حين كانوا في المغرب يتجملون كما يتجمل القيان، فيرسلون الشعر، ويطلون الخدود، ويكحلون الجفون.

على أن بعض الأوروبيين الخبراء بتاريخ الموسيقى العربية - كالأستاذ فارمر

Farmer - يرون أن العرب قد سبقوا الأوروبيين إلى نوع من الهرمونية يسمونه «التركيب»، ويعنون به توقيع النغمة الواحدة من عدة طبقات في وقت واحد، وهو غير الهرمونية كما تفهم اليوم، ولكنه خطوة إليها من طريق الترنيم المعهود.

ولا خلاف بين المؤرخين في تداول العلماء الأوروبيين لبحوث العرب في الموسيقى النظرية، فإنهم على قلة ما ترجموه من تلك البحوث قد كان منهم مئات يطلبون العلوم بمدارس قرطبة وغيرها، ومنها الموسيقى النظرية، وقد كانت الخبرة باللغة العربية شرطا من شروط الرجل المثقف بين الإسبان المسيحيين؛ فكان طلابهم في جامعة أكسفورد الإنجليزية يسخرون من العالم المشهور «روجر باكون» كلما أخطأ في الترجمة اللاتينية العربية؛ لأنهم كانوا يطلعون فيها على النص الصحيح.

وقد خيل إلى بعض النقاد الأوروبيين في الزمن الحديث أن أصوات العرب لم تكن تحتمل التفخيم والارتفاع قياسا على ما يسمعونه في الأسواق من الصيحات البدوية التي تغلب عليها الحدة و«النحافة » ... وهو تخيل كان خليقا بهم أن يعلموا مكانه من الخطأ إذا أحضروا في أذهانهم «الحداء» في الصحراء، وهو غناء العرب القديم، وفيه ما فيه من مجال للأصوات التي تملأ الفضاء، وترتفع إلى جميع الطبقات. •••

وليس بين الموسيقى العربية والموسيقى الأوروبية فرق أصيل في السلم المعتمد عند العرب والأوروبيين، إلا أن الموسيقي العربي المتشبث بالمألوفات يعتز بما يسميه ربع المقام، ويحسبه فرقا جوهريا بين أنغام الشرقيين وأنغام الأوروبيين، ولكن ملاحظة هذا «الربع» ليست شرطا للسمع في الآذان العربية، وإنكاره ليس شرطا للسمع في الآذان الأوروبية.

وقد صنع الموسيقي الحديث هانس بارت

Hans Barth

بيانا لوحظ فيه ربع المقام، وألف إيفان وشنجرادسكي

Ivan Wischnegradsky

كتابا في الربع والموسيقى الهرمونية، ووضع ألواز هابا

Alois Haba

أوبرا وتوقيعات أخرى على قاعدة الربع الملحوظ في الأغاني العربية، وصنع جوليان كاريلو

Julian Carello

قيثارا على هذه القاعدة، ولحن بها جون أبليبي

Appleby

موضوعا يدور على حديث لسقراط، وأنشأ نيقولا رمسكي كورساكوف

Korsakof

جماعة لدراسة ربع المقام منذ نيف وعشرين سنة في لننجراد. «راجع موسوعة مكملان للموسيقى والموسيقيين».

وهؤلاء عدا الموسيقيين الذين أدخلوا الأنغام العربية في تقسيماتهم المسرحية وغير المسرحية، أمثال: روبنشتين، وفليكان دافيد، وسان سنس

Saint Seans ، وقربوا بين الترنيم والهرمونية بعض التقريب.

فإذا شاعت هذه القاعدة في أوروبا ودخلت في تركيبات الآلات وتوزيع الأدوار؛ فهي أثر جديد للفن العربي يضاف إلى الأثر القديم.

الفلسفة والدين

من الآراء التي شاعت بين الأوروبيين في القرن التاسع عشر أن الأمم الشرقية تطلب العلم للمنفعة، ولا تطلبه للمعرفة والمتعة العقلية، كما كان يطلبه الإغريق في الزمن القديم.

وآية ذلك عند أصحاب هذا الرأي أن المصريين والبابليين والفرس والهنود كانت لهم علوم يتدارسونها، ولكنها كانت كلها من قبيل الصناعات التي تنفعهم في البناء والزراعة، وعلاج الإنسان والحيوان، وأن الإغريق وحدهم الذين عرفوا العلم والفلسفة كلفا بالبحث والنظر المجرد لغير منفعة مقصودة من منافع المعاش.

وهذا الرأي يروج بين الأوروبيين بغير تمحيص ولا مناقشة؛ لأنه يعجبهم ويرضي غرورهم ومصلحتهم في وقت واحد: يرضي غرورهم؛ لأنه يميزهم على الأمم الشرقية بأشرف المزايا الإنسانية، ويرضي مصلحتهم؛ لأنه يسوغ لهم استعمار الشرق واستغلاله في عصر الاستعمار والاستغلال.

ولكن الطريف في الفكرة أنها هي نفسها ليست من الأفكار الفلسفية أو العلمية التي تخلو من المنفعة والتسليم بغير سبب معقول؛ فإن العقل المطبوع على الفلسفية والبحث المجرد لا يقبل أن يتركب العقل الإغريقي طبعا وأصلا على غير التركيب الذي استقر في السلالات البشرية الأخرى، ولا يستريح إلى هذا الحكم المعتسف بغير علة يرد إليها هذا الاختلاف العجيب في أصل التركيب.

والواقع أنه لا اختلاف هناك في أصل الطبيعة بين العقل البشري في الإغريق والعقل البشري في السلالات الشرقية التي ذكروها، وإنما يقع الاختلاف لأسباب موضوعية تجوز على الإغريق كما تجوز على المصريين والبابليين والعرب والفرس والهنود.

وإنما امتاز الإغريق بالبحوث الفلسفية في زمن من الأزمان لسبب واضح: هو أن هذه البحوث كانت مباحة عندهم؛ حيث كانت تمتنع على غيرهم من أبناء الدول الشرقية العريقة، وهي لم تكن مباحة لهم لمزية أصلية في طبيعة التركيب كما وهم القائلون بذلك الرأي المتعجل العسوف، ولكنها أبيحت لهم لأن بلادهم نشأت وتطورت دون أن ينشأ فيها ملك قوي وكهانة قوية، ولو قامت عندهم الدولة القوية والكهانة القوية كما قامت في مصر وبابل لكان شأنهم في أسرار الدين والمسائل الإلهية كشأن البابليين والمصريين.

فالبلاد التي تجري فيها الأنهار الكبيرة تنشأ فيها الممالك الراسخة، وتنشأ مع الممالك كهانات قوية السلطان تستأثر بالبحث في أصول الأشياء، وحقائق التكوين، وتتولى شئون العلم والتعليم كأنها حق لها مقصور عليها لا يجوز الافتيات عليه، وإلا كان المفتئت كالمعتدي على نظام الدولة ومحراب العبادة، ومتى طال الأمد بهذه الكهانات جيلا بعد جيل، وعصرا بعد عصر تمكن سلطانها، وتشعبت دعاواها، وتلبست معلوماتها بلباس الأسرار والطلاسم، وابتعدت شيئا فشيئا من نطاق البحث الحر إلى نطاق المحفوظات والمأثورات.

ولو نشأ لليونان دولة كهذه الدولة، وكهانات كهذه الكهانات؛ لما اجترءوا على التعرض لمسائل الخلق والخالق وطبائع الكون ومكونه بين سواد الناس وجمهرة النظارة، ويسمعهم من شاء منهم بلا رقيب ولا حسيب.

إذا حدث للأوروبيين ما حدث في الشرق حين قامت في بلادهم الكهانات القوية، وبسطت سلطانها على التعليم ومعارض البحث في حقائق الدين، وأسرار الطبيعة، وقوانين الوجود، فبطلت الفلسفة والدراسات العلمية في القرون الوسطى، وحيل بين الناس وبينها إلا بإذن من رجال الدين في حدود النص المقررة كما كانوا يفهمونها، ويبيحون فهمها، واستطاعت الكهانة الأوروبية أن تفعل ذلك وهي حديثة العهد لم تبلغ من العراقة مبلغ الكهانة المصرية أو البابلية؛ إذ كانت تعد أعوامها بالعشرات أو المئات القليلة، وقد غبرت على الكهانات القديمة ألوف من الأعوام بعد ألوف.

على أن الإغريق لم يتحركوا للبحث في الأسرار الإلهية والعلوم الطبيعية إلا بهداية من أمم الكهانات التي سبقتهم إلى التدين وعبادة الخالق العظيم، يوم كانوا يجهلون قدرة الخالق، ولا يعرفون أنها صفة لإله العالم بأسره، كما عرفها الموحدون في ظل الإله الواحد العظيم.

كان في أرض الإغريق وفي جزيرة كريت أناس من السلالة الإغريقية التي تشملهم على اختلاف القبائل واللهجات، وكانت لهم حضارة يظهر من بقايا الحفر في مواضعها أنها ازدهرت قبل ميلاد المسيح بسبعة عشر قرنا على أقل تقدير، فلم تكن لهم فلسفة، ولا نبغ بينهم حكماء متفلسفون في طوال تلك القرون، وإنما نبغ فلاسفتهم على الشواطئ الآسيوية أو الجزر القريبة منها بعد احتكاكهم بالأمم الشرقية ذوات الحضارة العريقة.

ولو لم يكن لعقائد الشرقيين وعلومهم فضل في تنبيه أذهان الإغريق إلى أصل الوجود وتقديرات الفكر الإنساني الأول لعلل الأشياء، لما كان هناك معنى لظهور الفلاسفة الأولين على مقربة من تلك الحضارات، وليس بصحيح أن الإغريق قصدوا الفلسفة النظرية ابتداء منذ أخذوا في البحث عن حقائق الأشياء؛ فإن فيثاغوراس كان يمزج الدين بالحكمة، ويشرف على تنظيم الجماعات السرية التي تطمح إلى ولاية الحكومة.

وكان أكسينوفان

Xenphanes

يبشر بدين التوحيد، وينحى على تعديد الأرباب، وقد كان فيثاغوراس يؤمن كما يؤمن الهنود بتقمص الأرواح، وثنائية الخير والشر، والنور والظلام، ودورات الحياة والأزمان، ويرى أنه لا نجاة للمرء من دولاب الطبيعة الذي تقيده به تلك الدورات إلا بالرياضة والتقشف ، وخلوص النفس للمعرفة والحكمة، وكان نباتيا يحرم أكل اللحوم على طريقة البراهمة. وقد حذا حذوه في معظم آرائه إمبيدوقليس، ودخل من فلسفته الروحية في مذهب أفلاطون.

وليس أدل على الصبغة الشرقية في الفلسفة الإغريقية الأولى من غلبة علم الفلك والرياضيات على رواد هذه الفلسفة الآسيويين، ومن غلبة الصبغة الدينية على فيثاغوراس وأكسينوفان والمريدين لهذين الحكيمين، ومن عدد السبعة الذي أطلق على الحكماء السبعة السابقين، ومنهم تاليس وصولون؛ فإن المعارف الفلكية تقدمت في بابل ومصر قبل أن يتناولها الإغريق بألوف السنين، والجماعات الدينية السرية انتقلت من بلاد الكهانات القديمة إلى آسيا الصغرى وما يليها. وليس هذا كله مما يفهم منه أن السليقة الإغريقية هي التي ابتكرت البحوث الفلسفية، أو كانت هذه الفلسفة ملازمة لها في جميع العصور.

على أن المصادر الشرقية - ومنها التوراة وأقوال المصريين والبابليين - ظاهرة في أقدم المذاهب الإغريقية، وهو مذهب طاليس الذي لا يخلو مذهب فلسفي بعده من بعض آرائه؛ فهو - كما قال الشهرستاني - يرى «أن للعالم مبدعا لا تدرك صفته العقول من جهة جوهريته، وإنما يدرك من جهة آثاره، وهو الذي لا يعرف اسمه فضلا عن هويته إلا من نحو أفاعيله وإبداعه وتكوينه الأشياء؛ فلسنا ندرك له اسما من نحو ذاته، بل من نحو ذاتنا» ... إلى أن يقول: «ونقل عنه أن المبتدع الأول هو الماء ... والماء قابل لكل صورة، ومنه أبدع الجواهر كلها من السماء والأرض وما بينهما، وهو علة كل مبدع وكل مركب في العنصر الجسمان، فذكر أن من جمود الماء تكونت الأرض، ومن انحلاله تكون الهواء، ومن صفوة الماء تكونت النار، ومن الدخان تكونت السماء، ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب ...»

قال الشهرستاني: «وفي التوراة في السفر الأول مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى، ثم نظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء، ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان، فخلق منه السموات، وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر فخلق منه الأرض، ثم أرساها بالجبال. وكان ثاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية ...» •••

أما حب العلم للعلم فشأن الإغريق فيه كشأن جميع الأمم والسلالات، وحسبك أنهم سموا علم الهندسة علم «قياس الأرض» بعد تقدمه وظهور تطبيقات له غير مساحة الأرض، وتقسيم المزارع والمروج. ولعل هذا مما يشير إلى الأصل الذي اقتبسوا منه معارفهم الهندسية؛ لأن المصريين كانوا يحتاجون إلى إعادة مسح الأرض بعد الفيضان، ولم تكن باليونان حاجة إلى المساحة والتقسيم كل عام.

وإنما جاء الفارق الظاهر في أسلوب الاشتغال بالعلوم من ضعف الكهانات في الأوطان الإغريقية، وقوتها في الأوطان الشرقية، فلما ابتدأ الإغريق بحوثهم مضوا فيها طلقاء من قيود الدولة والدين، وتيسر لهم ما تعذر على غيرهم لهذا الفارق العرضي، لا لفارق في تركيب العقول وعناصر التفكير.

وليس أصعب من إثبات السلالة الإغريقية الخالصة لجميع الفلاسفة الموزعين بين آسيا الصغرى وأرض يونان وجزر الأرخبيل وصقلية والإسكندرية وتراقية، وهي تشتمل على شتى الأجناس غير الإغريق.

ومن الواضح أن فيض البحوث الفلسفية عن الإغريق لم يكن ذلك الفيض الدافق العرم الذي يحطم القيود ويقتحم السدود؛ لأن سدا من أضعف السدود التي ابتليت بها الأمم الشرقية في تاريخها الطويل قد غيض ما فاض من قرائح اليونان في بضعة أجيال معدودات؛ فانقضى عصر الفلسفة اليونانية أمام صدمة مقدونية وأخرى رومانية، وعاش الإغريق بعد ذلك في بلادهم دون أن يظهر منهم فيلسوف واحد إلى هذه الأيام.

فلا جرم تفعل الحواجز والقيود التي استلزمتها طبيعة تكوين الدولة في الأمم الشرقية مثل ما فعلته في اليونان خلال عصور الجمود والإقفار. ولا حاجة بنا إلى تفسير آخر غير هذا التفسير نغوص فيه على أصول التركيب التي لا تقبل التعليل بعلة من علل الفلسفة، أو علل الدراسة العلمية، فإنما هي عوارض من أثر البيئة والتاريخ أصابت الساميين بأسبابها المعروفة، كما أصابت الفرس والهنود أيضا وهم غير ساميين، ثم أصابت الإغريق والأوروبيين أيضا دهورا طوالا تحت سلطان الدول والكهانات، فكانوا أضيق بالبحث العلمي صدرا من شعوب الشرق جمعاء، وحسبنا من ذاك محاكم التفتيش وعقوبات الإحراق والحرمان.

ولم تكن للعرب في الجاهلية دولة قوية كالدول التي قامت بين النهرين أو على ضفاف النيل، ولكنهم عاشوا عيشة البدو الرحل في طلب الكلأ والماء، أو عيشة البدو الرحل في تجارة القوافل بين الصيف والشتاء، وأحوجتهم مطالب المعاش إلى الغزو والدفاع بغير هوادة ولا انقطاع. وما من أمة سامية أو غير سامية تقضي أيامها في أمثال هذه الشواغل ثم يتسع لها المقام لدرس الفلسفة وتحصيل المعارف النظرية التي يعين عليها الأمان والاستقرار ...

ومن ضروب التجني التي لا تحمد من العلماء أن يقال: إن العقل العربي لن يستطيع التفلسف بحال من الأحوال؛ لأن الفارابي وابن سينا مثلا كانا من سلالة فارسية على أشهر الأقوال، ولم يكونا من سلالة عربية أو سامية، كأنما كانت للفرس قبل ذلك فلسفة فارسية، أو كان لهم عذر كعذر العرب في هجر البحوث الفلسفية طوال العهود التي مرت بهم في الحضارة والعمران.

وإنما الرأي السليم الذي يقبله المنطق والعلم على السواء أن موانع الفلسفة واحدة؛ حيث كانت الأمة من مواقع الأرض، وكيفما كانت السلالة من عناصر الأجناس والأقوام؛ فالإغريق في موضع العرب لا يتفلسفون، والعرب في موضع الإغريق لا يحجمون عن الفلسفة ودراسة العلوم.

على أن يعقوب الكندي عربي أصيل لم يعرف له نسب دخيل، وفلاسفة الأندلس كانوا من العرب ولم يكونوا من الفرس أو الأوروبيين، أو كانت عروبتهم كالإغريقية التي ينتمي إليها سكان تراقية وجزر الأرخبيل وكريت وصقلية وآسيا الصغرى وجالياتهم بصور وصيدا ووادي النيل.

ولعل هؤلاء الفلاسفة الأندلسيين هم أحق الفلاسفة المسلمين بالتنويه بهم في معرض الكلام على توجه الأوروبيين إلى البحوث الفلسفية والدراسات المنطقية؛ فإن فلاسفة الشرق كالفارابي وابن سينا وغيرهما لم يذاعوا بين الطلاب الأوروبيين عامة إلا من هذا الطريق، وكان الفضل المباشر في تعريف الأوروبيين بهم لأمثال ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، وابن زهر، وغيرهم ممن زاولوا الفلسفة والطب، أو زاولوا الطب على انفراد. أما قبل ذلك فقد كان العلم بهم مقصورا على الخاصة والمتفرغين للاستبحار في العلوم.

والأوروبيون قد بدءوا بالاطلاع على فلسفة ابن سينا قبل أن يسمعوا بأسماء الفلاسفة الأندلسيين؛ لأن رايموند، أسقف طليطلة، أمر بترجمة بعض مؤلفاته إلى اللاتينية قبل منتصف القرن الثاني عشر للميلاد، ولم يكن هذا أول عهد المتفقهين من أبناء أوروبا العربية بالاطلاع على الثقافة العربية في حلقات الدرس بالجامعات الأندلسية؛ فمن تلاميذ هذه الثقافة قبل نهاية القرن العاشر رجل اشتهر بها، وعده أبناء عصره من السحرة وأصحاب الخوارق لفرط ما أدهشهم من سعة علمه، ووفرة محصوله، وهو الكاهن جربارت، الذي عرف باسم سلفستر الثاني حين ارتقى إلى عرش البابوية سنة تسعمائة وتسع وتسعين.

وجاء الفلاسفة الأندلسيون ففتحوا الباب على مصراعيه، وكان فقهاء المسيحية يبغضون أكبرهم وأشهرهم أبا الوليد بن رشد؛ لاتهامهم إياه بالنزعة المادية وإنكار خلود النفوس الفردية، لكنهم كانوا يستريحون إلى ابن باجة وابن طفيل؛ لأنهما يؤمنان بالإشراق والمعرفة التي تستلهم بالتأمل والرياضة.

وقد ظهرت توجيهات هذين الفيلسوفين المعتدلين في آراء القديس توما الأكويني وألبرت الكبير، ولم تخف مع ذلك توجيهات ابن سينا نفسه فيما كتبه ألبرت الكبير عن «المعرفة» على الخصوص، بل بقيت لابن رشد أيضا توجيهاته القوية في مدارس الفلسفة الأوروبية قرونا عدة بعد تحريم كتبه، وإشهار هذا الحرمان في العالم المسيحي كله، ولم يزل عزيز المكانة على المفكرين والمتفلسفين إلى عهد النهضة الفلسفية الحديثة بعد موته بعدة قرون.

ومن طريف ما يروى في ذلك أن الفيلسوف الألماني فردريك أوبرفيج

Friedrich Ueberweg

تصدى لتبرئته من تهمة الكفر التي رماه بها بعض المتشددين من فقهاء المسلمين، فقال: إن القرآن نزل على سبعة أحرف، وقيل: على سبعين، وقيل: على سبعمائة؛ فإذا وقف العامة عند حرفه الظاهر فلن تخلو الأحرف التي يفهمها الخاصة من موافقة بينها وبين معاني الحكمة الخفية وأسرار الفلسفة العويصة! •••

ويظن - والظن من الأوروبيين قبل الشرقيين - أن الفيلسوف الصوفي محيي الدين بن عربي كان له أثر كبير في عقول النساك والمتصوفة من فقهاء المسيحية الذين ظهروا بعده، فإنه نشأ في مدينة مرسية قبل ختام القرن الثاني عشر للميلاد، وانتقل من دراسة علوم الكلام ومذاهب الفلسفة إلى الرياضة الصوفية والإيمان بوحدة الوجود، وقد حببه إلى المسيحيين أنه وحد بين الأديان كما وحد بين حقائق الوجود، فقال:

عقد الخلائق في الإله عقائدا

أنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

وهو القائل:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

إذا لم يكن ديني إلى دينه دان

فأصبح قلبي قابلا بكل صورة

فمرعى لغزلان وديرا لرهبان

وبيتا لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه فالحب ديني وإيماني

ويرى الأستاذ آسين بلاسيوس الإسباني

Asin Palacios

أن نزعات دانتي الصوفية وأوصافه لعالم الغيب مستمدة من محيي الدين بغير تصرف كثير.

ومن المعلوم أن أول الفلاسفة الصوفيين من الغربيين، وهو جوهان أكهارت الألماني، قد نشأ في القرن التالي لعصر ابن العربي، ودرس في جامعة باريس، وهي الجامعة التي كانت تعتمد على الثقافة الأندلسية في الحكمة والعلوم. وأكهارت يقول كما يقول ابن العربي: إن الله هو الوجود الحق ولا موجود سواه، وإن الحقيقة الإلهية في جميع الأشياء، ولا سيما روح الإنسان التي مصيرها إلى الاتصال بالله، من طريق الرياضة والمعرفة والتسبيح، وإن صلة الروح بالله ألزم من صلة المادة بالصورة، والأجزاء بالكل، والأعضاء بالأجسام.

ومن هذه الفلسفة قبسات واضحة في مذاهب «سبينوزا» الذي نشأ في هولندة، وأصله من يهود البرتغال الذين أكرهوا على التدين بالمسيحية؛ فقد كان كلامه عن الذات والصفات، وتجلي الخالق في مخلوقاته، وتلقي الخلق نور المعرفة الصحيحة بالبصيرة والإلهام نسخة من فلسفة المتصوفة المسلمين مع قليل من التحوير.

وإذا جاز أن يكون أكهارت وسبينوزا قد استقيا بعض هذه المعتقدات والآراء من الأفلوطينية الإسكندرية مباشرة، فليس مما يجوز فيه الشك أن الفيلسوف المتصوف الإسباني «رايموند لول» قد اقتبس من ابن عربي خاصة في كتابه أسماء الله الحسنى؛ لأنه كان يحسن العربية، وعاش بعد ابن عربي بقرن واحد، وجعل أسماء الله مائة، وهي لم تعرف بهذا العدد في الديانة المسيحية قبل ذاك. •••

وقد تراخى الزمن بين فلاسفة الدول الإسلامية والفلاسفة العصريين، وقل من فلاسفة هذا العصر من اطلع على كتب فلاسفة الأندلس وفلاسفة الشرق الإسلامي كما يطلع على الفلسفة اليونانية القديمة في كتبها الأصيلة، ولكن الآراء الفلسفية التي قام بها أمثال الفارابي والكندي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن طفيل لا تعد غريبة كل الغرابة عن مذاهب العصر الحديث؛ لأنها لم تخل من آراء تكلم فيها أساطين الفلسفة الإسلامية وعرضوا لها إما بالإسهاب أو بالإيجاز.

فالقائلون قديما بالعقل الهيولاني والعقل الفعال يذهبون إلى قول قريب جدا من قول كانت عن ظاهرة الأشياء

، وحقيقة الأشياء في ذواتها

Noumena ، وهي الحقائق التي يستحيل النفاذ إليها بالعقل والتفكير، وإنما بحقيقتنا في ذاتها ندرك تلك المجهولات من طريق الإلهام الأدبي، وهو شيء قريب من إلهام المتصوفين.

ودافيد هيوم يقول: إن حصول الأشياء في ترتيب معين مرة أو ألف مرة لا يستلزم أن يكون السابق منها علة للمسبوق وسببا لوجوده. وهذا بتفصيله ما قد سبق إليه الغزالي حين قال في تهافت الفلاسفة: «إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر؛ فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وحز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهل، وهلم جرا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف، وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوي لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت، بل لتقدير، وفي المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون حز الرقبة، وإدامة الحياة مع حز الرقبة، وهلم جرا إلى جميع المقترنات.» ثم فصل القول في هذا على ثلاث مقامات من أدق ما كتب المفكرون في حقائق التعليل.

واتخاذ المصلحة قياسا للحقيقة مذهب عرض له ابن رشد - قبل وليام جيمز - حين تكلم في ختام «تهافت التهافت» عن الشرائع وحقيقتها ولزومها، و «أن الجميع متفقون على أن مبادئ العمل يجب أن تؤخذ تقليدا؛ إذ كان لا سبيل إلى البرهان على وجوب العمل إلا بوجود الفضائل الحاصلة من الأعمال الخلقية والعملية ... وأن الحكماء يرون في الشرائع هذا الرأي؛ أعني أن يتقلد من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسنن المشروعة في ملة ملة.

والممدوح عندهم من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة؛ حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها، مثل كون الصلوات عندنا، فإنه لا يشك في أن الصلوات تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى.

وإن الصلاة الموضوعة في هذه الشريعة يوجد فيها هذا الفعل أتم منه في سائر الصلوات الموضوعة في سائر الشرائع، وذلك بها شرط في عددها وأوقاتها وأذكارها وسائر ما شرط فيها من الطهارة ومن التروك؛ أعني ترك الأفعال والأقوال المفسدة لها، وكذلك الأمر فيما قيل في المعاد منها هو أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها».

وسبينوزا يقول بوحدة المادة والروح، وهذه هي الفلسفة التي شرحها قبله ابن جبيرول الأندلسي في كتابه ينبوع الحياة، وأقام الدليل عليها بوحدة العلة والمعلول في الطبيعة أو في بعض أجزائها، وإلا انتفى تأثير العقل في الجسد، أو تأثير الروح في المادة.

ومن المشابهات غير البعيدة أن الأقدمين يقولون بتلازم الزمان والمكان، وأينشتين يقول بأن الزمان هو البعد الرابع من أبعاد المكان.

ومنها ما يصح أن يسمى الطور الأول لمذهب التطور، وقد عبر عنه الفارابي حيث قال في آراء أهل المدينة الفاضلة مفسرا لأقوال المعلم الأول: إن «ترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم أولا أخسها، ثم الأفضل فالأفضل إلى أن تنتهي إلى أفضلها الذي لا أفضل منه. فأخسها المادة الأولى المشتركة، والأفضل منها الأسطقسات، ثم المعدنية، ثم النبات، ثم الحيوان غير الناطق، وليس بعد الناطق أفضل منه.»

وقد توسع اللاحقون في القول بالتدرج نصا، والإشارة إلى بعض المشابهة بين القرد والإنسان، فقال ابن خلدون: «انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج، وآخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لها إلا قوة اللمس فقط.

ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريجه التكويني إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إليه الفكر والروية بالفعل، وكان ذلك أول أفق الإنسان من بعده، وهذا غاية شهودنا.»

والمشهور عن ديكارت أنه إمام الفلسفة الأوروبية الحديثة، وهو مسبوق إلى ثلاث من أهم قضاياه الفلسفية فيما كتبه الغزالي وابن سينا على الخصوص؛ فإن الغزالي يقول بأن الشك أول مراتب اليقين، والشك هو مقدمة الفلسفة الديكارتية إلى البراهين اليقينية. وأول هذه البراهين اليقينية عند ديكارت هو قضيته التي يثبت بها الوجود فيقول: «أنا أفكر فأنا موجود.»

وهي بعينها قضية الإنسان المعلق بالفضاء كما عبر عنه ابن سينا حين تصدى لإثبات «الأنية»، أي وجود النفس بمعزل عن الموجودات الخارجية، فقال: إننا لو علقنا إنسانا في الفضاء لا يتصل عضو منه بعضو، ولا تقع حاسة منه على موجود لشعر بأنيته، أو شعر بذاته، وتأتي بعد ذلك مسألة الموجودات وحاجتها بعد وجودها إلى النعمة الإلهية لدوام قوة الوجود فيها، فهي لا تكسب الإيجاد مرة واحدة، بل تكسبه على التجدد بنعمة فياضة من الله جل وعلا. وهذا هو مذهب ابن سينا وديكارت بلا اختلاف. •••

ويخطئ من يرى أن كل ما تركه فلاسفة المسلمين قد نقلوه قبل ذلك بحرفه عن فلاسفة اليونان، فقد وجد من الفلاسفة الإسلاميين من تصرف واستقل برأيه، كما وجد منهم من وقف عند النقل والتفسير، وأكثرهم قد تلقوا مذاهب الأولين على أنها عمل قابل للتعديل، وليس على أنها قضية مسلمة لا يأتيها الباطل بحال.

فالغزالي، مثلا، كان على علم وثيق بأصول المنطق، وكان من أقدر المفكرين السابقين واللاحقين على مناقشة البراهين اليونانية بمثلها، أو بما يفوقها وضوحا في بعض القضايا العقلية.

وابن سينا لا يرضى على مذاهب المشائين كل الرضى؛ فيتخذ له منطقا مقابلا لمنطقهم يسميه «منطق المشرقيين»، ويقول في مقدمته: ... ولا نبالي من مفارقة تظهر منها لما ألفه متعلمو كتب اليونانيين إلفا عن غفلة وقلة فهم، ولما سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من المتفلسفة المشغوفين بالمشائين الظانين أن الله لم يهد إلا إياهم ...

وقد أخذ البيروني على أرسطو في أسئلة لابن سينا أنه يعتقد بآراء الأقدمين، «وأنه جعل أقاويل القرون الماضية والأحقاب السالفة في الفلك ووجودهم إياه على ما وجده عليه حجة قوية.»

وقال عن أرسطو: إنه يرى «أن الشكل البيضي والعدسي محتاجان في الحركة المستديرة إلى فراغ وموضع خال، وأن الكرة لا تحتاج إلى الفلك، وليس الأمر كما ذكره»، فاستصوب ابن سينا انتقاده وذكر له أعذار المفسرين، ومنها ما رواه عن تامسطيوس في تفسيره لكتاب السماء؛ إذ يوصي بأن يحمل قول الفيلسوف على أحسن الوجوه.

وأشباه هذه المتناقضات كثيرة في كتب الفلاسفة والمتصوفة وعلماء الكلام، فليس في أقوال الفلاسفة الكبار ما يسوغ رميهم بالنقل والتقيد بالمنقول، ولا نستثني منهم ابن رشد - وهو أشدهم إكبارا لأرسطو - لأنه كان يتناول بعض ما ينتقل عنه ببعض التهذيب.

وهنا مجال لكلمة تقال ويتلاقى فيها النقيضان على خطأ واحد؛ فإن الذين يثبتون أخذ الإسلاميين عن اليونان هم كالذين ينكرون ذلك إذا اعتقدوا فيه غضاضة على الآخذين، كائنا ما كان مقدار ما أخذوه، إذ لا يطلب من أمة أن تبتدع ثقافة جديدة تنقطع عن جميع الثقافات الأولى، ولا يعاب عليها أنها تحج إلى المعرفة حيثما وصلت إليها، وإنما يعاب عليها أن تنطفئ شعلة الثقافة الإنسانية في يديها، وأن تنقطع عندها السلسلة التي اتصلت من مبدأ التاريخ الإنساني إلى أن بلغتها.

وأجمل ما يذكر بالثناء للفلاسفة الإسلاميين في هذا المقام أنهم نسبوا كل مقال إلى صاحبه، ولم يسكتوا عن الإشادة بفضله كلما عرفوه وحققوه، خلافا لما جرى عليه الإغريق فيما أخذوه من علوم الحضارات الأولى، وأن الفلسفة لم تكن في العالم الإسلامي من عمل الحكماء دون غيرهم، بل كانت عملا مشاعا بين كثير من المتعلمين وأشباه المتعلمين. ومن أجل هذا دعت الحاجة إلى المناظرات في مجالس الخاصة، وكتابة الرسائل في المساجلات والردود مما لم يسبق له نظير بين اليونان معاصريهم في الزمن القديم. •••

هذه الفلسفة - أو الفلسفة الصوفية على الخصوص - هي الطريق التي ظهر منها ما ظهر من آثار التفكير الجديد في العالم المسيحي، وفي العقائد الأوروبية على الإجمال.

وربما دلت على مصدر هذه الآثار نظرة واحدة في أرقام السنين التي ازدهر فيها اللاهوت المسيحي، ونجحت فيها دعوة الإصلاح الديني، واشتدت فيها الحملة على الرهبانية، وأعقبها ذلك الترخص المطرد في قيود النسك وقيود الزواج، فلم يحدث شيء من ذلك كله قبل احتكاك أوروبا بالحضارة العربية تارة في الأندلس، وتارة في أثناء الحروب الصليبية، ولبثت المشكلات العقلية والدينية وما يرتبط بها من المشكلات الاجتماعية كامنة في البلاد الأوروبية لا تتسع لها فسحة للظهور والتماس العلاج والتعديل.

فلما توالى الاحتكاك بين المجتمع العربي والمجتمع الأوروبي، وتوالى معه الاحتكاك بين العقول والعقائد، توالى كذلك ظهور الفهم الجديد والنزعة الجديدة إلى التفسير والإصلاح على النمط الأوروبي العتيق، وجاء الباحثون الأوروبيون بما يوافق الفلسفة العربية أحيانا، ويخالفها أحيانا أخرى، ولكن المخالفة لا تنفي مصدر التنبيه، ولا تدحض الباعث على التفكير الجديد.

فالقديس توما الأكويني، أكبر فلاسفة اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى، ولد في سنة 1225، وتوفي في سنة 1274، وألف كتبه بعد أن شاعت بين الرهبان والقسوس دروس الفلاسفة الأندلسيين وفلاسفة المشرق من المسلمين، ولم يكن في كل ما كتب في الله والروح ووسائل الوصول إلى الحقيقة رأي واحد لم يتناوله ابن سينا والغزالي وابن رشد على الخصوص. وكل ما استجد من خلافاته فهو تلك الخلافات التي يقضي بها الفارق بين أصول المسيحية وأصول الإسلام.

وقد سمى المسلمون الغزالي حجة الإسلام، وسمى دانتي القديس توماس قبسا من نور السماء؛ لأنهما قاما بعمل واحد في مناقشة أرسطو وأفلاطون، وتغليب العقيدة الإلهية على مواضع الشك من الفلسفة المادية، ولكن المقابلة بين آراء الحكيمين خليقة أن تبدي لنا للوهلة الأولى أيهما صاحب السبق في الزمن والاستقلال. وعلى الرغم من ردود القديس توما؛ شاعت مذاهب العرب بين الرهبان، ولا سيما الفرنسيسكان، وتحدى عشاق هذه المواهب قرار الحرم الصريح، الذي أصدره مجمع باريس اللاهوتي سنة 1269، في حق كل من يردد كلام ابن رشد - على الخصوص - في النفس والإنسان الأول والقدم والحدوث.

واتصلت الدراسات الفلسفية والصوفية بين رجال الكنيسة، فكان من آثارها تلك الحملة القوية على نظام الرهبانية، وتعززت هذه الحملة في البيئات الدينية بحملة أخرى في البيئات الأدبية، قام بها أديب إيطالي يدين للثقافة العربية بمؤلفه الكبير الذي نسج فيه على منوال ألف ليلة وليلة، وهو «الديكامرون»، وعرض فيه الرهبنة للغمز والتشهير.

فلم ينته القرن الخامس عشر حتى كانت مسألة الرهبانية قد وصلت إلى المفترق الحاسم بين مذهبين؛ فأصدر مجمع «ترنت» (1545) قراره بتحريم الزواج على رجال الدين من جميع الرتب والدرجات، وتزوج «لوثر»، إمام المذهب الإنجيلي، براهبة كاثوليكية قبل ذلك على سبيل التحدي والاحتجاج. وكان لوثر من أكثر الناس اطلاعا على فلسفة القرون الوسطى؛ لأنه كان أستاذا للفلسفة في جامعة ويتمبرج، ولم يكن غريبا عن مناقشات علماء اللاهوت وعلماء الكلام.

ولقد ترجم لوثر التوراة إلى اللغة الجرمانية بعد أن حجرت اللاتينية على لغة الدين والعلم مئات السنين، ولم يحطم قيودها المرهقة إلا ذلك الإقبال المطرد على دراسة العربية بين من كانوا قبل ذلك منقطعين لدراسة اللاتينية، مترفعين على الكتابة بلغاتهم الوطنية. وأفرط الناشئون في الإعراض عن اللاتينية حتى شكا من إفراطهم هذا بعض الجامدين، ونعى على قومه ذلك التحول الخطير كما جاء في كتاب دوزي عن إسبانيا الإسلامية. •••

وقد أشار الأستاذ نيكولسون في كتاب «تراث الإسلام» إلى المشابهات بين أقوال الصوفية المسلمين وأقوال الصوفية الأوروبيين من الأقدمين مثل أكهارت الألماني، والمحدثين كاربنتر الإنجليزي، وتوسع في مقاله القيم في متابعة العلاقة بين صوفية المسيحية وصوفية الإسلام ... وليس العجب أن تثبت هذه العلاقة التي يستلزمها المنطق والتاريخ، ولكن العجب أن ينفيها من يعلم أن العرب أقاموا في الأندلس عدة قرون، وأن دروسهم حضرها رجال الدين والدنيا هناك، وأن كتبهم قرأها الباحثون في الأديرة والجامعات، وأن النهضة الأوروبية لم تظهر لها علامة واحدة قبل هذا الاحتكاك بينهم وبين الأوروبيين.

وللمبالغة هنا طرفان متقابلان يتساويان في الضلال عن الحق ومجافاة الإنصاف، وهما أن يقال: إن الصوفية التي تلقاها الأوروبيون عن العرب هي صوفية أجنبية لا فضل للعرب فيها، ولا تشمل في أطوائها على مزية من مزايا الروح العربية، وأن يقال من الجهة الأخرى: إنها عربية محض لا مشاركة فيها للشعوب الأخرى.

فهذا وذاك باطلان على السواء؛ لأن أشواق الروح الإنسانية قسط مشترك بين بني آدم لا تنفرد به أمة من الأمم، ولا تخلو منه أمة من الأمم، ولم تستوعبها عقيدة واحدة كل الاستيعاب دون سائر العقائد الدينية.

والصوفية العربية مازجت صوفية الهند القديمة وصوفية الأفلوطينيين بالإسكندرية، ولكنها أضافت إليها كما أخذت منها، ولا حاجة بنا إلى تعقب التواريخ والأسانيد لتقرير هذه الحقيقة البينة، فإن عناصر الصوفية الإسلامية مبثوثة في آيات القرآن الكريم، محيطة بالأصول التي تفرعت عليها صوفية البوذية والأفلوطينية، والمسلم يقرأ في كتابه أن:

ليس كمثله شيء وهو السميع البصير

فيقرأ خلاصة العلم الذي يعلمه دارس اللاهوت في كتب القديس توما حيث يقول: إن الله مباين للحوادث، وإنه يعلم بالتنزيه والإبعاد عن مشابهتها، أو يعلم «بما ليس هو»، ولا يعلم بما هو عليه في ذاته أو صفاته، أيا كان المصدر الأول الذي استقى منه القديس توما أصول هذه العقيدة.

ويقرأ المسلم في كتابه:

ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين

فيعلم ما يعلمه تلاميذ المتصوفة البوذيين حين يؤمنون بأن ملابسة العالم تكدر سعادة الروح، وأن الفرار إلى الله هو باب النجاة.

ويقرأ المسلم في كتابه أن الله:

هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم

و

كل شيء هالك إلا وجهه ، فلا يزيده المتصوفة شيئا حين يقولون له: إن الله أزلي أبدي قديم بغير زمان ولا مكان، عليم بالكليات والجزئيات.

ويقرأ المسلم في كتابه أن:

الله نور السماوات والأرض ،

ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ...

ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، فلا يزيد المتصوفة إلا التفسير حين يقولون: إن الوجود الحقيقي هو وجود الله، وإنه أقرب إلى الإنسان من نفسه؛ لأنه قائم في كل مكان يصل له كل كائن

وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .

والله يخلق ويأمر فهو فعال مريد، وليست إرادته مانعة من الخلق كما يرى الفلاسفة؛ إذ يقولون: إن الإرادة القديمة لا ينشأ منها اختيار حديث، أو مخلوق حادث

ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين .

ومما يعلمه المسلم من كتابه أن عقل الإنسان لا يدرك من الله إلا ما يلهمه إياه؛ لأنه تعالى:

يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء .

ومنه يعلم الخلاف ما بين عالم الظاهر وعالم الباطن، أو عالم الحقيقة وعالم الشريعة؛ لأنه يقرأ مثلا واضحا لهذا الخلاف فيما كان بين الخضر وموسى - عليهما السلام - من خلاف ...

فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا .

وهذه آيات بينات يقرؤها جميع المسلمين في كتابهم الذي لا يختص به فريق منهم دون فريق، وبينهم ولا شك أناس مطبوعون على التصرف، واستخراج الأسرار الخفية والمعاني الروحية من طوايا الكلمات؛ فإذا عمد هؤلاء إلى تفسير تلك الآيات وما في معانيها، فليس أيسر عليهم من الوصول إلى باب التصوف الذي شغلت به خواطر الحكماء في جميع الأجيال، وبين جميع الأجناس، وعندهم من هذا القسط وحده ما يجعلهم أصلاء في الفلسفة الربانية، ويجعل لهم فيها شيئا ينقلونه إلى الأمم غير ما استعاروه من حكماء الهند أو حكماء الإسكندرية.

أحوال الحضارة

بعض الكلمات أدل من طوال المجلدات.

ومن هذا القبيل تلك الكلمات التي تنتقل من لغة قوم إلى لغة قوم آخرين، فتدل على ما انتقل معها من أحوال المعيشة وألوان الحضارة، وتبسط لنا في قليل من المفردات ذلك الفارق البعيد في شئون الأمة بين ما كانت عليه قبل اقتباس تلك الكلمات المعدودات، وبعد اقتباسها وتداولها في أحاديثها اليومية.

وفي لغات الأوروبيين كلمات لها مثل هذه الدلالة على أثر المعيشة العربية في المعيشة الأوروبية، وبالمعاشرة، أو الاتباع في الحكم، أو تبادل التجارة.

منها الكلمات الدالة على القطن

Cotton ، أو على الحرير الموصلي

Muslin ، أو الحرير الغزي

Gause ، أو الحرير الدمشقي

Damas ، أو الجلد القرطبي

Cordevan ، أو الجلد المراكشي

Morocco ، أو الجبة

Jupe ، أو المسك

Musk ، أو العطر

Attard ، أو الزعفران

Saffron ، أو الشراب

Syrup ، أو الجرة

Jar ، أو الصفة بمعنى المقعد الطويل

Sofa ، أو الأرز

Rice ، أو البرتقال من النارنج

Orange ، أو الليمون

Lemon ، أو السكر

Sugar ، أو القهوة

Coffee ، أو القنوة

Condy ، إلى أشباه هذه المفردات.

وقد شاعت هذه المفردات في الإنجليزية والفرنسية وبعض اللغات الأوروبية الأخرى. أما الذي دخل الإسبانية والبرتغالية من الكلمات الدالة على أحوال المعيشة فقد يحصى بالمئات، ولا يقصر على العشرات، ومنها: القباء

Gaban ، والبناء

Albanil ، والمخزن

Almacen ، والقطران

Alquitran ، والسطيحة

Azotea ، والطريحة

Al Tariha ، والفندق

Fonda ، والطاحون

Tahone ، والحجر الكريم أو الجوهر

Alhaja ، والبراءة

Albaran ، والكراء

Alquiler ، والقبة

Alcoba ، والساقية

Assaquiya ، وبعض المكاييل كالفنيقة، وهي الغرارة

Fanega ، والثماني

Celemines ، والقطيفة

Alcatifa ، والربعة

Arroba ، والجيب

Algibeira ، والخياط

Afaiate ، والرطل

Arratel ، وألفاظ كثيرة من أسماء الحاجيات المتداولة أو الأعلام على المواقع والبلاد.

وليس كل الشأن في انتقال هذه المفردات إلى الإسبانية أو البرتغالية أنها صفحات زيدت على معجم اللغتين، وإنما الشأن الصحيح فيها أنها دليل على صبغة المعيشة العربية التي اصطبغت بها تلك البلاد وكل بلد غيرها اقتبس مثل هذا الاقتباس، أو بعض هذا الاقتباس، وأنها مقياس الفارق بين أحوال الأمم الأوروبية قبل اتصالها بالحضارة العربية، وبعد شيوع هذا الاتصال.

ولم تكن الجزيرة الأندلسية هي المجاز الوحيد بين القارة الأوروبية والحضارة العربية؛ لأن القوافل التي تنقل البضائع من آسيا الغربية إلى أوروبا الشرقية لم تنقطع كل الانقطاع في عصر من العصور، ولأن الأوروبيين قد عرفوا الشيء الكثير عن الشرق في إبان الحروب الصليبية، ولكن الجزيرة الأندلسية هي القطر الوحيد الذي يقال فيه على التحقيق: إنه لم يعرف له عصرا ذهبيا في تاريخه كله غير العصر الذهبي الذي رآه في أيام الدولة العربية الزاهرة، ولا استثناء في ذلك لعهد فيليب الثاني وما كان فيه من مظاهر الأبهة والرخاء؛ لأنه كان رخاء مستعارا من الخيرات التي تدفقت على إسبانيا من مستعمراتها الأمريكية بعد كشف العالم الجديد، ولم يكن رخاء محمولا على حضارة تزدهر فيها المعارف الإنسانية، وتتفتق فيها عقول الأمة عن فتح مبتكر ينسب إلى أهل البلاد.

ففي عصر الأندلس الذهبي كانت المدن الأندلسية أعمر المدن في القارة الأوروبية من أقصاها إلى أقصاها، وكان في قرطبة وحدها دكان نسخ واحد يستخدم مائة وسبعين جارية في نقل المؤلفات لطلاب الكتب النادرة، وكان في قصر الخليفة أربعمائة ألف كتاب، وكان سادات أوروبا يفاخرون بما يقتنونه من منسوخاتها، أو مصوغاتها المعدنية، أو آنية الفخار التي لا يعرف لها نظير في بلد آخر، وكان عدد سكانها نحو ألف ألف، يسكنون نحو مائتين وخمسين ألف بيت. ولم تكن مدينة في أوروبا تأوي إليها أكثر من ثلاثين ألفا أو خمسين ألفا على أكبر تقدير.

وإلى قرطبة وزميلاتها غرناطة وأشبيلية وطليطلة ومرسية ومالقة كانت تتجه وفود العواهل الأوروبيين في طلب الأدوية أو التحف، أو أدوات الترف والزينة وفرق الموسيقى والغناء. وأجمل بعض هذا المؤرخ الإنجليزي استانلي لاين بول، فقال: «إن حكم عبد الرحمن الثالث الذي قارب خمسين سنة أدخل على أحوال إسبانيا تجديدا لا يلم الخيال - على أجمح ما يكون - بحقيقة فحواه» ...

ولا نعرف شهادة لهذا العصر الذهبي أعظم ولا أصدق من ذلك الحنين الذي يذكره به غلاة الوطنيين الإسبان وكبار كتابهم، حين يلتفتون إلى ماضي بلادهم، ويتمنون لها حاضرا كماضيها في أيام الدولة العربية؛ فلم تنجب إسبانيا في عصرها الحديث وطنيا غيورا، ولا كاتبا مبرزا أشهر من بلاسكوا أبانيز، الذي توفي منذ بضع سنوات، ولكنك لا تقرأ لعربي ولا شرقي كلاما في الإشادة الحماسية بمجد العرب الأندلسيين كالذي تقرؤه لهذا الكاتب النابه في أهم مصنفاته، وهي «ظلال الكنيسة»، حيث يقول: ... لقد أحسنت إسبانيا استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية، وأسلمتهم القرى أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى القرى حتى تفتح لها الأبواب، وتتلقاها بالترحاب ... وكانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وتدويخ، ولم يزل ميل المهاجرين يتدفق من جانب المضيق، وتستقر معه تلك الثقافة الغنية الموطدة الأركان، نابضة بالحياة، بعيدة الشوط، ولدت منتصرة، وبث فيها النبي حمية قدسية، واجتمع إليها أفضل ما في وحي بني إسرائيل وعلم بيزنطة وتراث الهند وذخائر فارس والصين.

وهكذا تسرب الشرق إلى أوروبا على نهج غير نهج داردا وزركسيس من قبيل أثينا التي قاومته خوفا على حريتها، وإنما اختار له في هذه المرة نهجا مقابلا لأثينا من الناحية الغربية، وهو الجزيرة الأندلسية؛ حيث سلطان الملوك «اللاهوتيين» والقساوسة المجاهدين؛ فتلقته مفتوحة الذراعين.

وفي خلال سنتين اثنتين استولى الغزاة على ملك قضى مستردوه سبعة قرون كاملة في استرداده، ولم يكن في الواقع فتحا فرض على الناس برهبة السلاح، بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة، ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمنا عن فضيلة حرية الضمير، وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب؛ فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبيع اليهود، ولم يخش المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها غير حاسد لها ولا راغب في السيادة عليها، ونمت على هذا ما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر أجمل الحضارات وأغناها في القرون الوسطى.

وفي الزمن الذي كانت أمم الشمال فريسة للفتن الدينية والمعارك الهمجية، يعيشون عيشة القبائل المستوحشة في بلادهم المتخلفة، كان سكان إسبانيا يزدادون فيزيدون على ثلاثين مليونا تنسجم بينهم جميع العناصر البشرية والعقائد الدينية، وخفق قلب الحياة الاجتماعية بأقوى نبضاته التي عرفها تاريخ الجماعات البشرية، فلا نرى لها قرينا نقابله به غير ما نجده في الولايات المتحدة الأمريكية من تنوع الأجناس، واتصال الحركة والنشاط.

فعاشت في الجزيرة الأندلسية طوائف من النصارى والمسلمين، وأهل الجزيرة والشام، وأهل مصر والمغرب، ويهود إسبانيا والشرق، فكان منهم ذلك المزيج الذي تميز منه المستعربون والمدجنون والمولدون، وعاشت بفضل هذا التفاعل الحي بين العناصر والعروق جميع الآراء والعادات، والكشوف العلمية، والمعارف والفنون والصناعات، والمخترعات الحديثة، والأنظمة القديمة.

وانبثقت من تجاوب هذه القوى مواهب الإبداع والتجديد، ووصل من الشرق الحرير والقطن والقهوة والورق والليمون والبرتقال والرمان والسكر مع هؤلاء الوافدين، كما وصلت السجاجيد والمنسوجات والبارود والمعادن المنقوشة، وأخذنا عنه الحساب العشري والجبر والكيمياء والطب وعلم الفلك والشعر المقفى.

ونجا الفلاسفة الإغريق من الضياع في غمرة النسيان؛ حيث تبعوا العربي في فتوحه وغزواته، فتربع أرسطو في جامعة قرطبة التي ذاعت شهرتها في الآفاق، وظهرت بين العرب الأندلسيين فكرة الفروسية التي تبناها فيما بعد رجال الشمال كأنها ميزة مقصورة على الأمم المسيحية.

وبينما كانت شعوب الفرنجة والسكسون والجرمان يعيشون في الأكواخ، ويعتلي ملوكهم وأشرافهم قمم الصخور في القلاع المظلمة، ومن حولهم رجالهم هم عالة عليهم يلبسون الزرد، ويأكلون طعام الإنسان الأول قبل التاريخ، كان العرب الأندلسيون يشيدون قصورهم القوراء، ويرودون الحمامات كما كان سراة رومة يرودونها من قبل للمساجلة في مسائل العلم والأدب، وتناشد الأشعار، وتناقل الأخبار.

وكلما آنس راهب من نفسه رغبة في العلم اختلف إلى الجامعات العربية أو المجامع الإسرائيلية في إسبانيا، ووقر في أخلاد الملوك والأمراء أنهم مبرءون من أمراضهم لا محالة إذا أسعدهم الحظ بطبيب إسباني، مهما يكلفهم ذلك.

ثم انفصل العنصر الوطني عن الغزاة، وتجمعت القوميات المسيحية الصغيرة؛ فاشتبك العرب والإسبان في حروب سجال لا تنتهي إلى الإبادة والاستئصال بعد الانتصار، وأضمر كل منهم لصاحبه احتراما عميقا، فهو يعاهده على فترة طويلة من فترات السلم كأنما يحاولون بذلك تأجيل تلك اللحظة التي يحم فيها الفراق الأخير، ويعاونه خلال ذلك في بعض الأعمال التي تفتقر إلى اشتراك الجهود.

ولقد عمت الحرية في ذلك العهد أقاليم إسبانيا المسيحية نفسها قبل أوروبا الشمالية بزمن طويل، واستقلت بتنظيم أمورها المالية، وجعلت الملك أو الأمير بمقام رتبته العسكرية، وأصبحت المقاطعات كالجمهوريات الصغيرة التي يتولاها حكامها المنتخبون.

وكان المتطوعون في المدن قدوة مثلى للجيوش الديمقراطية، وكانت الكنيسة المسيحية وهي على اتصال بالشعب تعيش بسلام في جوار الأديان المختلفة، ونجمت في الأمة طبقة وسطى فعالة، فأبدعت الصناعات المتعددة، وأنشأت على السواحل أعظم قوة بحرية في زمانها، وراجت المنتجات الإسبانية في جميع المرافئ الأوروبية، وقامت في البلاد مدن تضارع في تعداد سكانها الحواضر الحديثة، واختصت بعض القرى بمعامل النسيج، ووزعت الأرض في شبه الجزيرة بأسرها.

وقد ارتقى العرش ملوك الكثلكة في الوقت الذي بلغت فيه القوى الوطنية أوجها، وإنما يرجع طول ملكهم إلى موارد القرون الوسطى الفياضة بالإبداع، المخزونة في ودائع العصور السابقة.

إلا أنه كان ملكا مشئوما بغيض العواقب؛ لأنه حاد بالسياسة الإسبانية عن سواء السبيل، فاندفع بإسبانيا إلى التعصب الممقوت، ونفخ فينا نزعة التوسع في الاستعمار.

كانت إسبانيا يومئذ تتبوأ المكانة التي تتبوأها إنجلترا في عهدنا الحاضر، ولو أنها اتبعت سياسة التسامح الديني والتعاون بين الشعوب، وواصلت عمل العرب الصناعي والزراعي بدلا من مغامرات الحرب، ومطامع الاستعمار؛ لكان لنا اليوم شأن غير شأننا الذي وصلنا إليه.

وإن الطابع الإسباني لأبرز في عصر النهضة الأوروبية من الطابع الإيطالي الذي اتسمت به إيطاليا، بما انبعث فيها من آداب الأمم القديمة وفنون الإغريق؛ فإن النهضة لم تقتصر على الميادين الأوروبية والفنية، بل أخرجت إلى العالم حضارة جديدة بتقاليدها وصناعتها وجيوشها وعلومها. وهذا كله من ثمرات إسبانيا العربية والإسرائيلية والمسيحية.

فالقائد العالم القرطبي الكبير «جون سالفو» رسم خطط الحرب الحديثة، وتفوق «بدرونوفارو» في الهندسة، واستخدمت الجيوش الإسبانية الأسلحة النارية لأول مرة في التاريخ، فكان استخدامها هو الذي خلق فرق المشاة، وجعل من الحرب قوة ديمقراطية؛ لأنه قدم الشعب على جماعة الفرسان الذين كانوا سجناء تلك الشكة العسكرية الأرستقراطية.

إلى أن يقول:

أسرعت دونا إيزبيلا بذلك التعصب النسائي الذي امتلأت به فأنشأت محاكم التفتيش، وانطفأ من ثم مصباح العلم في المسجد والبيعة، وخلفته في الدير المسيحي ذبالة العبادة؛ لأن الساعة ساعة صلاة، وقد ولت ساعة العلم، وانزوت الفكرة الإسبانية في غياهب الظلمات؛ حيث ترتعد بردا في عزلتها المضنية، وتخبو شيئا فشيئا إلى أن تموت، وإن بقيت منها بقية، فهي تلك التي تنصرف إلى الشعر والمسرح والجدل الديني، مذ كان العلم يفضي بصاحبه إلى نار الحريق ...

هذه الشهادة الإسبانية الصحيحة - شهادة أبانيز - للدول العربية في الجزيرة الأندلسية هي خلاصة التاريخ المتفق عليه، وليست تحية إعجاب وكفى من رجل منصف متوثب الخيال.

ولم يمار في هذه الخلاصة التاريخية أحد من المؤرخين المعول عليهم، سواء كانوا من العرب أو الأوروبيين أو الإسبان، إلا أفرادا قلائل زعموا أن الحضارة العربية في الأندلس قامت على أيدي أبنائها الأصلاء دون الغرباء الوافدين عليها، وهو زعم عجيب يوحي أول ما يوحيه إلى الذهن أن يسأل: ولم لا تزدهر العبقرية الإسبانية إلا في ظل الحكومة العربية، فلا تؤتي ثمراتها قبل وفود العرب، ولا بعد ذهابهم وذهاب آثارهم في العلم والصناعة والعمران؟!

وجواب هذا السؤال ينفي كل زعم يلهج به أمثال أولئك المنكرين المتعصبين، وبخاصة حين يرسلون زعمهم إرسالا لا يؤيده اسم واحد من أسماء أبناء البلاد الأصلاء الذين ساهموا مع العرب في أعمال الحكم والتعمير، أو كانت مساهمتهم دليلا على مشاركة عامة متسعة النطاق.

وأول ما يستخلص من قيام الحضارة الأندلسية على هذا الوصف المتفق عليه، أن آثارها في أوروبا كانت أعم وأعمق مما تسجله الكتب المطولة أو الكلمات المقتبسة؛ لأننا نرى بأعيننا في عصرنا الحاضر كيف يكون أثر القدوة بالسماع، فضلا عن القدوة بالمعاشرة الطويلة بين الشعوب. وهذه الثورة الفرنسية قد تخللت أوروبا وآسيا وأفريقيا بمبادئها وحوافزها ولما يتجاوز المطلعون على حقيقتها آحادا معدودين في كل بلد من بلدان تلك القارات، فإذا كانت القارة الأوروبية لا تغير نظرتها إلى الحياة بعد معاشرة تلك الحضارة الأندلسية على استفاضتها وطول أمدها؛ فالتهمة هنا تتجه إلى العنصر الأوروبي ولا تتجه إلى العنصر العربي أو الإسلامي بحال.

وقد أصاب أبانيز حين قال: إن عصر النهضة مدين للحضارة الأندلسية قبل الحضارة الإيطالية التي أعقبتها؛ لأن عصر النهضة لم يكن عصر تجديد للفنون الإغريقية القديمة ولا مزيد على ذلك من عنده، ولكنه كان عصر تجديد في الحياة العملية، والمرافق الصناعية والتجارية، وفهم مستحدث للعقيدة وللعالم وللعلاقات بين الحاكمين والمحكومين، أو كان عصر معيشة جديدة تناولت بالتبديل والتعديل طبقات الشعوب من العلية إلى السواد. وأولى أن يأتي ذلك من القدوة الشعبية في جميع الشئون العملية بعد اتصال المعاشرة بين حضارة العرب وأبناء أوروبا الغربية عدة قرون.

وفي وسع الأرقام والألفاظ أن تحصي لنا آثار العرب في بعض العلوم أو بعض الصناعات، ولكن آثار العرب في الحضارة العامة لا تستقصيها الأرقام ولا الألفاظ، ولا هي موقوفة على استقصاء أرقام وألفاظ ؛ لأن زعم الزاعم أنها قد مضت بغير أثر كبير يناقض العقل البشري كما يناقض المشاهد والمحسوس. وإسناد هذا الأثر إلى غيرها بلا مشاركة منها على الأقل تعسف لا يؤخذ به في سياق التاريخ.

وقد جاءت النهضة بعد عهد الحضارة الأندلسية، وجاء الإصلاح الديني بعد النهضة، وجاءت الحرية السياسية بعد الإصلاح، ولم ينكر أحد من الأوروبيين أثر واحدة من هذه الحركات في الأخرى؛ فليس في وسع المنكرين المتعصبين منهم أن يقطعوا الصلة بين الحركة الأولى وما تلاها، مع هذا التلازم في الزمان والأسباب.

الدولة والنظام

من المفارقات في ظاهر الأمر أن يقال: إن الحضارة الإسلامية كان لها أثر في فصل الدولة عن الكنيسة، وفيما تلا ذلك من حركات التحرير أو دعوات التغيير في معنى الدولة والملك، وعلاقة الرعايا والملوك.

وإنما يبدو هذا القول كأنه من قبيل المفارقات؛ لأن المعلوم الشائع عن الإسلام أنه وحد الملك والخلافة الدينية، وجمع بينهما في كثير من الدول الإسلامية شرقيها وغربيها، وقديمها وحديثها، فكان لقب أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين من ألقاب الملوك المسلمين إلى زمن غير بعيد، ولا يزال من هؤلاء الملوك من يتسمى به في مملكته إلى الآن.

ولكن الواقع - كما أسلفنا - أن المفارقة في الظاهر لا في الحقيقة؛ لأن حركة التحرير في هذا الاتجاه بين الأوروبيين إنما أتت على خطوات متلاحقات منذ القرن الحادي عشر للميلاد إلى عصر الثورة الفرنسية. وكانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي ثورة الملوك على سلطان الكنيسة، ونزع بعضهم كما حصل في إنجلترا إلى الجمع بين الرياسة الدنيوية والرياسة الدينية.

وكان استقلال الملك المسلم عن سلطان رجال الدين في الشرق والغرب من أقوى الحوافز التي جالت في خواطر الملوك الأوروبيين زمنا بعد مقاربتهم للدول الإسلامية في الأندلس تارة، وفي البلاد التي تناولتها الحروب الصليبية تارة أخرى، فنزعوا بدافع من الغيرة والقدوة الماثلة أمام أعينهم إلى محاكاة أندادهم وأقرانهم، والتمرد على ذلك السلطان الشامل الذي فرضته الكنيسة عليهم وعلى رعاياهم.

فقد كان للأحبار الرومانيين حق الحرمان والغفران يسلطونه تارة على الملوك والأمراء، وتارة على آحاد الناس، وربما أعلنوا حرمان الملك وأحلوا رعاياه من الطاعة له؛ فتذرع الأتباع الناقمون عليه بهذا الإعلان لنقض طاعته، وتمزيق ملكه، وربما ألفى الملوك أنفسهم مضطرين في كثير من الأحيان إلى تملق الأحبار في رومة، والسعي إليهم لاستغفارهم وطلب المعونة منهم على أتباعهم ومنافسيهم.

ونظروا بأعينهم إلى ملوك مثلهم في أوروبا نفسها، وفي البلاد الشرقية التي عرفوها، فوجدوهم أحرارا من هذه الربقة، آمنين على عروشهم من ذلك السيف المصلت على الرقاب، فلا جرم تحيك في صدورهم نازعة من الغيرة وطلب المحاكاة، ويغتنمون الفرصة الأولى لإدراك ما تمنوه وفكروا فيه.

ومهما يكن من تعدد الأسباب التي تقدمت ثورة الملوك على الكنيسة، فمن أسبابها التي تذكر ولا تنسى هذه القدوة الملكية الماثلة في الأندلس ومصر وبلاد الشرق الأدنى. ولم يتفق عبثا على ما نرى أن تبدأ الثورة في ألمانيا وإنجلترا، وهي البلاد التي كان لها ملوك وأمراء أقاموا بالشرق في خلال الحروب الصليبية، فإن هؤلاء الملوك جربوا إنشاء الدول بأسمائهم في البلاد الشرقية، بعد أن غلب على الظن أن هذه الدول ستقام باسم السلطة البابوية، والحرب حرب صليبية، والمرجع فيها إلى رجال الدين وأحبار الكنيسة ... فلما استقامت لهم التجربة، ومثلت أمامهم القدوة، وأتيحت لهم أو لخلفائهم الفرصة المواتية؛ خرجوا على سلطان الكنيسة، فكانت هذه هي الخطوة الأولى في سبيل الفصل بين الدين والدولة، أو في سبيل عزل الكنيسة عن تدبير الشئون السياسية في البلاد الأجنبية عنها.

وقد كانت هذه الثورة الملكية ضرورية قبل الثورة الشعبية التي تلتها، وكانت حرية الشعوب مع ملوكهم على قدر حرية الملوك مع رجال الكنيسة.

ولولا أن ثورة الملوك كانت لازمة قبل ثورة الشعوب لاستفاد الأوروبيون من مقاربة الدول الإسلامية معنى آخر أجل وأسمى من هذا المعنى، في فهم حقيقة الدولة، وحقيقة الرعاية أو العلاقة بين الراعي والرعية؛ لأن أوروبا ظلت إلى القرن السابع عشر تعتبر الدولة سيادة للحاكمين على المحكومين، وظل علماؤها ينكرون حق الشعب في الإشراف على الحكومة ، ويعتبرون أن هذا الحق طريق إلى الفوضى والفساد، كما قرر جروسيوس في كلامه عن حقوق الحرب والسلام.

وقبل جروسيوس - إمام القانون الدولي عندهم في زمانه - كان المعري يقول في أوائل القرن الحادي عشر للميلاد؛ أي قبل جروسيوس بستة قرون:

ظلموا الرعية واستباحوا كيدها

وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

وقبل المعري بأربعة قرون كان القرآن يعلم الناس أن أمر الرعية شورى بينها، وكان الرسول - عليه السلام - يعلمهم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وكان الفاروق يعلمهم أنهم ولدوا أحرارا لا يستعبدهم خليفة ولا أمير.

على أن الأوروبيين إذا كان قد فاتهم أن يتلقوا عن الدول الإسلامية هذا الدرس الرفيع في معنى الدولة، والعلاقة بين الحاكمين والمحكومين فيها، فإنهم قد عرفوا من تلك الدول الإسلامية شيئا جديدا في العلاقات الدولية، ومعاهدات السلم والصلح والمتاركة بين الأعداء والمختلفين بالعقائد والعناصر واللغات؛ فإن الإسلام قد أباح لأتباعه معاهدة المشركين والذميين وأهل الكتاب، كما أباح لهم معاهدة إخوانهم في الدين.

وقد كانت نشأة الدول الإسلامية على الأرض الأوروبية مناسبة حية لتطبيق هذه المعاملات مع المحاربين والمسالمين، ومع الحكومات وآحاد الناس، وكان الأمير المسلم لا ينقض عهد أمانة لمن أمنهم على أنفسهم وأموالهم ولو كانوا من أعدى أعدائه، فكان الفرسان المسيحيون يترددون على العواصم الأندلسية لينازلوا أبطال المسلمين ذوي الصيت الذائع في حلبات الفروسية والرياضة البدنية، فلا يعتدى عليهم غالبين ولا مغلوبين، وكانت الحكومات المسيحية التي ترتبط بعهود المسالمة أو المتاركة مع المسلمين على ثقة من الوفاء بهذه العهود في أحرج الأوقات وأحفلها بالمخاوف والأخطار.

وشاهد الصليبيون في المشرق مثلا آخر من أمثلة هذه القداسة المرعية للمعاهدات الدولية، وهذه السنة الجديدة في معاملات الحكومات والشعوب، فتغنى الروائيون والشعراء الإنجليز بصدق صلاح الدين وشممه وأريحيته في معاملاته لخصومه، وسجلوا له بالثناء والإعجاب صدقه الذي لازمه في كل وعد من وعوده، فلم ينقض كلمة قط، ولم يحنث مرة بيمين.

وأعجب من هذا في باب التفرقة بين حدود الخصومة وحدود المعاملة: أن قيام الحرب بين العرب والصليبيين لم يكن ليقطع أسباب التعامل بين المتقاتلين في غير ما تستدعيه ضرورات القتال، ومن ذاك ما رواه الرحالة ابن جبير حيث قال:

ومن أعجب ما يحدث به أن الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان منهم، ويقع المصاف بينهم ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. شاهدنا في هذا الوقت، الذي هو شهر جمادى الأولى، من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عساكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك - وهو من أعظم حصون النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز، والمانع لسبيل المسلمين على البر: بينه وبين القدس مسيرة يوم أو أشق قليلا، وهو سرارة أرض فلسطين، وله منظر عظيم الاتساع، متصل العمارة. يذكر أنه ينتهي إلى أربعمائة قرية - فنازله هذا السلطان وضيق عليه، وطال حصاره، واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك.

وتجار النصارى أيضا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم وهي من الأمنة على غاية. وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم على الاعتدال في جميع الأحوال وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب. هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم، وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك، ولا تعترض الرعايا ولا التجار؛ فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلما أو حربا، وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفى الحديث عنه ...

وقد كان لفهم الدولة على معناه الصحيح أثره النافع في العلاقات السلمية والحربية بين الحكومات، فلم يحدث قط في العالم العربي أن دولة حاربت أخرى للمطالبة بحصة أميرة في العرش، أو للخلاف على ميراث الأصهار وتركات البيوت الملكية؛ لأن الحضارة العربية رفعت معنى الدولة من مرتبة الحطام الذي يورث أو ينتقل بالنسب والمصاهرة، إلى المرتبة الإنسانية التي ارتقت إليها الحضارة الحديثة بعد ذلك ببضعة قرون؛ وهي قيام الدولة على علاقة حرة بين الراعي المسئول والرعايا الطلقاء من أسر العبودية والاسترقاق، فلا جرم يقال بحق: إن الحضارة العربية سبقت أوروبا زمنا طويلا في مجال التربية الدولية، وسلكت المنهج الوحيد الذي يؤدي إلى انتظام المعاملات العالمية على الوجهة القديمة التي يممها دعاة الإصلاح في عهد عصبة الأمم المتحدة، وما يشبهها من الجامعات.

أثر أوروبا الحديثة في النهضة العربية

سداد الديون

مضى زمن كانت أوروبا فيه - كما رأينا في بعض فصول هذا الكتاب - تتلقى الحضارة العربية وهي نافرة متبرمة، أو حائرة مستسلمة؛ إذ كان شيوخها وأصحاب زمامها ينعون الزمان، ويسخطون على الدنيا ومن فيها؛ لأن وجوه الناشئين قد تحولت عن القبلة التي كانوا يأتمون بها، وعقول المتعلمين قد انصرفت عن المطالب التي كانوا يعكفون عليها، فأصبحوا ولا هم لهم إلا الإقبال على كل ما هو عربي غريب، والإعراض عن كل ما هو أوروبي أصيل.

ثم دارت الأفلاك دوراتها التي تدورها كأنما هي مستقرة في مكانها، فإذا بصيحة كهذه الصيحة تسمع من جانب الشرق العربي كأنها منقولة من أفواه أولئك الأوروبيين الذين رددوها قبل ألف سنة؛ لأن أبناء الشرق أصبحوا ولا هم لهم إلا الإقبال على كل ما هو أوروبي غريب، والإعراض عن كلما هو شرقي أو عربي أصيل!

ذلك سداد الديون!

وكثيرا ما يكون سداد الديون غير مقصود وغير مشكور، ولا سيما ديون الحضارات الإنسانية التي تتوارثها الأمم دواليك بين الأخذ والإعطاء.

وتعلم الشرق الحديث من أوروبا كما تعلمت أوروبا من الشرق القديم.

ولا ضير في التعليم، ولولا أنه كان تعليم قصور.

فإن الولع لكل جديد كالوالع بكل قديم، دليل على نقص في التمييز، وعلى اتباع يخلو من الابتداع.

وقد عشنا زمنا في الشرق ومقياس الحرية عندنا أن نقبل على كل جديد لأنه جديد، وأن نثور على كل قديم لأنه قديم.

فكان ذلك عهد تعليم، وكان كذلك عصر قصور.

ثم بلغ هذا العصر مداه فبرزت في صفوف الشرقيين طائفة تملك حريتها في وجه الجديد كما تملكها في وجه القديم، فلا يفقد الإنسان صفة الحرية لأنه يفضل بعض القديم على بعض الجديد، ولا يكسب الإنسان صفة الحرية لأنه يفضل كل جديد على كل قديم، بل يكون مقياس الحرية هو مقايس التمييز لكل ممتاز، والاختيار لكل ما يستحق أن يختار.

نقلة من عصر القصور إلى عصر الرشد والاستقلال.

تعلمنا مكرهين متبعين، ثم نتعلم مختارين مبتدعين.

ولم يقتصر ما تعلمناه من قبل أو ما نتعلمه اليوم على باب دون باب، أو فريق دون فريق، بل شمل المدرسة والبيت والسوق، وعم الجامدين والمتوسطين والمتطرفين، ولا يزال علينا أن نتعلم الكثير في كل باب، وأن نترقب التقدم من كل فريق، ولكن على سنة الرشد لا على سنة القصور.

وسيبلغ هذا العصر مداه بعد حين، وستدور الأفلاك دوراتها التي يتشابه فيها المدار بالقرار، فغير بعيد أن تسمع الصيحة مرة أخرى في جانب من جوانب الكرة الأرضية ... وغير بعيد أن يمليها الشرق في هذه المرة على نحو جديد ... فقد يتسع لها عالم الروح إن لم يتسع لها عالم الفكر والعلم، أو عالم الحكم والسلطان.

الاجتماع والسياسة

شاع التعليم الحديث في الشرق كما شاعت فيه القدوة المعيشية بكثير من مظاهر الحضارة الأوروبية، وكان لشيوعهما معا فعل سرع في بعض آداب الاجتماع ومقوماته، تقابلت فيه المحاسن والمساوئ، على حكم العادة المألوفة في كل تغير سريع. وقلما يقع التغير في العرف الاجتماعي دون أن تبدو آثاره ومصاحباته في الأسرة، وفي العادات العامة، وفي العلاقة بين الطبقات.

وقد كان لذلك التغير السريع آثاره في هذه المناحي الثلاثة، ولا سيما الأسرة، فإن التعليم وتحرير المرأة وتطور لوازم المعيشة قد اتحدت كلها على تقليل الرغبة في تعدد الزوجات؛ لأن الرجل المتعلم يطلب الزوجة للمشاركة في الفهم والشعور، ويضن ببنته وأخته في الوقت نفسه أن تتعرضا لمتاعب الضر والمنازعة بينها وبين الزوجات الأخريات، والمرأة المتحررة تنشد الزوج الذي يشاطرها الحب والمودة، ويعاملها معاملة الشريكة في حياته البيتية وحياته النفسية. وتكاليف المعيشة وتعليم الأبناء عبء لا يقوى عليه الزوج الذي يضطلع بهذه التكاليف في أكثر من أسرة واحدة.

وأصبح اقتناء الجواري محرما بحكم القانون بعد اتفاق الدول على تحريم الرق ، فبطلت الذرائع إلى تعديد الزوجات بالتسري والاسترقاق، وكان ضربا من الوجاهة ترضاه بعض الأسر الغنية على هذا الاعتبار.

وشوهدت في الأسر المصرية عناية بالحفلات البيتية لمناسبات لم تكن شائعة بين الشرقيين قبل الحضارة الأوروبية، وهي ذكريات الزواج، وذكريات ميلاد الآباء والأمهات والأبناء، وغيرها من المناسبات العامة التي يحتفل بها الغربيون؛ كرأس السنة الشمسية، وبعض مواسم الفصول، وأبيح في هذه المناسبات ما لم يكن مباحا قبل ذاك في مجتمعات الأسر كالمقامرة والشراب.

وقد كسبت الأسرة الشرقية من ناحية، وخسرت من ناحية أخرى بهذا الازدواج العجيب في آداب المعيشة، فإن الأمم الشرقية اقتبست من الغرب كثيرا من عادات الفراغ والنزهة «خارج البيت»، ولم تكن كلها مما يرافق حياة الأسرة وواجبات التربية التي تناط بالأمهات والآباء داخل البيوت، وساء فهم الحرية النسائية في بعض البيئات، فسبق إلى الأوهام أن الحرية تحرر من جملة القيود، ومنها قيود الوفاء للأزواج والأبناء، فتداعى بنيان الأسر التي فشت فيها هذه البدعة الغربية، وامتحن المجتمع الشرقي بمحنة خطيرة يحاول اليوم أن ينجو منها، ولا يزال في محاولاته حتى يتاح له الاستقرار على ملتقى مريح بين دواعي الحاضر ودواعي الماضي، ودواعي الحرية الفردية ومطالب المجتمع والأسرة.

أما العلاقة بين الطبقات فلم تتغير تغيرا كثيرا في الأمم الشرقية بعد الاحتكاك بالحضارة الأوروبية؛ لأن أوروبا منعت قيام الصناعات الكبرى في بلاد الشرق، واحتكرت أسواقها لمصنوعاتها، فوقف الزراع وأصحاب الأرض في موقفهم القديم، وركدت الصناعة فلم تجتمع عصبة من العمال في صعيد واحد للمطالبة بحقوقها كما تفعل جماعات العمال في العواصم الصناعية الكبرى.

وحالت أوروبا دون تجدد الطبقات بحائل آخر لم تقصده، ولكنه فعل فعله في جميع الأقطار الشرقية على تنوع مرافقها الاقتصادية، وذاك أنها أرسلت إلى الشرق أموالها ومصارفها وشركاتها لتستغل أغنياءه وفقراءه على السواء، فأصبحت الطبقات الاجتماعية كلها في حكم الطبقة العاملة أمام هذا الاستغلال، وتأجل تقسيم الطبقات من جراء هذا الاتفاق بينها في مواجهة رءوس الأموال الأجنبية.

وفيما عدا نشوء الحركة التعاونية في المدن والقرى على نطاق ضيق محدود ، لم تتغير علاقات الاقتصاد بين الطبقات تغيرا يناسب الخطوات السياسية التي خطاها الشرقيون سعيا إلى التحرير والاعتراف بالمركز القانوني في المعاملات الدولية.

وأهم ما يذكر في باب تجديد الطبقات أن انتشار التعليم وازدحام المدن قد ضاعفا قوة الطبقة الوسطى، فارتفع لها صوت مسموع في توجيه السياسة الوطنية، ولم تزل الطبقة الفقيرة عالة على الطبقة الوسطى في المطالبة بحقوقها، والإفضاء بشكايتها، ولكنها تستقل بالرأي شيئا فشيئا خلال هذه السنوات، ولا سيما سنوات الحرب العالمية وما تخللها وأعقبها من دعوات الإنصاف والتقريب بين الطبقات.

وإذا استطرد القول إلى الاقتصاد الاجتماعي - أو الاقتصاد الذي له علاقة بروح المجتمع وأخلاقه - فمن المستحدثات التي لا تهمل في هذا الصدد أن الشرق الإسلامي ترخص في إنشاء المصارف المالية، وقبل التعامل بالفائدة الطفيفة التي لا يعتبرها من الربا الفاحش المحرم بنصوص القرآن.

على أننا ننظر إلى جهود الأمم الشرقية من جميع الاعتبارات، فيجوز لنا أن نقول: إن الوعي السياسي فيها قد سبق الوعي الاجتماعي شوطا أو شوطين ... وإن المصلحة القومية تدفع بها الموازنة بين مساعيها في ميدان السياسة وميدان الاجتماع، بعد أن استنفدت قوتها الكبرى على إثر يقظتها الأولى في تحقيق غاياتها الوطنية وآمالها في الحكومة النيابية.

وقد أجملنا الكلام في غير هذا الفصل على الوطنية والحكومة النيابية ... ونضيف إليه في باب التجديد السياسي أن اصطدام الغرب بالشرق كانت له آثار أخرى في أعمال الحكومات غير هذه الآثار في أعمال الشعوب، فعمدت كل حكومة تملك بعض التصرف في شئونها إلى تبديل نظامها العسكري، وإنشاء المحاكم الحديثة التي سميت بالمحاكم الأهلية أو المحاكم المدنية. ولم يكن لها مناص - قبل إلغاء الامتيازات الأجنبية - من اقتباس القضاء الأوروبي، ومبادئ القوانين الأوروبية على الإجمال.

ومن الآثار التي لا تغفل في صدد الكلام على التفاعل بين الحضارتين الأوروبية والعربية: أن سياسة أوروبا قوبلت في الشرق العربي بقوة جديدة في عالم السياسة تعرف بالجامعة العربية، وهي قوة لا تقتصر على أعمال الساسة وولاة الأمور؛ لأنها في واقع الأمر مستمدة من يقظة الشعوب وإحياء التراث العربي منذ مائتي سنة، في كل مكان يحتاج أهله إلى معرفة اللغة العربية.

ومن المألوف على ألسنة المتعجلين إذا رأوا موافقة بين خطة أوروبية وحركة شرقية أن ينسبوا هذه الحركة إلى تدبير الأوروبيين، ويحسبوها من المناورات المصطنعة التي لا ترجع إلى سبب غير ذلك التدبير، وكذلك فعلوا في حكمهم على الجامعة العربية حين لاح لهم أن السياسة الأوروبية تماشيها ولا تعمل على إحباطها. وفي هذا ولا شك انحراف عن الفهم الصحيح؛ فإن السياسة الأوروبية كائنا ما كان بأسها واقتدارها على التدبير والتمويه لا تمالئ شبحا في الخيال، ولا تخلق شيئا من لا شيء، ولا تصطنع حركة من الحركات التي يساهم فيها الملايين تقوم كلها على محض اصطناع.

ومن شأن الدعاة السياسيين أن يستفيدوا من الدعوات في إبانها وفي مكانها، ولكنهم لا يسبقونها ولا يخلقونها، بل لا يفهمونها قبل وقوعها ولا يتسلقون النظر إليها؛ فلم يكن أكثر من المؤتمرات الدولية التي انعقدت في القرن الثامن عشر والذي يليه، ولكنها لم تعرض مرة من المرات للمناداة بحقوق الشعوب، أو مبادئ تقرير المصير، ولم يحجموا عن ذلك عجزا عن الخداع أو كراهة منهم للمناورات، ولكنهم أحجموا عنه لأن هذه الدعوات لم تكن لها حقيقة ماثلة في حركات الشعوب، فلما وجدت هذه الحقيقة الماثلة كثرت المناداة بها في خطب الساسة، وبرامج الوزارات، ومباحث المؤتمرات، وكان من نتائجها فعلا أن عدد الشعوب المستقلة يزداد عاما بعد عام.

واليقظة العربية حقيقة ماثلة وحركة طبيعية لا شك فيها، قامت في نشأتها الحديثة على الرغم من السياسة الأوروبية، ولم تقم باختيارها وتدبيرها، وعادت إلى المجتمع والوحدة بين الحربين العالميتين؛ لأنها لا بد أن تعود بعد قوتها الأولى؛ فمنذ أوائل القرن التاسع عشر سئل إبراهيم باشا وهو يناضل الدول العثمانية: إلى أين تنتهي فتوحاته؟ فقال: حيث لا يوجد من يتكلم العربية. يريد بذلك أن ينشئ دولة عربية محضا، ولا يريد أن يتجاوزها إلى بلاد أخرى.

وحوالي هذا الوقت كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد يعلن الثورة على الحكومة العثمانية ، ويجمع القبائل في جزيرة العرب لتوحيد كلمتها، والاتجاه بها إلى وجهة الاستقلال عن السيطرة الخارجية.

ولم تكن جزيرة العرب يومئذ تعترف بشيء من السلطان الأجنبي غير السيادة الاسمية والرقابة البعيدة التي لا تتعرض لشئونها الداخلية؛ فكان أمراء نجد والكويت والحجاز واليمن يأخذون وقلما يعطون في علاقتهم بالدولة العثمانية، وكانوا على استقلالهم الذي تعودوه منذ القدم في حواضر الصحراء وبواديها، ولا سيما البوادي التي تحجم عنها جنود الدولة، ولا تنفذ إليها بغير إذن من أبنائها، ولولا قرب العراق من مراكز الحدود التي تحميها الدولة بجيوشها لكان شأنها في جملته كشأن الجزيرة العربية.

وكانت أفريقية الشمالية تعتمد على نفسها في مدافعة الفرنسيين عن استقلالها، وحوزة أمرائها وشعوبها. أما في سورية ولبنان، فقد رحبت جمهرة الشعب بحركات الوحدة مع الأمم العربية الأخرى، وكانت على اتصال دائم بوادي النيل والجزيرة، وكانت علاقة أمرائها سرا وجهرا بمحمد علي الكبير مثار القلق الدائم للحكام العثمانيين.

وفي كل هذا كانت السياسة الأوروبية تقف من حركات العرب موقف المقاومة والتثبيط؛ لأنها عملت على بقاء الأمم العربية في حوزة الدولة العثمانية، محرومة جهد المستطاع من حقوق السيادة والاستقلال. ولم تفلح هذه المقاومة إلا ريثما استجدت تلك الأمم نشاطها وتحفزت مرة أخرى للوثوب إلى غايتها.

فقامت في مصر حركة المطالبة بمصر للمصريين، وقامت في السودان حركة الثورة على «الترك» كما كانوا يسمون الأجانب أجمعين، وقامت في بلاد العرب دعوة واحدة إلى الاستقلال، لكنها كانت تمتحن من آونة إلى أخرى بمحنة المنافسة بين زعماء العشائر وأمراء الأقاليم، ودخل السوريون واللبنانيون والعراقيون في حزب تركيا الفتاة؛ لأنه الحزب الذي كان يمنيهم بالحكومة «اللامركزية»؛ أي حكومة العرب في بلادهم، كما يشاءون وبمن يشاءون.

وفي هذا الدور أيضا من أدوار القضية العربية كانت السياسة الأوروبية تخذل العرب أو تمنعهم من الاستقلال غاية ما يقدرون عليه.

ثم نشبت حرب الأمم قبل ثلاثين سنة، فتحركت الجامعة العربية من جديد، تارة على هدى، وتارة على ضلال، فتسابقت دول أوروبا إلى كسب الأنصار من أمم العرب التي استقلت أو التي طمحت إلى الاستقلال، وانتهت الحرب والأمم العربية جمعاء متفقة على المطالبة بالحرية، والمناداة باسم العروبة في جامعة تتوافر لأعضائها حقوق الاستقلال.

وعلى ما كان من موقف أوروبا في المقاومة والتثبيط كانت لها فلتات هنا وفلتات هناك تبدر منها حينا بعد حين، في سبيل التشجيع والإغراء.

فكان الإنجليز مثلا يشجعون المناداة بمصر للمصريين؛ لأنها تفصل مصر عن الدولة العثمانية، ولكنهم يثبطونها من جهة أخرى؛ لأنها ثورة صريحة على الاحتلال البريطاني، وما عسى أن يتطور إليه من بسط الحماية البريطانية في صورها الكثيرة.

وكان الفرنسيون ينشئون المدارس في البلاد السورية كما ينشئون فيها المطابع والمجامع؛ لنشر كتب العرب وثقافة العرب، وإحياء التراث العربي القديم؛ سعيا إلى الفصل بين العرب والدولة العثمانية لا سعيا إلى استقلالهم عن جميع الطامعين، وكانوا يجتنبون ذلك في أفريقيا الشمالية حيث يتفردون بالحكم ولا يستريحون إلى عواقب هذه اليقظة، أو هذه الجامعة الثقافية الدينية.

وكان الألمان يقابلون هذا بالتقرب إلى «الجامعة الإسلامية»؛ لأنها تشمل التقرب من الترك والعرب على السواء، ولكنهم يطمحون من وراء هذه الجامعة إلى بلاد العرب في طريقهم إلى الهند والأقطار الآسيوية، ويدفعون السلطان عبد الحميد إلى مد خطوط المواصلات في أنحاء سورية والجزيرة تحقيقا لأحلامهم، التي تتلخص في صيحتهم من «برلين إلى بغداد» ... ثم إلى الهند من هذه الطريق.

فالسياسة الأوروبية قد وجدت حركة قائمة فاستفادت منها تارة بالمقاومة، وتارة بالتشجيع. أما أنها تخلقها خلقا فذلك مخالف للواقع، مخالف لفحوى التاريخ. وهي تدخل اليوم في طور جديد بفضل كيانها القديم لا بفضل السياسة المصطنعة، أو التدبير الخارجي من جانب الإنجليز أو جانب الأمريكيين.

وقد تكون لبريطانيا العظمى مصلحة في مصادقتها، ورغبة في معاملتها، ولكنها تجد هذه المصلحة في التفاهم بينها وبين الإغريق أو الإيطاليين، فلا يقول قائل: إنها خلقت القومية الإغريقية، أو خلقت القومية الإيطالية، أو إنها قادرة على تجاهل القوميتين وإحباط ما ترميان إليه إذا تحولت السياسة من خطة إلى خطة في المستقبل القريب أو المستقبل البعيد.

فالجامعة العربية حركة طبيعية من قديم الزمن، وهي طبيعية في هذا الزمن على التخصص؛ لأن العصر الحاضر ينادي باحترام حقوق الأوطان، وينادي بالتعاون في الجوار، وينادي بالتعاون الشامل في المسائل العالمية الكبرى. وأبناء العربية يحبون الاستقلال لأوطانهم ويتجاورون، فيحتاجون إلى التعاون فيما بينهم على المرافق المشتركة، وهي أكثر من أن تنحصر في مرافق الماضي، أو مرافق الحاضر، أو مرافق المستقبل على انفراد، وكلهم يودون أن يعانوا وأن يعينوا في المسائل العالمية الكبرى التي تمسهم مباشرة، أو تمسهم بنتائجها التي تعم البشر أجمعين.

وللجامعة العربية مستقبل سياسي رهين بأحوال العالم وتقلباته، وانتظام العلاقات بين شعوبه وحكوماته، ولكن اليقظة العربية حقيقة لا ترتهن بالسياسة وحدها؛ لأنها مستمدة من طبيعة الأشياء لا من برامج الدولة والرؤساء.

الحكومة البرلمانية

حرم القرآن الكريم الحكم المطلق، وأنكر سلطان «الجبارين» في الأرض، وفرض الشورى على النبي وخلفائه فقال:

وشاورهم في الأمر ،

وأمرهم شورى بينهم ، وقرر المساواة في العدل بين جميع الناس وإن قضى بينهم بتفاوت الدرجات.

ويقرأ المسلم القرآن فيحس إحساسا «شوريا»، ويتعلم فريضة الشورى بالإيحاء والتلقين، فضلا عما فيه من الأمر الصريح بالمشاورة، وسؤال أهل الذكر، واجتناب الطغيان في السلطان والاستبداد بالحكومة؛ لأنه يرى أن أول عمل من أعمال الخليقة الإنسانية كان حقيقا أن يسمى بلغة العصر الحاضر عملا «دستوريا» من جانب الخالق جل جلاله، ويقوم على الإقناع ولا يقوم على الإكراه والإخضاع.

وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ...

فلم يكن الاستخلاف في الأرض بالإخضاع بل بالإقناع، ولم يصبح الخليفة الموعود أهلا لهذه الأمانة إلا بعلم يعلمه، ويجهله سائر الخلائق ممن فضله عليهم الخالق بهذا الاستخلاف.

ووحي هذه المعاني المستفادة بالإيحاء والاستكانة يلقن المؤمن بالقرآن «حس» الشورى، والنفرة من الاستبداد؛ لأن الإيحاء والاستكناه أقرب إلى التلقين من الأمر الصريح.

فالأمر «بالحكم الدستوري» قديم في الحياة العربية، أصيل في الدولة الإسلامية، ولكنه المبدأ الذي سبق الأطوار الشعبية بعدة قرون، فلم تتهيأ له الجماعات الإنسانية إلا بعد الدعوة المحمدية بألف سنة أو تزيد؛ لأن الأمر بالشورى ينفذ نفاذه حين يوجد معه صاحب الحق الذي يطالب به من ينساه، ويرد إليه من يحيد عنه.

وليس صاحب الحق هنا غير «الشعب» الذي يتعلم ذلك الحق، ثم يشعر بالحاجة إليه، ثم يملك الوسيلة التي تخرجه من حيز «المبدأ» الواجب إلى حيز «العمل» النافذ، ولم يكن تمام هذه الأطوار ميسورا قبل أجيال تعقبها أجيال، وأهوال تتلوها أهوال. ويومئذ تصبح الشورى «نظاما» يأتمر به الحاكمون والمحكومون، ويوشك أن يجري في الأمم مجرى الحوادث الطبيعية التي تتقرر بالضرورة الغالبة قبل أن تتقرر بالاختيار والاستحسان.

فلما بلغت هذه الأطوار تمامها كانت الحكومة الشورية أو الحكومة الدستورية نظاما أوروبيا يتلقاه الشرقيون عن الأوروبيين، ولا يتلقونه مذهبا غريبا يحتاج إلى إقناع، ولا عقيدة جديدة تحتاج إلى تبشير. •••

نعم إن القارة الأوروبية عرفت النظام البرلماني على صورة من صوره الأولى قبل الميلاد بعدة قرون، فنشأ مجلس الشيوخ في رومة، ونشأت المجالس التي تمثله في أثينا وإسبرطة وبعض الأقاليم الإغريقية، ثم نشأت بعدها مجالس أخرى أدنى إلى نظام المجالس التمثيلية الحديثة، وأقرب إلى الحكم الديمقراطي الذي تشترك فيه جميع الطبقات.

ولكنه كان هنا «نظاما» من النظم الخاصة، ولم يكن الأمر فيه أمر المبدأ العقلي والحقوق الإنسانية، فلم يعمل اللاتين والإغريق بهذه النظم تقريرا لحق الإنسان في الحرية، أو تعميما «لمبدأ عقلي» يجوز تطبيقه أو يجب تطبيقه في جميع المدن وبين جميع الشعوب، ولكنهم عملوا به لأنه حيلة صالحة لسياسة أمة بعينها على أقدار من فيها من رؤساء العشائر، ومن يتنافسون على الحكم والسيادة.

ولما تطور الحكم الشعبي في أثينا على عهد كليستين الديمقراطي حتى أصبح حق النيابة حقا عاما لمن بلغ الثلاثين في الدوائر الانتخابية المختلفة، لم يكن هذا «التطور» عقيدة إنسانية قابلة للتعميم، ولا تسليما بالمبدأ الذي يقوم على الحرية وتقضي به الأصول الأخلاقية، ولكنه كان تدبيرا موضعيا يناهض به تدبير الطغاة الذين كانوا ينافسون ذلك الزعيم الديمقراطي بقوة القبيلة أو قوة العصبية. ولعله قد خطر له الاستنجاد بجماهير السواد لإشراكها في الحكم كما خطر له الاستنجاد بالفرس لانتزاع الحكومة من طغاة القبائل والعصبيات.

فالحضارة العربية قد سبقت الغرب بمبدأ الحكومة الشورية في مجال العقيدة والأخلاق.

والغرب قد سبق الحضارة العربية بحكومة الشورى في مجال النظم الواقعية التي تتمخض عنها حوادث التاريخ.

ولا نظن أن الحكم الدستوري كان ينتقل إلى بلاد الشرقين الأدنى والأوسط بهذه السهولة لو لم يكن له أساس قائم من عقائد الناس، واعتراف الحاكمين والمحكومين بمبادئه وأصوله؛ فإن الأمم الغربية قد ضيعت جهودها الأولى في إكراه الحكام المطلقين على النزول لها عن دعوى الولاية «بالحق الإلهي»، ودعوى السيادة عليها بتفويض السماء، فكان عليها أن تجتاز نصف الطريق - بل نصفه الأوعر الأطول - في تقرير المبدأ الذي سلمه العرب حكاما ومحكومين قبل نشأة الحياة النيابية الحديثة بألف سنة، وهو مبدأ الشورى، والمبالغة الحرة، والرجوع بالحكومة إلى مصلحة الرعية، واتفاق الكلمة بين ذوي الرأي فيها.

والحاكم المطلق - في الشرق أو الغرب - يأبى أن يشارك في أمره، ولا يذعن للحكم الشوري باختياره، ولكن الفرق العظيم بين حاكم يستطيع أن ينكر أساس الحكومة النيابية، وحاكم لا يستطيع إنكاره، ولا يجسر على الجهر بذلك الإنكار مخافة اتهامه بالخروج على أحكام الدين وعصيان رب العالمين، بل الفرق عظيم بين حاكم ينكر الحكم النيابي وهو يعتصم بالحق الإلهي وتفويض السماء، وحاكم يخاف من إنكاره لأنه يخالف الحق الإلهي كما يخالف تفويض السماء بذلك الإنكار.

لذلك كانت معارضة السلاطين والأمراء الشرقيين في الحكومة الدستورية معارضة تقوم على الأعذار الموقوتة، ولم تكن معارضة قائمة على الأسس والأصول، وكان معظم هذه الأعذار مما يرجع إلى السياسة الأوروبية والعلاقات الأجنبية التي كانت تعوق النظام النيابي في بلاد المشرق، وتمهد العذر للسلاطين والأمراء في المعارضة أو التسويف.

فكان سلطان الدولة العثمانية يؤمن بواجب الشورى، ويسمي الرتبة الكبرى عنده رتبة «المشير»؛ لأنه يخشى أن يصارح رعيته بأنه يستأثر بالرأي، ويتولى شئونها على سنة الاستبداد، ولكنه كان يمانع في تعميم الحكم النيابي بين رعاياه؛ لأن فريقا من هؤلاء الرعايا يخالفونه في الجنس والدين واللغة، ويمالئون الدول الأوروبية عليه، ولا يخلصون في خدمة الدولة إذا تسنموا مناصبها العليا، واطلعوا على موضع الأسرار من سياستها الخارجية أو سياستها الداخلية.

وكانت المناظرة بين روسيا وبريطانيا العظمى في البلاد الإيرانية تحول دون استقرار الأمر، وانتظام السعي في توطيد الحكومة النيابية؛ لأنهما تبلغان من بطانة الحكم المطلق ما لا تبلغانه من حكومة نيابية تخضع لرقابة الشعب، وتكشف له عن تصرفاتها في مسائل الشركات والامتيازات.

وقد نزل المحتلون الإنجليز بمصر في أواخر القرن التاسع عشر وفيها حكومة نيابية تطورت بها التجارب المتوالية من عهد محمد علي الكبير، فعطلوها لأنهم لا يستطيعون أن يجمعوا بين إشرافهم على الإدارة المصرية وإشراف المجلس النيابي عليها، ثم اقترن طلب الدستور بطلب الاستقلال، فأصبحت الحكومة النيابية مرادفة للحكومة الوطنية في برامج الأحزاب المصرية، وأصبح الحكم الأجنبي هو الحائل الأكبر دون قيام الحكم النيابي الذي ينشده أحرار المصريين.

وعلى هذا تعتبر الحياة النيابية كما رسمتها الأوضاع الحديثة ثمرة أوروبية انتقلت إلى الشرق من حضارة الغرب في العصر الحديث، ولكن الشرقيين عرفوها فاقتبسوها، ولم يعرفهم بها الغربيون فيفرضوها عليهم فرض المعلمين دروسهم على التلميذ الذي يكره ما يفرضونه عليه؛ لأن مطامع الغرب كثيرا ما عرقلت خطوات الشرق كما رأينا في حركاته الدستورية، والفضل في تهيؤ الشرق لقبول هذه الثمرة الأوروبية راجع إلى عقيدة الحرية والشورى التي بثتها حضارة العرب بعد ظهور الإسلام، ولم تكن غريبة عن الحياة العربية الأولى قبل ظهور الإسلام.

الوطنية

حب الوطن غريزة معروفة في الإنسان من أقدم عصوره الاجتماعية، عرفت في البدو الرحل كما عرفت في سكان المدن وأصحاب الأرض الزراعية ، وبقيت لنا من دلائلها في اللغة العربية هذه القصائد التي يتغنى بها إلى اليوم من يذكرون الديار، ويحنون إلى المرابع والأطلال، ولو طال بهم عهد فراقها، وانقطعت عليهم سبيل الرجعة إليها.

لكن الوطنية بمعناها الحديث شيء غير هذه الغريزة؛ لأنها مجموعة من الحقوق أو الصلات الروحية والثقافية قد انفرد بها الإنسان في عصره الحديث، بعد القرن الثامن عشر على وجه التقريب، واختلف فهم الناس إياها عن ذلك الشعور الغريزي الذي يتفق فيه الإنسان وكثير من الأحياء الأنيسة، بل يتفق فيه الإنسان وبعض الضواري التي تأوي إلى عرائنها وأوجارها وآجامها، ولا تستبدل بها غيرها ما استطاعت المقام فيها.

ولم يكن من الميسور أن تنشأ الوطنية بمعناها الحديث قبل القرن الثامن عشر، أو قبل الأطوار الاجتماعية التي تقدمتها وكانت ممهدة لظهورها وانتقالها من حيز الغرائز المشتركة إلى حيز الصلات الروحية والثقافية التي ينفرد بها الإنسان في مجتمعاته؛ لأن هذه الأطوار كانت تناقض الوطنية في بعض الأحوال، وكانت تخيفها في أحوال أخرى، وكانت على الجملة خطوات سابقة لا بد منها قبل التطرق إلى الخطوات التي تليها.

فكان لا بد من تطور عهد الإقطاع قبل شعور الإنسان بوطنه في نطاقه الواسع، ومصالحه المتشابكة؛ لأن انتماء الناس إلى «إقطاعات» متعددة في قطر واحد يربطهم بضروب شتى من الولاء للسادة المتعددين الذين يسيطرون عليها، ويعودهم ضروبا من المخالفات والمخاصمات تتغلب فيها الزمرة والطائفة على الأمة أو الدولة نفسها في بعض الأمور.

وكان لا بد من تطور الجامعات الدينية قبل الشعور بمعنى هذه الوطنية؛ لأن الإنسان يرضى في الجامعات الدينية أن يحكمه من ليس من أبناء وطنه لاتفاق الحاكم والمحكوم في العقيدة والمراسم الروحية، ويكره أن يحكمه من لا يدين بدينه ولو كان من بلده وجواره، ولا يزال كذلك حتى يتعذر حكم الأوطان المختلفة بحكومة واحدة قائمة في مراكزها البعيدة عنها؛ لاختلاف المرافق، واختلاف النظر إلى الحقوق والتبعات، ونشوء الطبقات الاجتماعية التي تتنافس في الأوطان المتعددة، وإن جمعتها علاقة وثيقة واحدة.

ولما تطور عصر الإقطاع وعصر الجامعات الدينية معا، أو على التعاقب بين جيل وجيل، قام من بعدهما سلطان الملوك المطلقين الذين ساعدتهم قوتهم المطلقة على قهر أمراء الإقطاعات، والاستئثار بسلطان العرش وما يرتبط به من الدعاوى والحقوق، وكانت قوتهم كفيلة لهم ببسط كلمتهم على رعاياهم، وحصر فرائض الولاء في أشخاصهم أو في أسرتهم، وكانت «المملكة» سابقة للأمة، أو سابقة - بطبيعة الحال - للحقوق التي تنشأ من الاعتراف للأمة بالسيادة على بلادها، ولا يفهم الوطن على أنه بلاد «الأمة» ومناط سيادتها قبل أن تصبح الأمة مصدرا للسلطان كله، ويصبح الملك خادما للوطن ينوب عن الأمة في تدبير مصالحها، وقبل أن تنبغ الطبقة الوسطى التي تضطلع بالحكم مع تقييد الملوك وزوال السادة الإقطاعيين.

وهذه هي العقيدة التي تمخضت عنها أطوار كثير من عصر النهضة إلى عصر الثورة الفرنسية، ولم يكن قد توطد لها الأساس الذي تعلو عليه قبل تمام تلك الأطوار.

ولقد كانت الأمة العربية أولى الأمم أن تنشأ فيها الوطنية بهذا المعنى الحديث قبل نشأتها في أعقاب الثورة الفرنسية؛ لأنها كانت تدين بأن الأرض لله، وأن الملك خادم الشعب يحكمه باختياره قبل أن تتقرر هذه الآراء في أمم الحضارة الغربية، ولكن التاريخ لا يسبق أوانه، ولا بد للجامعة الدينية من دور تجري فيه وتبلغ مداه.

وقد كانت في أوجها وكانت معالم الوطنية في غيبها تنتظر أسبابها ومواقيتها، فلما حان الميقات المقدور كان من عجائب أطوار التاريخ أن يأخذها الشرقيون عن الغربيين، وأن يأخذوها تارة كارهين وتارة مختارين.

نعم أخذوها تارة كارهين وتارة مختارين؛ لأنهم أخذوها بالتعليم والمحاكاة، وأخذوها بكفاح الثورة على الاستعمار، فكانت المناداة بحقوق الإنسان هي فاتحة الاعتراف بحقوق الأوطان، وكانت غارة الأوروبيين على أوطان الشرقيين محرضا لأبناء تلك الأوطان على المطالبة بتلك الحقوق، وأشعل فيهم نار الغيرة الوطنية أن الاستعمار يمسهم في كرامتهم وعقائدهم ومصالحهم، ولا يرضيهم بحالة واحدة من الحالات التي تسوغ للمرء باختياره أن يحتمل الخضوع لمن يخالفه في الموطن واللغة والدين، وينازعه الرزق، وينكر عليه الحقوق التي ينادي بها في بلاده ويسميها بحقوق الإنسان.

نعم إن المغلوبين كانوا يثورون على الغالبين في جميع العصور قبل المناداة بحقوق الإنسان، ولكنهم كانوا يثورون للأنفة من الغلبة، والألم من الغصب والمشاركة في الأرزاق، وهي ثورة لا ترجع إلى الإيمان بالحقوق الوطنية، ولا إلى إنكار حق الغالبين في تسخير المغلوبين، بل ترجع إلى كراهة الضيم، ومقابلة العدوان بالعدوان.

ويختلف الصراع على الغلبة جد الاختلاف من هذا الصراع بين غاصب الحق والمطالب به، وهما متفقان معا على حق صاحب الوطن في وطنه؛ فإن الثائر القديم إنما كان يثور لأن حالة السيد المطاع خير من حالة العبد المطيع، ولأن الأمر لا ينزل عن رزقه وكرامته وهو قادر على أن يحتفظ بهما لنفسه. أما الثائر الحديث فهو في موقف «المقاضي» الذي يطالب بتراثه وماله، ويرد الأقوياء إلى شريعة غير شريعة الغلبة المرفوضة في ضمائر الناس.

وظلت العاطفة الوطنية ممزوجة بالعاطفة الدينية في شئون السياسة العامة ردحا من الزمن بعد الاعتراف بسيادة الأمة، وقيام «فكرة الوطن» على هذه السيادة، وكان شأن أوروبا في ذلك كشأن الأمم الشرقية بغير اختلاف كبير، فثارت إيطاليا واليونان في طلب الاستقلال، وكلتاهما أمة ذات تاريخ عريق في الثقافة والفن وأصول الحضارة الأوروبية، ولكن حماسة أوروبا لنصرة القضية الإيطالية لم تبلغ قط الحماسة الشعبية لنصرة القضية اليونانية؛ لأن اليونان كانت تثور على الترك إذ كان الإيطاليون يثورون على النمسا أو على الكنيسة البابوية.

وفي الوقت الذي كانت فيه أمم كأمم البلقان تظفر من العطف الأوروبي بأوفى نصيب في قضايا المطالبة بالاستقلال، كانت أوروبا تنظر بعين الموافقة أو قلة الاكتراث إلى تقسيم الوطن البولوني بين روسيا والنمسا وألمانيا، وعلى بعضها حكومات تغلغلت فيها جراثيم الفساد والاستبداد، وأنكرت حقوق الإنسان ومبادئ الاعتراف بالأوطان.

وظهرت نزعة الاستقلال عن دعوى الخلافة الدينية بين الشرقيين المسلمين في أوائل القرن الثامن عشر مقترنة بظهور هذه النزعة في القارة الأوروبية، فكان السلطان العثماني الذي يلقب بلقب الخلافة يولي على مصر واليا من قبله، ويختار المصريون المسلمون واليا غيره كما حدث على عهد محمد علي الكبير.

ونادى طلاب الاستقلال «بأن مصر للمصريين» في أواسط القرن التاسع عشر، وجعلوا هذا المبدأ شعارا لهم في حركة التحرير مع قيام السيادة العثمانية التي زالت بعد ذلك بخمسين سنة ... ثم ظلت هذه السيادة تتردد في بيئات الأحزاب السياسية إما بفعل الشعور الديني، أو بدافع من الرغبة في مقاومة الاحتلال البريطاني بحجة شرعية لا ينكرها.

فلم يكن هذا الامتزاج بين عواطف الوطن وعواطف الدين غريبا في عالم الواقع أو عالم التفكير؛ لأن العواطف الجديدة في تطور الأمم لا تولد دفعة واحدة خالصة من آثار سوابقها وملابستها، وكان على العالم كله - بين شرقيه وغربيه - أن يقضي زمنا ما قبل أن يفهم أبناء الوطن أن حرمانهم نعمة الحرية والاستقلال هو اعتداء عليهم وعلى كرامتهم، ولو جاءهم هذا الاعتداء ممن يماثلهم في النحلة أو اللغة أو العقيدة الدينية.

وربما كان الأصح - أو الأوضح - في تفسير الحقائق أن يقال: إن معنى الوطنية الحديث وليد الحضارة العصرية لا وليد الذهن الأوروبي أو الطبائع الغربية؛ لأن قارة أوروبا وجدت منذ القدم ولم توجد فيها الوطنية بمعناها الحديث، فلما انتهت أطوار الاجتماع إلى حضارة العصر الحاضر كانت أوروبا هي مسرح التاريخ الذي تمثلت فيه هذه الأطوار، وكان فضل الأمم الشرقية في فهم هذا المعنى الحديث أنها نقلته بشيء من الاختيار والتمييز، ولم تنتظر به تسلسل الوقائع التي مرت تباعا بالأوروبيين قبل أن تفرضه عليهم الضرورات.

الحركات الدينية

تعلم الشرقيون من أوروبا ليقاوموها بسلاحها.

ويقال هذا عن الشرق الأقصى كما يقال عن الشرق الأدنى، مع اختلاف العقائد والبيئات والأحوال الاجتماعية؛ فإن اليابانيين لم يتحركوا لمحاكاة أوروبا في حضارتها وعلومها وصناعاتها إلا بعد أن اصطدموا بها وعجزوا عن مقاومتها.

وكان الفضل الأكبر لأوروبا على الشرق كله هو الفضل الذي جاء على الرغم منها، وهو تنبيه أذهان الشرقيين إلى حقائق الحياة، وتفتيح أنظارهم على الأسباب الصحيحة التي تقترن بها نهضات الشعوب.

وكان الشرقيون قبل ذلك يعلمون أنهم متأخرون متخلفون، ولكنهم يفهمون العلل التي أخرتهم وقضت عليهم بالتخلف في سباق الأمم كما يفهم الجاهل علة مرضه وعجزه، فيرجع إلى الشعوذة ولا يرجع إلى الطب الصحيح، ويسأل الدجالين والممخرقين ولا يسأل الأطباء والعارفين، وقد جهلوا دينهم كما جهلوا دنياهم؛ لأنهم خلطوا بين عاداتهم وعقائدهم، وبين خرافات الجمود وحقائق العبادات، فإذا قيل لهم: إنهم تأخروا لمخالفة دينهم ونسيان وصاياه وآدابه؛ عادوا إلى الخرافة الفاشية ولم يعودوا إلى الدين المهجور.

فلما قهرتهم أوروبا مرة بعد مرة في عدوانها عليهم ومقاومتهم لعدوانها؛ فهموا مضطرين أسباب هذه الغلبة، ورجعوا بعد حين إلى علومها وصناعاتها ونظم السياسة والحكم فيها، فرجعوا إلى الأسباب الطبيعية، وفهموا علل الوقائع أمامهم على وجهها المعقول، فكان ذلك أول تدريب للذهن على حسن التعليل وفهم طبائع الأشياء، وكادت الآراء أن تتفق على منهج واحد للإصلاح: وهو اقتباس العلم الحديث، ومجاراة العصر في المعيشة والتفكير.

وأقبل المسيحيون من أبناء الشرق على المدارس العصرية يتعلمون ما تلقيه عليهم من دروس التعليم الحديث غير متحرجين من موضوعاتها، ولا من نيات التعليم فيها، وأحجم المسلمون عن المدارس التي فتحت في بلادهم؛ لأنها كانت في أيدي المبشرين وأعوان التبشير، ولكنهم لم يحجموا عن إرسال أبنائهم إلى أوروبا نفسها حيث تنفصل المدارس عن الهيئات الدينية، فجمعت حكومة مصر في عهد محمد علي الكبير مئات من نخبة الطلبة لإرسالهم إلى العواصم الأوروبية، وتعليمهم الطب والهندسة والآداب والفنون العسكرية على أساتذتها، أو لتزويدهم في مصر بما يستطاع تدريسه بها من تلك العلوم على أساتذة من الأوروبيين.

ولم ينقض جيل أو جيلان بعد احتكاك أوروبا بالشرق حتى اتفقت كلمة المسلمين على نظرة جديدة إلى الدين، وأجمعوا في أنحاء الأرض على أن البدع والخلافات التي شقي بها أسلافها، وشقوا بها في زمانهم ليست من الدين الإسلامي في شيء، ولكنهم سلكوا في علاج الداء مسلكين مفترقين على حسب نصيبهم من العلوم العصرية؛ فجنحت الأمم التي أخذت بنصيبها منها إلى التوفيق بين الدين والعلم الحديث، وجنحت الأمم الأخرى إلى نبذ جميع المستحدثات والرجوع بالدين إلى بساطته الأولى كما فهموها، ونشأت هنا وهناك حركات دينية شتى بعضها على هدى، وبعضها على ضلال، ولكنها كلها كانت من قبيل الحركات الطبيعية التي تتصل بطبائع الأمم، وبواعث البيئة في حاضرها وماضيها، ولم تكن محض اختراع منقطع عن الدنيا، محصور في النزعات الأخروية التي يفرغ لها من خرجوا بنسكهم وعبادتهم من معترك الحياة.

ولهذا أخذت هذه الحركات من طبائع الأمم التي ظهرت فيها، سواء منها ما اهتدى أو ضل عن السواء.

فظهر في الهند «غلام أحمد القادياني»، فزعم أنه هو عيسى ابن مريم، وأنه هو المهدي وهو الإمام المنتظر في مذهب الشيعيين؛ ليوفق بين الإسلام والمسيحية، وبين الشيعيين والسنيين، وادعى فيما ادعى أنه تلبس بروح مريم العذراء، ثم تلبس بروح المسيح على النحو الذي يمثل به البراهمة صورة برهما وهو يجمع بين الذكورة والأنوثة في جسد واحد. وصدق نفسه وصدقه أناس من مريديه حين خيل إليه أنه روح الله حلت في جثمان إنسان؛ لإنقاذ المسلمين والمسيحيين والبراهمة بدينه الجديد.

ومن اليسير جدا أن يلمس المرء في هذه الحركة بقية من بقايا البيئة الهندية التي نشأت فيها عقيدة تقمص الأرواح، وتجدد الروح في جثمان بعد جثمان، تارة جثمان ذكر، وتارة جثمان أنثى، ومرة رسم حيوان، ومرة رسم إنسان.

وظهر في إيران ميرزا علي محمد الشيرازي، وزعم أنه الإمام المنتظر، ثم انتحل عقيدة الإسماعيلية، وبث فيها عقيدة وحدة الوجود، ثم وثب من ذلك إلى القول ببطلان الشريعة الظاهرة، والأخذ بالحقيقة الباطنة التي تبيح أصحاب الحلول - حلول الإله في الإنسان - أن يتصرفوا في الأحكام والقواعد الدينية تصرف الوحي الجديد؛ لأنهم يستوحون مشيئة الله فيما يقولون ويعملون، ثم جهر بإلغاء بعض الشعائر المقدسة التي اتفق عليها المسلمون بنصوص القرآن.

ومن اليسير جدا أن نلمس في هذه الحركة نزعة البيئة التي نشأت فيها طلائع الباطنية والإسماعيلية، بل نزعة البيئة التي نشأ فيها الإيمان بحلول أورمزد في جسد «مترا» رسوله الأمين في حربه الأبدية لإله الشر أهرمان.

وظهرت في الجزيرة العربية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي تنكر الترف في الكساء والبناء ، وتبطل معاني الرموز والإشارات والتوسل بشيء من الأشياء يقع عليه الحس، من جماد أو ذي حياة.

ومن اليسير جدا أن نلمس فطرة الصحراء في هذه الصرامة الخلقية، وهذا الفصل الحاسم بين عالم الحس وعالم الغيب، خلافا لتلك الأقاليم الهندية والفارسية التي امتزج فيها الحس بالتخيل، واتصل فيها عالم الأرض وعالم السماء.

وظهرت في السودان دعوة المهدية لتحريم الترف والتبلغ بالطعام اليسير، والاكتفاء بالمرقعات التي يلبسها الدراويش، وتحريك الشعب لجهاد «الترك» وإخراجهم من البلاد، وهم عند أصحاب هذه الدعوة كل جنس غير الجنس العربي، ولا سيما الأجناس البيضاء.

ومن اليسير جدا أن نلمس في هذه الدعوة ثورة السوداني على مستغليه بالوسيلة التي في وسعه أن يثير بها إخوانه للجهاد، ومحاولته أن يعالج الفساد بالعلاج الذي يجدي في معيشة السودان البدائية، التي كانت يومذاك خلوا من عقد الحياة العصرية ومشكلات المجتمع الحديث.

وظهرت في مصر دعوة الإصلاح التي وجدت إمامها الأكبر في الشيخ محمد عبده - رحمه الله - فكانت تعليما جديدا في مدرسة قديمة، أو كانت تفسيرا للقوانين الإلهية لا يخرج بها عن نصوصها، ولكنه يحفظها في تلك النصوص، ويقتبس منها المعنى الذي يوافق معارف العصر الحديث.

ومن اليسير جدا أن نلمس في هذه الدعوة روح مصر التي عرفت نظام الحكم منذ ألوف السنين، وتعودت أن تدين بنصوص الأمر والنهي من ملك بعد ملك، وأسرة بعد أسرة، فليس فيما تعمله أو تدين به إلا ما هو نص محفوظ، أو مستمد من النص المحفوظ، بالمعنى الذي لا يخرج عليه ... أو هي روح مصر التي عرفتها منذ قام فيها بالنبوءة فرعونها أخناتون ... وهي الأمة الوحيدة التي تلقت نبوتها من عرش وصولجان.

وليست الحركات الجامحة بين هذه الحركات هي الأثر الباقي أو الأثر الشامل الذي أحاط بالعالم الإسلامي في حركة الاضطراب التي جاشت بين أرجائه من جراء الصدام بينه وبين الحضارة الأوروبية، ولكنها هي العجاجات التي دلت على قوة الرجة واختلاف مهاب الرياح. أما الأثر الباقي أو الأثر الشامل، فهو خلوص الأذهان من أوشاب الخرافات والأباطيل التي كانت تعوقها عن فهم الحقائق، وإدراك العلل والأسباب، والاستواء على نهج التفكير الصحيح، والإيمان بالدين إيمانا لا يمنع التقدم، ولا يعرقل جهود المصلحين، وتمكين المسلم من أن يرضي عقله، ويرضي ضميره، ويزيل الفوارق ما استطاع بين رضى العقل ورضى الضمير.

وقد صمد الإسلام للرجة الأولى وانتظمت المصالحة بينه وبين الحضارة العلمية، فلم تعد المشكلة اليوم بينه وبين العلم الحديث أو التفكير المستقيم، وإنما المشكلة اليوم أن يؤدي رسالته ورسالة الأديان عامة في مكافحة اللوثة المادية التي تلغي مطامح الروح، وتود لو جعلت الإنسان حيوانا بغير دين غير دين المعدات والأجسام.

الأخلاق والعادات

من العسير أن يقال: إن الأخلاق الأوروبية انتقلت إلى الشرق بمحاسنها أو مساوئها بعد احتكاك الشرقيين بالحضارة الغربية؛ لأن العوامل التي تتولد منها الأخلاق - بين وراثية وإقليمية واجتماعية - لا تنقل من أمة إلى أمة في فترة قصيرة كالفترة التي مرت بالشرق الحديث بالقياس إلى تاريخه الطويل.

لكن التشبه بالأمم الغالبة في عاداتها ومظاهر معيشتها هو نفسه عادة من العادات الأصيلة في طبائع الناس، وقد تعودها الشرقيون كما تعودتها من قبلهم سائر الأمم، فتشبهوا بالأوروبيين في هذه المظاهر منذ شعروا بالافتقار إلى مصنوعاتهم، واستكانوا إلى الضعف أمام قوتهم، فلبسوا ملابسهم، وأكلوا مأكلهم، وسلكوا في أوقات فراغهم ولهوهم مسلكهم، وكثر ذلك في المدن الكبرى والموانئ المطروقة لضرورة الاتصال بين أهلها وبين الأوروبيين في المعاملات والمرافق التجارية، ثم تسرب قليلا قليلا إلى داخل البلاد جريا على سنة أهل الريف في محاكاة أهل الحضر، والتمثل بهم في سمت الوجاهة، وشارات الترف والحضارة، فتجاوزت المحاكاة حدود الضرورة ومقتضيات المعاملة.

وكان من تلك العادات ما هو خير وما هو شر؛ فمن الخير الإقبال على الألعاب الرياضية والنزهة الخلوية، ومن الشر الإقبال على المراقصة والمخاصرة بين الجنسين، ومع وجود الرقصات الوطنية البريئة التي يتلاقى فيها الجنسان على نحو لا يخالف آداب المروءة والفروسية، ولا يصعب تهذيبه وتحسينه حتى يصبح رياضة من الرياضيات التي تحيي النفس والجسد، ولا تخل بالأدب والحياء.

وليس من الحق أن الحضارة الأوروبية خلقت الفساد في الشرق خلقا من حيث لم يكن له وجود قبل تمرس الشرقيين بأسباب تلك الحضارة؛ فإن الشرق قد مني في أيام جموده واضمحلاله بضروب شتى من الفساد كانت تنخر في عزائمه وتضنيه، ولكن الحق أن الحضارة الأوروبية زودت الفساد بمسحة من الطرافة تستهوي النظر، وتنفي عنه الشين الذميم الذي كان يصد عنه أصحاب المروءات، فاستباحه من لم يستبحه قبل ذلك.

ولم تسلم أصول الأخلاق من صدمة عنيفة أو مساس رفيق من جراء الالتقاء بين الشرق القديم والحضارة العصرية؛ فإن أصول الأخلاق تقوم على العرف أو سلطان الجماعة على الأفراد، وقد صدمت هذه الأصول في الصميم، عن قصد وعن غير قصد، من الأوروبيين أو الشرقيين على السواء، وكانت صدمتها من جهتين مختلفتين، وقد يبدو للنظرة الأولى أنهما متناقضتان.

فالمظاهر الأوروبية قد خامرت قلوب الشرقيين بالشك القوي في حقائق العرف الاجتماعي الذي درجوا عليه، فرجعوا إلى أنفسهم يتساءلون عن قواعد ذلك العرف ومبلغها من الحقيقة والسداد، واعتراهم هذا الشك في عرفهم القديم قبل أن يخلفوه بعرف جديد يناسبهم، ويصلح لهم، ويتأتى لهم أن يتواضعوا عليه. وهذه إحدى الصدمتين.

أما الصدمة الأخرى، فكانت من قبل الحرية الفردية التي أباحت للفرد فجأة أن يستقل بأهوائه ونزواته وآرائه، وإن خرج بها عن آداب الجماعة المتفق عليها؛ فأصبحت الحرية مرادفة لطلب التغيير والتبديل، أو مرادفة للجرأة على النقد والمعابة، واقترنت قلة الحياء بقلة المبالاة، كما اقترنت الشجاعة الأدبية أحيانا بالإقدام على المعايب والشهوات.

وإذا كان في هذا التحول مدعاة للتشاؤم والتطير من المستقبل، فهو لا يخلو في بعض دلالاته من دواعي التفاؤل والرجاء؛ لأن عصر الجمود في البلاد الشرقية قد خلف وراءه كثيرا من الأنقاض المعطلة والأركان المتداعية، ولا بد من هدم قبل كل بناء، ولا بد من غبار وسقوط حول كل مهدوم، ولا بد من تعثر قبل كل استقامة على السواء، فإذا تكشف الغبار واتضحت القواعد الباقية، والقواعد التي يرتفع البناء الجديد على أساسها؛ فقد يهون التشاؤم، ويبطل التطير، وتتراءى للبصائر والأبصار معالم الثقة والاطمئنان.

والحكم للغد فيما يقر عليه القرار؛ فليس على الغيب بعزيز أن تنبعث من جانب الشرق رسالة روحية تتجدد بها أخلاق الشرقيين وأخلاق الغربيين، فكلها في حاجة إلى التجدد في هذا الزمان.

الأدب والفن

تصدى للترجمة إلى اللغة العربية قديما أناس من غير أهلها.

واشتغل أهلها بالترجمة وهم يجهلون لغتهم ولا يحفظون قواعدها أو يحسنون أساليبها.

فوقر في الأذهان أن أسلوب الترجمة علم على الضعف والركاكة، ومخالفة الذوق العربي والقواعد اللغوية؛ لأنه لم يخل في الزمن القديم ولا الزمن الحديث من الدخيل والمبتذل، واللحن، والتواء العبارة، وسقم التركيب.

ولكن النهضة في الشرق العربي صحبت بإحياء الكتب المهجورة، وذخائر الشعر والنثر، والتي تفيض بالبلاغة العربية من معدنها، فتجددت الأساليب، وصقلت العبارات، وسلمت الأذواق، واقترنت معرفة العربية بمعرفة اللغات الأوروبية، فخلصت الترجمة من وصمة الضعف والركاكة، وظهرت في اللسان العربي كتب علمية وأدبية تضارع أصولها في صحة تعبيرها، وفصاحة ألفاظها، ودقة معانيها.

وعادت الترجمة في هذه الكرة بنفع جزيل على اللغة العربية؛ لأنها عودت أقلام الكتاب «قصد العبارة»، وأن يعني الكاتب ما يقول، ويتابع المعنى باللفظ الذي يؤديه، ولا يرسل الكلام إرسالا بغير قصد مفهوم.

وكان الكاتب لا يحسب من البلغاء إلا إذا توخى السجع، وحشا كلامه بالقوالب المحفوظة من أقوال الأقدمين، وكان على هذا سجعا سقيما واقتباسا يساق في غير موضعه، ويند عن السياق الذي وضع فيه، فبرئت الكتابة العربية من هذه الآفة، وتخلصت شيئا فشيئا من التقليد، وثابت إلى الطبع الأصيل حسبما يستوحيه الكاتب من معارفه ومشاهداته.

وكانت الصحافة مما نقله الشرق العربي عن الغرب، فساعدته على سهولة الكتابة، وشيوع الكلمات الفصيحة، وتعدد أغراض القول، وكانت العلوم الحديثة والكتب المترجمة من الموارد الفكرية التي وسعت مسارح التأليف والتصنيف، وأنشأت طوائف شتى من الأدباء في مذاهب الوصف، ودراسة الأطوار النفسية، وقصص الواقع والتاريخ. «والقصد» هو الفائدة التي تتلخص فيها النهضة الشعرية كما كان هو الفائدة التي تتلخص فيها نهضة النثر بأنواعه، بعد احتكاك الشرق العربي بالحضارة الأوروبية.

فكان الشاعر يقول ما تعود الناس أن يقال لهم في كل مناسبة من المناسبات لا ما يريد هو أن يقول، وكان على هذا قلما يحسن المحاكاة أو يتجاوز محاكاة الببغاء لما يقع في سمعها من الجمل الجوفاء.

فنشأ الشعر المقصود، وبرزت ملامح «الفرد» المستقل في دواوين الشعراء، وقلت القوالب المطروقة بمقدار ما كثرت المعاني المطبوعة، والأغراض المبتكرة، وضاقت الأوزان القديمة بهذه الأغراض، فنجمت الدعوة إلى القافية المرسلة، والأوزان الحرة، وتوسع الشعراء في أوزان الموشحات القديمة، فأضافوا إليها كثيرا من المجزوءات والأوضاع الحديثة.

ومن المقابلة بين ديوان قديم وديوان جديد يتبين التغيير العصري الذي تجاوز الصيغ والألفاظ إلى الأغراض والموضوعات.

فلم تكن للديوان القديم سمة يتميز بها بين الدواوين غير نسبته إلى ناظمه بالاسم أو باللقب أو بالكنية؛ كديوان جرير، أو ديوان البحتري، أو ديوان أبي تمام، ولم يكن للقصائد أغراض غير الأبواب المعهودة في المدح والفخر، والوصف والغزل، والحكمة والرثاء والهجاء، ولم يكن للقصيدة عنوان يميزها بين قصائد الديوان الأخرى.

فبرزت «الملامح» المعنوية في الدواوين الحديثة، وأصبح للديوان اسم يشير إلى فحواه، وللقصيدة اسم ينم على موضوعها، وللنظم أغراض في الرواية والمشاهدات النفسية أو الاجتماعية، والرموز الفلسفية أو الفنية، واعتمد الشعراء على القراء وما يحسونه ويتوقون إلى النظم فيه، وكان معتمدهم قبل ذلك على الممدوحين وأصحاب الهبات.

وتفاوتت الأقطار العربية في مدى التجديد على حسب تفاوتها في أسباب المحافظة على القديم، وأقوى هذه الأسباب هو الاقتراب من المناسك، أو مواطن البداوة، أو جامعات العلم التاريخية، فهي تمنع التجديد أن ينطلق بغير كابح يشتد أو يلين. •••

وراجت الفنون الجميلة في الشرق العربي على قدر نصيب الفن من الطبيعة الاجتماعية، فسبق التمثيل، ولحق به الغناء ثم التصوير، وكان أروج الفنون ما يجمع بين الرؤية والسماع والفكاهة في وقت واحد، كالعرض (الريفيو أو الاسكتش)، والحوار، والديالوج، والألقية (المونولوج)؛ لأنها تجمع في المحافل بين التمثيل والموسيقى والرقص في بعض الأحوال، ولهذا لا تزال صبغة التسلية أوضح وأروع من صيغة الفن المحض الذي يراد لمعناه الرفيع . •••

ومن المفارقات الصادقة أن الاقتباس من أوروبا عاق فن التمثيل عن بلوغ شوطه في التقديم والأصالة؛ لأن أصحاب المسارح استطاعوا تسلية الجماهير بنقل المناظر التمثيلية التي تقوم على المفاجآت والألاعيب المسرحية، ولا ترجع إلى طبيعة البيئة لتستلهم منها موضوعاتها ونماذجها الشخصية، ولم تزل آفة التسلية في جميع معارضها أن توكل الفن بالذوق الشائع المبتذل، وليس هو على الجملة بأفضل الأذواق.

ثم ابتلي التمثيل بمزاحمة الصور المتحركة؛ فأصبح من الميسور أن يعمل في التمثيل السينمائي من لا يحسنون الفن، ولا يتكلفون جهدا من الجهود الثقافية؛ لأن التمثيل السينمائي يجري في عزلة عن النظارة، ويستطاع تحضير أدواره قطعة قطعة في أوقات متفرقة، كما يستطاع تصحيح أخطائه كلما وقع الممثلون والممثلات في خطأ منها؛ فبطلت الحاجة إلى الإتقان ودراسة الثقافة الفنية، وتيسر الربح الجزيل مع الخبرة الناقصة والجهد اليسير؛ فأصيب الفن الصحيح بحبسة في النمو يحاول الخلاص منها، ولم تسفر هذه المحاولات بعد عن مصيرها.

واستقر الذوق الاجتماعي في الموسيقى والغناء على نبذ الألحان القديمة؛ لأنها في جمودها وقعوها وغلبة «التثاؤب» عليها لا تلائم حركة الجيل الحديث، ولكنه أعرض عن القديم ولم يخلق له نمطا مطبوعا يستقل به عن المحاكاة والتلفيق؛ فأصبحت الأغاني الفنية الحديثة توقيعا لا يعرف له زي مرسوم.

ومن عجيب ما يلاحظ أن التصوير الشرقي على تأخر ظهوره بين الفنون الجميلة كان أسبقها إلى التقدم والاستقلال، فنبغ في الشرق العربي مصورون من أصحاب الطريقة المدرسية، أو الطريقة الإحساسية يضارعون نظراءهم في الأقطار الأوروبية، أو يحسبون من تلاميذهم المجودين، ولعل هذا الفن قد نشط في طريق التقدم لأنه يستند إلى ثقافة الأفراد، سواء كانوا من المصورين أو من طلاب الصور ومشجعيها، وأذواق الأفراد في جملتها أسبق من أذواق الجماعات.

وحدث ما كان منظورا أن يحدث من تعديل في طرز البناء وزخارف فن العمارة، تبعا لتغير العادات وعوارض العمران، فبعد سفور المرأة لم تعد ثمة حاجة إلى المغالاة في إقصاء زوايا الحريم عن الطرقات العامة والأفنية المكشوفة، وبعد المراوح الكهربائية وأجهزة التكييف الهوائي لم تعد ثمة حاجة إلى الخوخات والأقبية والمشربيات، ولا إلى تعلية السقوف ومداخل التظليل، وبعد غلاء ثمن الأرض وتقسيم الطرق والميادين تعذر اقتناء الفدادين الواسعة لإقامة القصور في قلب المدينة.

وكان سراة القوم يختارون السكن في قلب المدينة ليستأثروا بوسط العمار، فلما انتظمت المواصلات الخاصة والعامة عظم الإقبال على الضواحي النائية، وشاعت نماذج «الفيلات» التي اشتق الغربيون اسمها من اسم الريف والخلاء.

ولا يخفى أننا نلم هنا بالخطوط المجملة والخطوط العريضة الناتئة، ولا نستقصي جميع التفصيلات التي تتشعب هنا وهناك ويقع فيها الاختلاف بين أمة وأمة، وبين إقليم وإقليم في الأمة الواحدة حيثما اختلفت دواعي الحضارة والعمران.

الصحافة

نشر الدعوة السياسية عمل من الأعمال التي حذقتها الأمة العربية في إبان دولتها الأولى، وهي دولة بني أمية، فبلغ الدعاة العباسيون بالدعوة مبلغ الفن المحكم الذي يحاط بجلائله ودقائقه ومبادئه ومراميه، ووضعوا فيه القواعد لاختيار أشخاص الدعاة، وعلاقة بعضهم ببعض في درجات الرئاسة أو درجات الزمالة، ورتبوا الدعاية وموضوعاتها، وما يذاع منها وما يضن به على غير الخاصة والصفوة المختارة.

وجاء الفاطميون فتمموا هذا الفن من جميع نواحيه، وقسموا الدعوة إلى دعوة ثقافية ودعوة دينية أو سياسية، وتذرعوا بالفلسفة لإقناع بعض العقول، وبالتصوف لإقناع بعض العقول الأخرى، وجعلوا لهم حلقات حول الدعوة لا تطلع على سر من أسرارها، ولا تفضي إلى غرض من أغراضها، ولكنها تشايعهم بمودتها فتكون لهم على خصومهم ساعة الفتنة التي يدبرون مواعيدها ومقدماتها.

ولا بد من التفرقة بين هذا الذي سبقت به الأمة العربية سائر الأمم، وبين «المؤامرات» التي كانت تدبر في الخفاء لإقامة دولة وإسقاط أخرى، فإسقاط الدول بالمؤامرات الخفية تدبير قديم عرفه الطامحون إلى الملك منذ فجر التاريخ الإنساني، وقامت به الدول في كل أرض، وبين كل قبيل، ولكنها كانت «مؤامرات» للاستطلاع والتأليب، وتحين الفرص، وتجنيد القوى العسكرية والمالية للعمل المفاجئ في الوقت الملائم الذي يرجى فيه النجاح.

ولم تكن دعوة إقناع أو حملة توجيه منظم للفكر والشعور، فإن التاريخ لم يعرف دولة قامت على مثل هذه الدعوة قبل الدولة العباسية والدولة الفاطمية، ولم تكن في ذلك خارقة ولا داعية للعجب ... لأن العباسيين والفاطميين كانوا يعتمدون في مطالبتهم بالخلافة على الحجة الدينية، والفتاوى الشرعية، فلا بد لهم من كسب الشعور وكسب العقول، ومن التوسل إلى ذلك بالدعوة المقنعة مع الاستعداد للأمر بعدة الأسلحة والجيوش.

فالدعوة السياسية - أو فن النشر - قد كانت معروفة قبل ظهور هذا الفن في أحدث صوره العصرية وأروجها وأقواها، وهي الصحافة الدورية.

ولكن الصحافة مع هذا «توليد» عصري لم يكن من المستطاع أن يوجد قبل أوانه الذي وجد فيه، وإن كثرت الحاجة قديما إلى الدعوة والدعاة.

فليس من المستطاع أن توجد الصحافة قبل عصر المطبعة السريعة التي تطبع الألوف من النسخ كل يوم، وقبل عصر الأنباء البرقية التي تجعل الاهتمام بقراءة الصحيفة منتشرا في نطاق واسع بين جمهور كبير يتشوق إلى مطالعة تلك الأنباء، وقبل وسائل المواصلات التي تتكفل بتداولها في أوانها، وقبل اختراع الصور الشمسية التي تثبت الوقائع وتمثلها، وتعرض للقراء فنونا من الملامح والأشياء للتسلية أو للتوضيح.

وإذا توافرت الأدوات جميعها، فلا بد معها من الأداة الكبرى التي هي أكبر وألزم لرواج الصحافة من كل أداة، ونريد بها أداة الجمهور الذي يعرف القراءة ويدخل في حساب الصحفيين والساسة والكتاب.

فقبل وجود هذا الجمهور لا توجد الصحافة بحال، ولا تدوم إذا وجدت بمحض الاتفاق، وقد أصبحت الصحافة مخترعا لازما يوم أصبح الجمهور قواما للدولة، أو أصبح كما يسمونه في العصر الحديث «رأيا عاما»، وأصبح «الرأي العام» مصدر السلطات والقوانين.

وانتقلت الصحافة من أوروبا إلى الشرق العربي بعد أن تمهدت لها جميع هذه المقدمات.

انتقلت إليه بخيرها وشرها، فاستفاد من خيرها كثيرا، وابتلي من شرها بكثير، ولا يزال يبتلى بها ويستفيد.

فمن خيرها - ولا شك - أنها كانت وسيلة فعالة سريعة الفعل في نشر المعرفة العامة، وبث الدعوات القومية، واستنهاض العزائم لمكافحة السيطرة الأجنبية، وترقية اللغة، ودوام التقريب بين لغة العلم والأدب، ولغة البيت والسوق.

ومن شرها - ولا ريب - أنها شغلت الناس بسفساف الأمور، وطلبت الرواج والانتشار بإثارة الفضول وتزويد القراء بما يرضيهم دون ما ينفعهم من الآراء والأنباء، وأنها سلمت زمام الجماهير لمن يستطيع أن يشتري أقلامها أو يسخرها، وأن الإقبال عليها يصرف القراء عما هو أفضل منها وأولى بالانصراف إليه من أنواع المطالعة والتحصيل المفيد.

ومهما يكن من مآخذ الصحافة عندنا وعند غيرنا فهي مآخذ لا تخلقها الصحافة، ولا ترجع اللائمة فيه على الصحافة وحدها؛ لأنها بضاعة لا تنفق ما لم تطلب ويكثر الإقبال عليها، وإن كانت الصحافة تزيد الإقبال بالترغيب والترديد.

وبنية الأمة التي تروج فيها الصحافة هي المسئولة عن شرورها، وهي المطالبة بخلق الترياق الذي يدرأ سمومها ويحتفظ بغذائها الصالح السليم.

والذي تبين من تجارب الأمم الغربية أنها أخذت تقسم الصحف عندها إلى قسمين تتسع الفجوة بينهما عاما بعد عام، وهما: قسم التسلية، وقسم المراجعة والدراسة. ومن المشاهد المتواتر في أوروبا وأمريكا أن صحف التسلية تطبع الملايين في اليوم الواحد، ولكنها لا تؤخذ مأخذ الجد والتوقير، ولا يحفل الناس ماذا تقول وماذا تبدي من الآراء، وأن صحف المراجعة والدراسة محدودة القراء، أو محدودة النطاق في الأقاليم، ولكنها مرجع معول عليه في تكوين الأفكار وتلقي المعلومات.

إلا أن الصحيفة المسلية قد تقنع قراءها بالتأثير «الآلي»، ولا تهتم بالتأثير «الأدبي» إذا ضمنت الرواج.

ومعنى ذلك أن الخبر الذي يتلقاه ثلاثة ملايين من القراء، وتتوخى الصحيفة وقته المناسب، وصيغته الشائقة، وهدفه المقصود، لن يخلو من أثر يصيب المصالح العامة، ويشيع القلق في النفوس، ويصبغ السياسة الحسنة بما يشوهها، كما يصبغ السياسة الشائهة بما يزخرفها ويحببها إلى الأنظار، ولا مبالاة في هذه الحالة بمكانة الصحيفة وكتابها في قلوب القراء؛ لأن الأثر «الآلي» يسلك سبيله إلى ملايين القراء بمعزل عن الأثر الأدبي الذي يستقبلونه بالحذر أو الإعراض إذا صيغ لهم في قالب النصيحة والتوجيه.

ولا نعلم اليوم كيف يحل الغرب والشرق مشكلة الصحافة في الجيل القادم، ولكننا نستطيع أن نعلم ماذا يكون إذا سارت الأمور على استقامة وصلاح، وماذا يكون إذا سارت على نقيض الاستقامة والصلاح.

فإذا بقى التأثير الآلي مقرونا بالرواج والقوة؛ فهو خطر وبيل العواقب قد يربي على جميع ما ابتلاه الناس من أخطار الدعاية في أطوار التاريخ.

وإذا خيف من الشر أن يبلغ مداه فقد تعتصم منه الإنسانية بالترياق الوحيد الذي يجدي عليها في هذه الحالة، وهو إسقاط «الدعاية الآلية» من كل حساب، والفصل بين صحافة التسلية وصحافة الرأي بفاصل منيع لا يأذن لجانب الخطر أن يطغى على جانب الأمان. وقد يكون في ذلك باب للخير الشامل يوفض منه بنو الإنسان إلى عالم جديد؛ لأنهم يعرضون عن «الآلية» بعد استنفادها والانتهاء بها إلى غايتها القصوى، ولا يقيمون وزنا لغير رسالة الروح إلى الروح، وتوجيه الفكر للفكر، وعقيدة الإنسان في إمامة الإنسان.

إجمال

غني عن القول أن البلاد الشرقية تلقت دروسا كثيرة في العلوم والصناعة التي تسمى أحيانا بعلوم أوروبا وصناعاتها، إما في مدارس أوروبا نفسها، وإما في المدارس الشرقية التي أنشئت على غرارها.

وهذه حقيقة واقعة غنية عن الإفاضة في شرحها، مفهومة بطبيعتها، ولأن المهم عندنا في تسجيل آثار الحضارة الأوروبية في الشرق هو الآثار النفسية التي كان لها مساس بروح الشرق وضمائر أبنائه، ولسنا ممن يرون أن العلوم والصناعات المنقولة كان لها في ذاتها ذلك الأثر، إلا من طريق الخطأ في فهمها واستخلاص مراميها؛ لأنها تدخل في حيز المنقولات العقلية والمنقولات الآلية التي لا تستتبع بعدها انقلابا خطيرا في عالم الروح وسرائر الوجدان.

وعلى سبيل التفسير لهذا الرأي نرجع إلى القول بكروية الأرض ودورانها، فهذا القول لم يكن بالجديد على الثقافة الشرقية، ولكن الأدلة الحسية لم تكن مثبتة له في تصوير الدهماء وأشباه الدهماء من أصحاب المعلومات القاصرة، فاستطاع الجهلاء أن ينكروه، وأن يلصقوا إنكاره بما فهموه من ظواهر النصوص الدينية.

فلما جاء القول بكروية الأرض ودورانها عن طريق الغرب، وجاءت الكشوف الجغرافية بما يثبت هذا القول القديم، أخطأ الجهلاء فهم الدين وفهم العلم الحديث زمنا سرى فيه الشك إلى ضمائر المتعلمين، ولم يسع هؤلاء المتعلمون إنكار كروية الأرض أو إنكار دورانها، وظل هذا الشك ساريا إلى أن قرت الحقيقة العلمية في نصابها، وعجز الجهلاء عن مقاومتها بالنصوص الدينية، فزال العارض الذي أصاب الضمائر من خطأ الفهم وخطأ التأويل.

وهذا الذي عنيناه بقولنا: إن العلوم والصناعات لم يكن لها مساس جوهري بالحياة الروحية في البلاد الشرقية؛ لأنها قد استطاعت أن تستقر في حيز المعارف العقلية أو المعارف الآلية دون أن تقلق بواطن الضمير.

والأولى عندنا أن يقال: إن الحياة الروحية في البلاد الشرقية قد تأثرت من طريق ظواهر المعيشة ومن طريق المذاهب الفكرية، ولم تتأثر مباشرة من طريق العلم أو الصناعة.

فظواهر المعيشة التي حملها الأوروبيون معهم إلى بلاد الشرق العربي قد نشرت معها جوا من الإباحة الفعلية، والاستخفاف بالقيود الأخلاقية الموروثة ... فقل الحرج من سماع الآراء الطارئة وتوجيه النقد إلى الشعائر المرعية، وكان أثر هذا كله في الحياة الروحية أعمق جدا من كل أثر سرى إلى الضمائر من معارف العلم والصناعة.

أما المذاهب الفكرية التي لامست عالم الروح في الشرق، فهي من قبيل مذهب النشوء والارتقاء لنيتشه، ومذهب التفسير المادي للتاريخ وفلسفة المقارنة بين تواريخ الأديان، وهي - على أقوى ما نلحظه من آثارها - لم تتجاوز أثر الفلسفة القديمة، ولا مذاهب الشيع المعتزلة التي شغلت عقول المشارقة في أواسط الدولة العباسية وما بعدها، وقد كانت آثارها هذه فردية لا تتعدى المئات من المفتونين بها ممن يتلقفونها ويتخطفون عناوينها، ولا يحيطون بأسرارها ومضامينها.

وكانوا في الزمن القديم كما كانوا في الزمن الحديث على غرار الآخذين بمذهب النشوء والارتقاء، ممن خيل إليهم أن هذا المذهب قد حل مشكلة الوجود ... وهو في جوهره - على التحقيق - لم يزد على أن جعل «خلق الإنسان والحيوان» مسألة ملايين من السنين بدلا من مسألة ألوف ومئات؛ ولم يلمس قط سر الخلق الأبدي الذي لا يزال بابا مفتوحا للتفكير والاعتقاد، بعد كل ما قيل في مذهب النشوء والارتقاء.

فالمذاهب الفكرية التي أشرنا إليها لمست روح الشرق في نطاق الأفراد المعدودين، ولمسته في هؤلاء الأفراد لمسا عاجلا قريبا لا يستأصل جذور اليقين ، إلا ما كان من هذه الجذور قريب الاستئصال.

والمهم فيما بقي بعد هذا من آثار الحضارة الأوروبية على بلادنا وشعوبنا هو الذي عرضنا له في الفصول السابقة، ويتلخص في انتباه الشرقيين إلى فهم الدين، وفهم الوطنية، وفهم العلاقة بين الفرد وبين الله، والعلاقة بين الفرد والدولة فهما يتحدى أساطير الجمود ومخلفات الجهالة في عصور الضعف والاضمحلال.

وننتهي بالبحث كله إلى عبرتين خالدتين؛ أولاهما: أن الأمم الشرقية والغربية جميعها دائنة ومدينة في تراث الحضارة الإنسانية، وأنه ما من أمة لها تاريخ إلا وقد أعطت كما أخذت من ذلك التراث.

وثانية العبرتين: أن الأمم تستفيد في باب الحضارة على الرغم منها، وعلى الرغم ممن يفيدها؛ فالمستعمرون الغربيون لم يقصدوا تعليم الشرقيين حرية الأوطان، ولكنهم تعلموها وهم ناقمون، والشرقيون قد شحذوا السلاح الذي ضربتهم به يد الاستعمار، وأصيبوا به قبل أن يعرفوا كيف.

وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .

ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض .

وتلك الأيام نداولها بين الناس .

Неизвестная страница