175

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

Жанры

مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
- المَسْأَلَةُ الأُوْلَى) قَوْلُهُ تَعَالَى (غَضِبَ اللهُ): الغَضَبُ للهِ تَعَالَى هَلْ هُوَ صِفَةٌ حَقِيْقيَّةٌ ثَابِتَةٌ للهِ تَعَالَى؟ أَمْ كَمَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيْلِ (التَّعْطِيْلِ): غَضَبُ اللهِ هُوَ الانْتِقَامُ مِمَّنْ عَصَاهُ! وَبَعْضُهُم يَقُوْلُ: إِرَادَةُ الانْتِقَامِ مِمَّنْ عَصَاهُ، وَالحُجَّةُ عِنْدَهُم أَنَّهَا تَشْبِيْهٌ لِلخَالِقِ بِالمَخْلُوْقِ! وَوَصْفٌ لَهُ بِمَا لَا يَلِيْقُ!
وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الوَجْهُ الأَوَّلُ) أَنَّ غَضَبَ اللهِ تَعَالَى لَا يُمَاثِلُ غَضَبَ المَخْلُوْقِيْنَ لَا فِي الحَقِيْقَةِ وَلَا فِي الأَثَرِ:
١) فَمِنْ حَيْثُ الحَقِيْقَةِ: غَضَبُ المَخْلُوْقِ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ طَلَبًا لِلانْتِقَامِ، وَهُوَ جَمْرَةٌ يُلْقِيْهَا الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ حَتَّى يَفُوْرَ،
أَمَّا غَضَبُ الخَالِقِ، فَإِنَّهُ صِفَةٌ لَا تُمَاثِلُ هَذَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ﴾ (الشُّوْرَى:١١).
٢) مِنْ حَيْثُ الأَثَرِ: غَضَبُ الآدَمِيِّ قَدْ يُؤَثِّرُ آثَارًا غَيْرَ مَحْمُوْدَةٍ، فَقَدْ يَقْتُلُ المَغْضُوْبَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ، أَوْ يِكْسِرُ الإِنَاءَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ أَدْنَى ارْتِبَاطٍ بِمَوْضُوْعِ الغَضَبِ نَفْسِهِ!
أَمَّا غَضَبُ اللهِ تَعَالَى فَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِلَّا آثَارٌ حَمِيْدَةٌ، فَاللهُ تَعَالَى عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ.
وَتَأَمَّلِ الاقْتِرَانَ بَيْنَ بَعْضِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى كَالعَزِيْزِ الحَكِيْمِ؛ حَيْثُ يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا تُخْرِجُهُ عِزَّتُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ حِكْمَتِهِ؛ بِخِلَافِ العَزِيْزِ مِنَ البَشَرِ.
الوَجْهُ الثَّانِي) يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ تَأْوِيْلِ صِفَةِ الغَضَبِ بِالانْتِقَامِ (١) قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَلَمَّا آسَفُوْنَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِيْنَ﴾ (الزُّخْرُف:٥٥)، فَإِنَّ مَعْنَى ﴿آسَفُوْنَا﴾ أَغْضَبُوْنَا (٢)، فَجَعَلَ الانْتِقَامَ غَيْرَ الغَضَبِ، بَلْ أَثَرًا مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى بُطْلَانِ تَفْسِيْرِ الغَضَبِ بِالانْتِقَامِ. (٣)

(١) وَإِنْ كَانَ الانْتِقَامُ قَدْ يَكُوْنُ مِنْ لَوَازِمِ الغَضَبِ أَحْيَانًا، فَاللهُ تَعَالَى يُوْصَفُ بِالانْتِقَامِ مِنَ المُجْرِمِيْنَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّا مِنَ المُجْرِمِيْنَ مُنتَقِمُوْنَ﴾ (السَّجْدَة:٢٢).
(٢) قَالَهُ الطَّبَريُّ ﵀ فِي التَّفْسِيْرِ (١٢١/ ١٣).
(٣) قُلْتُ: وَأَيْضًا؛ فَالغَضَبُ صِفَةٌ تَدُلُّ عَلَى القُدْرَةِ، فَلَيْسَتْ مَذْمُوْمَةً مُطْلَقًا.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (١٥٩/ ٢٨): (وَالمُؤْلِمُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الغَضَبَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الحُزْنَ، وَلِهَذَا يَحْمَرُّ الوَجْهُ عِنْدَ الغَضَبِ لِثَوَرَانِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ القُدْرَةِ، وَيَصْفَرُّ عِنْدَ الحُزْنِ لِغَوْرِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ العَجْزِ).

1 / 175