قالت جريس: «أوه، لا أريد شيئا مبالغا فيه.»
صباح الجمعة الماضية، وقع حادث أليم وبشع في مصنع نشر الخشب الخاص بآل دود. شاء القدر أن يعلق كم السيد جاك أجنيو بمسمار تثبيت لولبي في شفقة توصيل، وهو يحاول أن يمد يده تحت العمود الرئيسي، فانسحب ذراعه وكتفه تحت العمود؛ ونتيجة لذلك، احتكت رأسه بالمنشار الدائري الذي يبلغ قطره نحو قدم، وفي لمح البصر انفصل رأس الشاب المسكين عن جسده بزاوية من تحت أذنه اليسرى مرورا بعنقه. ويعتقد أنه لقي حتفه على الفور، لم يمهله القدر أن يتكلم أو أن يصرخ، لكن تدفق شلال الدم هو الذي لفت انتباه زملائه للكارثة.
هذه هي الرواية التي أعيدت طباعتها في الصحف بعد مرور أسبوع على الحادث، كي يطلع عليها من فاتته مطالعة الخبر، أو ليحصل عليها من أراد أن يحتفظ بنسخة إضافية ليرسلها إلى أصدقائه أو أقاربه خارج البلدة (ولا سيما الذين اعتادوا العيش في كارستيرز ورحلوا عنها). صحح هجاء كلمة «شفقة» إلى «شقفة»، ونشر اعتذار عن الخطأ. كان هناك أيضا وصف لجنازة مهيبة جدا حضرها حتى أناس من بلدات مجاورة، وأخرى بعيدة جدا مثل مدينة والي؛ منهم من جاء بالسيارة، ومنهم من وفد بالقطار، ومنهم من جاء على متن عربة تجرها الأحصنة. لم يعرفوا جاك أجنيو عندما كان على قيد الحياة، لكنهم أرادوا - حسبما جاء في الصحف - أن يكونوا مشاركين في تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير لما هالهم من بشاعة الحادث الذي أودى بحياته. أغلقت المحال جميعها في كارستيرز أبوابها لساعتين ظهر ذاك اليوم، ولم يغلق الفندق أبوابه، لا لشيء سوى أن المشيعين كانوا بحاجة إلى مكان يتناولون فيه الطعام والشراب.
ترك الفقيد من ورائه زوجته جريس وابنته ليليان ابنة السنوات الأربع. شارك الفقيد بجسارة في الحرب العالمية الأولى، وأصيب مرة واحدة فقط، ولم تكن إصابته حينها بالإصابة الخطيرة، وعلق كثيرون على هذه المفارقة.
لم يكن إغفال الصحيفة مسألة نجاة الأب من الموت في الحرب متعمدا، فمحرر الصحيفة لم يكن من أبناء مدينة كارستيرز، ونسي الناس إخباره بقصة الأب الناجي حتى فات الأوان.
لم يتذمر الأب نفسه من إغفال الصحيفة تلك القصة. في اليوم الذي أقيمت فيه الجنازة، حيث كان الطقس جميلا، خرج من البلدة مثلما اعتاد أن يفعل عندما يستقر رأيه على تمضية يومه بعيدا عن آل دود. كان يرتدي قبعة من اللباد، ومعطفا طويلا يمكن الاستفادة منه كبساط إن أخذته سنة من النوم. كان الحذاء الواقي الذي يرتديه مشدودا بأناقة على قدميه بأشرطة مطاطية. خرج قاصدا البحث عن أسماك الشبوط، لم يكن الموسم قد آن بعد، لكنه كان بارعا دوما في استباق الموسم. كان يصطاد خلال فصل الربيع وأوائل الصيف، ويطهو ما يصيده ويأكله. كان لديه مقلاة وإناء يخفيهما على ضفة النهر، أما الإناء فكان لغلي الذرة التي ينتزعها من الحقول في فترة لاحقة من العام، حينما يتناول أيضا ثمار أشجار التفاح البرية وأشجار العنب. كان في كامل قواه العقلية، بيد أنه كان يمقت الحوار، ولم يستطع أن يتفادى الحوار بالمرة خلال الأسابيع التالية لوفاة ابنه، لكنه كان ماهرا في اختصاره. «كان عليه أن يتحرى الحيطة أثناء عمله.»
ولما كان يمشي في البلدة ذاك اليوم، التقى شخصا آخر لم يحضر الجنازة؛ التقى امرأة. لم تحاول أن تبدأ معه أي حوار. الواقع أنها بدت حادة في عزلتها مثله تماما إذ كانت تشق طريقها بخطوات واسعة وسريعة. •••
امتد مصنع البيانو الذي بدأ في تصنيع الأرغن المزماري على طول الجانب الغربي من البلدة كجدار مدينة من العصور الوسطى. كانت هناك بنايتان شاهقتان كالمتاريس الداخلية والخارجية، يصل بينهما جسر توجد به المكاتب الرئيسية. إذا توغلت في المدينة وشوارع بيوت العمال، فستعثر على أفران تجفيف الأخشاب ومصنع نشر الأخشاب ومخازنها. كان نفير المصنع بمنزلة تنبيه لاستيقاظ الكثيرين؛ حيث كان ينطلق في السادسة صباحا، وكان ينطلق مرة أخرى إيذانا ببدء العمل في السابعة، وكذا في الثانية عشرة ظهرا إيذانا بساعة الغداء، وفي الواحدة ظهرا لاستئناف العمل، وأخيرا في الخامسة والنصف إيذانا بانتهاء العمل وعودة العمال إلى بيوتهم.
كانت اللوائح معلقة بجوار ساعة تسجيل الحضور والانصراف تحت الزجاج، وكانت اللائحتان الأوليان تنصان على ما يلي: «يخصم لمن يتأخر دقيقة واحدة ما يوازي 15 دقيقة من أجره. كن منضبطا.» «لا تستخف بعاملي الأمان والسلامة. انتبه لنفسك وللعامل الذي يعمل إلى جوارك.»
سبق أن وقعت حوادث في المصنع، والواقع أن ثمة رجلا لقي مصرعه عندما وقع فوقه حمل من الأخشاب؛ وقع ذلك الحادث قبل انضمام آرثر للعمل في المصنع. وذات مرة أثناء الحرب، فقد رجل ذراعه أو جزءا من ذراعه، ويوم أن وقع ذلك الحادث، كان آرثر في تورونتو؛ لذا، فهو لم يشهد حادثا واحدا، لم يشهد حادثا خطيرا على أية حال، لكن كثيرا ما أصبحت تراوده الآن فكرة أن شيئا ما قد يحدث.
Неизвестная страница