فلما وصل وجد الأميرة نعمت منقلبة الشكل من شدة الغضب والغيظ، حتى إنه لا يكاد يعرفها من يراها من معارفها، فابتسم أحمد بك قائلا: ما بال مولاتي غضبى؟ - أظنك تعرف السبب. - أأنا هو؟ - كما تقول.
فاكفهر وجهه، وقال: كيف ذلك يا سيدتي؟ - ألأجل هذه الدناءة الفظيعة كنت تحدثني أمس عن براءة جوزفين الخائنة؟ - أي دناءة يا مولاتي؟ إلى الآن لا أفهم ما تقولين! - لا أنتظر منك الإقرار بجريمتك. - أي جريمة؟! إنك تسيئين إلي جدا يا سيدتي. - بلاغك الكاذب الذي تستحق العقاب عليه. - أي بلاغ هذا يا سيدتي؟! أفصحي، فإني لا أطيق الألغاز. - من سواك أبلغ قنصلية النمسا أن جوزفين مسمومة عندي حتى أتى الشرطة اليوم وفتشوا منزلي؟ هل سمعت بإهانة لحقت بأحد أفراد الأسرة كهذه الإهانة؟ - كلا، لم أسمع! ويعز علي أن أسمع يا مولاتي، وإنما كيف عرفت أني أنا أتيت هذه الدناءة، ووشيت هذه الوشاية الكاذبة؟ - لا أحد سواك اهتم بأمر تلك الخائنة، فخطر لي أن ما جرى لي اليوم إنما هو نتيجة ما جرى لك أمس عندي وما صادفته من الإهانة، وقد افتكرت طويلا فلم يبد لي تعليل غير هذا التعليل. - إن ما يخطر لك ليس وحيا يا مولاتي، وبالتالي لا يعد برهانا. - بل هو برهان؛ إذ لا أنتظر هذا الانتقام من سواك. - إذن تشعرين بأنك اسأت إلي جدا حتى إنك تنتظرين مني انتقاما؟ - نعم؛ أسأت لك، ولكنك تستحق إساءتي؛ ولهذا لا أشك أنك تبتغي أن تنتقم مني. - نعم، يجب علي الانتقام، ولكني لم أنتقم، ولا أنتقم، ولن أنتقم، إلا بالفعل الحسن. - لم يبق عندي شك بأن سبب هذه الوشاية أنت، وحسبي أن تقر بوجوب انتقامك. - لا تعلمين ما في الخفاء يا سيدتي؛ ولهذا لا تحكمي بحسب ما يتراءى لك ... - لا تتفلسف كثيرا، ما أتيت لأعاتبك، بل لأستنطقك. ثم نهضت تريد الخروج. - إذن تعتقدين تمام الاعتقاد أني أنا الواشي؟ - لا شك عندي بذلك، ولسوف تعاقب على بلاغك الكاذب.
فضحك أحمد بك ضحكة الهازئ، وقال: حققي يا مولاتي، حققي، لعلك إذا عرفت الحقيقة تثيبينني لا تعاقبيني. - اخسأ يا وقح، علام أثيبك؟ أعلى خبثك؟ سترى.
ثم خرجت وهي تنتفض من الغيظ، وخرج أحمد بك بعدها، وفي الحال لبست ملابسها وركبت مركبتها وقصدت توا إلى القنصلية النمساوية، وسألت هناك عن الرسالة التي تضمنت الوشاية بها فقيل إنها في المحافظة، فانطلقت إلى المحافظة وطلبت أن ترى الرسالة، فرأتها وأنعمت النظر فيها جيدا فاشتبهت بخطها؛ لأنها توهمته يقارب خط أحمد بك بعض المقاربة، فعادت إلى البيت ورفعت قضية ضده تتهمه بتهمة البلاغ الكاذب.
ولكي لا نطيل على القارئ الكلام، نقول إن النيابة حققت القضية جيدا وقابلت خط الرسالة بخط أحمد بك فلم تثبت عليه التهمة فبرئ.
وكان بعد ذلك أن الأميرة نعمت عزلت أحمد بك من وكالة أملاكها وأملاك أخيها، وإنما بقي وكيلا لأملاك الأمير عاصم، وهو لم يبق لذلك العهد وكيلا على أملاك الأسرة كلها، إلا لأنه كان غيورا جدا على ذلك البيت، ولم يوجد أصلح منه لهذه الوكالة، ولأنه كان الخبير الوحيد بجميع أملاك الدائرة؛ ولهذا اضطروا أن يستبقوه بالرغم عن استعفائه مرارا؛ لأنه كان غنيا عن هذه الخدمة.
الفصل السابع عشر
أما سألت عني؟
لا بد أن يدرك القارئ من نفسه كيف كانت حالة الأمير نعيم حين غادر القطر المصري هائما على وجهه من شدة الحزن والغم والغيظ. لم يقتنع في أول الأمر أن جوزفين قد خانته لما كان بينه وبينها من الحب العجيب والولاء الثابت والإخلاص النقي، ولكنه لم يستطع أن يئول رسالتها وغيابها تأويلا يقبله العقل. وكان أقاربه يقنعونه أنها خانته، وأن مثل هؤلاء الفتيات خادعات ماكرات، وذكروا له شواهد عديدة عن مكرهن، وقصوا عليه حكايات مختلفة جرت لأشخاص معروفين مع أمثال جوزفين، وأقنعوه أنه لطيبة قلبه جازت عليه حيل جوزفين في حبها له واستيلائها على قلبه وثم على قصره وماله.
ولما تواترت أقوالهم بأنها خائنة لم يعد في وسع نعيم إلا أن يسلم بأنها خائنة، وبالتدريج انقلب كل غرامه بها إلى انتقام حاد، حتى إنه لم يعد يستطيع البقاء في القطر المصري ملتحفا بعار خيانتها، فبرح إلى أوروبا أولا لكي يروح نفسه من عناء هذه الأزمة، وثانيا لكي يعد نقمة لجوزفين تليق بصفاته وأخلاقه الطيبة.
Неизвестная страница