فقالت: أخاف أن كتابتي إليه تهيج فيه ساكنات الحب، وتحمله على المخاطرة بنفسه، فيجيء إلى البلاد وهي كما تعلم من الهياج والاضطراب، فأكون قد جنيت عليه وعلى نفسي.
فقال بخيت: أرى الأفضل إذن أن تستطلعي أفكار والدته، فاستصوبت رأيه، وبعثته إليها لتعيين زمن يمكنها فيه الاجتماع بفدوى.
فلما اجتمعت ودار الحديث بينهما ، أدركت سعدى غرضها من الاجتماع، فبينت لها بكلام لطيف حالة سفرها هي وزوجها، وأن الأسطولين الإنكليزي والفرنسوي في مينا الإسكندرية منذ أيام، وهما لا يجاهران بالعدوان إلا إذا رأيا من خطر على حياة الجناب الخديوي، فيستخدمان حينئذ القوة، ولو كلفهما ذلك هدم ثغر الإسكندرية وخراب سائر القطر؛ لأنهما دولتان قويتان.
ثم قالت: أما نحن، فقد عزمنا على الجلاء من هذا البر؛ خوفا من الخطر على حياتنا، وربما يداخلك الريب فيما أقول؛ لأننا لسنا أجانب، لكننا يا ابنتي نخاف الرقباء، ولا نأمن معهم البقاء والبلاد على هذه الحال، والأغلب أننا نسافر إلى لندرا حيث نشاهد شفيقا.
فأجهشت فدوى بالبكاء وأطرقت حياء، وظهر اضطرابها جليا، فأجهدت نفسها بإخفائه، فلم تقدر، فلحظت سعدى منها ذلك، فضمتها إلى صدرها وقبلتها والدموع ملء عينيها وقالت: خفضي عنك يا ابنتي، والذي فرقكما قادر على أن يجمعكما في وقت قريب.
فقالت لها فدوى: اعذريني يا سيدتي لما ظهر من اضطرابي؛ فقد غلبت علي عواطفي.
وفيما هما في الحديث، جاء بخيت ملهوفا وهو يقول: إن سيدي الباشا قد بعث إلينا بالإسراع إلى البيت؛ لأنه تلقى من عرابي باشا أمرا بالذهاب إلى الإسكندرية حالا، ولا بد له قبل ذهابه من مشاهدتك، فنهضت للحال وودعت سعدى وداع السفر، فسألتها إذا كان عندها خبر لشفيق، فخجلت في أول الأمر، ولكنها تجلدت وقالت: بلغيه ما تشائين من السلام، وإذا أردت أن تكتبي إلي حين وصولك؛ فليكن الكتاب باسم بخيت، وهو يوصله إلي، ثم ودعتها ثانية وخرجت، فشيعتها سعدى بنظرها إلى أن سارت بها العربة وتوارت عن النظر.
أما فدوى فأخذت تحاول إخفاء اضطرابها؛ لئلا يلحظ منها أبوها شيئا فيريبه أمرها، فلم تقدر، فلما وصلت إلى البيت ولحظ أبوها أثر الدمع على عينها، سألها عن السبب فقالت له: لما بلغني أمر سفرك بهذا الاضطراب السياسي لم أستطع إمساك الدمع. فطيب خاطرها، وهون عليها، وقال لها: إني مسافر إذعانا لأمر رئيس الحزب العسكري، فلا يصعب عليك ذلك؛ إذ ليس في الأمر ما يوجب الخوف ، فالبثي مع والدتك في البيت بطمأنينة، وسأوصي بخيتا بكما وبكل من في القصر، ثم ودع الجميع وبرحهم على القطار الحديدي إلى الإسكندرية.
أما سبب سفره، فهو أن عزيزا بعد تحققه جلاء والدي شفيق إلى إنكلترا، أخذ يسعى إلى إبعاد والد فدوى؛ تذليلا لها حتى يخلو له الجو، فوشى به إلى عرابي أنه لا يؤمن من بقائه في القاهرة بعد سفر الجند إلى الإسكندرية؛ لشدة رغبته في مخابرة الأجانب، فبعث إليه عرابي أن يسير حالا إلى الإسكندرية.
أما عزيز، فبذل قصارى جهده ليبقى في القاهرة طمعا بنيل مرغوبه؛ لعله يقوى على اختلاس فدوى أثناء هذا الانقلاب السياسي.
Неизвестная страница