فأجابه شفيق هازئا: إن التعقل والرزانة والتأدب جواهر لا تباع ولا تشترى، على أن «الدوتا» ليست من عادتنا نحن الشرقيين، ولو أدركت لطف هذه العذراء وأدبها لعلمت أنها ليست ممن يدفعن المهور.
فقال عزيز متبسما وهو يتقد غيرة وحسدا، وقد عمد إلى تحقيرها في عينيه، مشيرا بيده الطويلة على قامته القصيرة: إني لا أنكر عليك شيئا من ذلك، ولكن لدي ملاحظة؛ فاسمح لي بإبدائها.
قال شفيق: قل ما بدا لك، فقال: إن مثلها - ولا أخفي عنك - لم يحسن بها أن تبقى في الجزيرة وحدها في مثل هذا الليل الدامس، حتى عرضت بنفسها إلى الخطر الذي عرفته.
فاستعرت نار الغيرة في قلب شفيق، وأحس كأن تلك الإهانة قد لحقته هو، ولم ير بدا من دفعها عن مالكة لبه، فقال وقد بدت علائم الخجل على وجهه: كلانا يعلم، يا عزيز، أنها لم تذهب إلى الجزيرة لتبقى هناك إلى الليل، وأنت نفسك أخبرتني أن سائق المركبة أعاقها بتواطؤ مع ذاك الرجل الذميم، فهل يحط ذلك من قدر أدبها وتعقلها؟
فلما رأى عزيز ما يتخلل كلام شفيق من الغيرة الشديدة على صحة أدب فدوى تلوى تلوي الحية، وقد اشتعل فؤاده حسدا؛ إذ لم ير من الإيقاع بها إلا إثارة عواطف شفيق للدفاع عنها، فكظم غيظه، وخاف إذا اختلق عليها أكذوبة أخرى أن يقع في شر أعماله، فينكشف أمره، وتحبط مساعيه، فصمت وهو يتلاهى بعصا عقفاء كانت بيده يضعها بين شفتيه، ثم يعود فيلعب بها أصابعه، حتى حول إليه بصره قائلا: لا أقول لك يا عزيزي إنها بقيت في الجزيرة إلى ذلك الحين باختيارها، وإنما قلت إن ذلك التأخير ربما أضر باسمها، ولا أجهل أن ما حصل لها هو عن غير إرادتها، ولو تنبأت بحصوله ما خرجت من بيتها قط.
قال ذلك إخفاء لما كاد يظهر من حسده وغيرته، ولكن قلبه ما برح يزداد بغضا وحسدا لشفيق، حتى حدثته نفسه أن يفتك به في المركبة؛ ظنا منه أنه يستطيع بذلك الظهور أمام والدها مظهرا آخر، فيدعي أنه هو الذي أنقذها من مخالب الموت، وأنه استخدم شفيقا آلة له، ولكنه لم يجسر على ذلك لعلمه أن شفيقا أشد منه بطشا، فعمد إلى الحيلة شأن الضعيف الساقط.
الفصل الثاني عشر
لقاء الضائع وشكوى الغرام
وبينما هما في الحديث وصلت العربة إلى ساحة فم الخليج والاحتفال قد انقضى، ولم يبق في الساحة إلا نفر قليل، فسر شفيق لذلك؛ لأنه كان قلقا لطول غيابه عن والديه معظم ذلك الليل الذي لاقى فيه الأهوال.
فقال لعزيز: هيا بنا إلى منازلنا؛ فقد انقضى معظم الليل وأنا واجس من قلق والدي علي.
Неизвестная страница