سقوط الخرطوم
وقضى تلك الليلة بين هاجس وخائف يراقب حركات غوردون، فإذا هو قد قضى نصف ذلك الليل ساهرا يكتب، وعند نصف الليل رقد شفيق، ولكنه لم تكد تأخذه سنة النوم حتى سمع إطلاق المدافع، فنهض مذعورا في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، فإذا بأهل السراي يتراكضون، فسأل عن الباشا فقيل له: إنه على سطح السراي يطلق المدافع على الأعداء، فصعد إليه فإذا هو في لباس النوم يطلق القنابل والعدو هاجم على الأسوار.
وشاهد بعد قليل جماهير العصاة وقد دخلوا السور من باب المسلمية وامتلأت الساحة منهم، وما زال غوردون يطلق القنابل عليهم من السطوح مقدار ساعة حتى اقتربوا كثيرا، فلم يمكنه تصويب المدافع عليهم، ورأى شفيق أعلام المهدويين تخفق في وسط الجماهير، فتحقق لديه أن قد قضي الأمر، فعمل الفكرة في كيفية المحافظة على حياته إكراما لفدوى، وليس حبا منه في الدنيا، فأسرع إلى بدلة الدراويش وجعلها عليه، بعد أن تحقق أن الدفاع لا ينفعه شيئا، ونزل من السراي فشاهد جماهير العصاة عند باب السراي يريدون الدخول، ثم تقدم أربعة منهم ودخلوها، فالتقوا بغوردون عند رأس السلم وقد لبس ثيابه، وتقلد سيفه، وحمل الروفلفر بيده، فهجم عليه أحدهم ونادى بأعلى صوته: آه يا ملعون! اليوم يومك. وطعنه طعنة بحربة ألقته صريعا، وعملوا رفاقه مثل عمله. أما هو فلم يبد أقل مدافعة، وكان ذلك قبل شروق الشمس، فسقط غوردون صريعا يخبط بدماه، فلم يستطع شفيق النظر إليه، فترك السراي ونزل إلى الشوارع كأنه واحد من الدراويش ينادي نداءهم، ويتظاهر بمظاهرهم. وكان كثيرون منهم يعرفونه، ولم يعلموا أنه فر من معسكرهم، فظنوه على دعوتهم. أما هو فكان يحجب الدماء ما استطاع بغير أن ينفضح أمره. وبعد أن نزل من السراي بقليل رأى درويشا حاملا رأس غوردون يريد إيصاله إلى المتمهدي، على أن المتمهدي كان قد أمر بإبقاء ذلك الرجل حيا، ولكن أجله عاجله فمات شر موتة، ودامت المذبحة ست ساعات، ولم يكف الدراويش عن القتل حتى أمرهم المتمهدي فكفوا.
أما شفيق فلم يكن يأمن على حياته لعلم الأكثرين بأمره، فتحقق لديه أنه إذا علم أميره أو المتمهدي بفراره يقتله لا محالة، فاغتنم انشغال الدراويش بالنهب والقتل وطلب شاطئ النيل فركب خشبة سابحة وجعل يجذف برجليه، فساعده المجرى، فسار نازلا وهو لا يعلم لنفسه مقصدا، فشاهده الدراويش من الشاطئ، فاستغشوه فرموه بالسهام والبنادق فأخطئوه، حتى إذا كان على مسافة من الخرطوم أصابه سهم في فخذه، وما زال سابحا حتى أتى جزيرة قبالة حلة يقال لها حلفايا، فنزل تلك الجزيرة والتجأ إلى ظل شجرة. وكان الليل قد سدل نقابه، فلم يعلم به أحد، ولكنه كان في خوف عظيم لانتشار الدراويش في تلك الجهات، وقضى كل ذلك الليل ساهرا يفكر في وسيلة لنجاته من بلاد قد مد فيها الدراويش رواقهم. وأما جرحه فقد كان طفيفا فلفه بعمامته، ولما أصبح تظاهر بمظاهر الدراويش.
الفصل الحادي والثمانون
كتاب فدوى
وكان قد اسود لون جلده من معاناة الحر، وأتقن اللهجة السودانية جيدا، وعرف اصطلاحات الدراويش في حديثهم وصلاتهم وسائر أحوالهم، فأخذ يجول في الجزيرة حافيا، والسبحة في عنقه يكرر الشهادة والدعاء لنصرة الدراويش، وإبادة الكفار، وقد خارت قواه من التعب والسهر والجوع، فوصل إلى مكان اشتم فيه رائحة السودان، وهي رائحة خاصة بأهل السودان يشتمها الإنسان عن بعد، فتقدم نحوها فوصل إلى بيت صغير فيه ثلاثة من أهل تلك القرية، فحياهم بتحيتهم المعتادة، فردوا التحية ودعوه فجلس إليهم، فإذا هم يعدون الطعام وقد جعلوا على النار قدرا فيه قليل من الماء، فسألوه عن حاله فقال: إنه ممن جاءوا للجهاد في سبيل الإمام المهدي، وقد أصيب برصاصة في رجله أثناء هجومه على المدينة، فلم يعد يستطيع الجهاد، فقالوا: والله إنك لقد نلت أجرا، ويا حبذا لو كان مثل تلك الإصابة لنا!
ثم قال واحد منهم: والله إن النصارى (يريد الإنكليز) لا يعرفون كرامة سيدنا الإمام المهدي، ولو عرفوها ما تكلفوا المشقة والمجيء من أقاصي الدنيا لكي يعودوا بالفشل.
فقال شفيق: إن هؤلاء لا يعرفون كرامة أحد؛ ولذلك فإن الله قد أوقعهم في شر أعمالهم، ولم يعودوا يقدرون على المجيء إلى هنا بعد سقوط الخرطوم.
فقهقه الرجل ثم قال: وهب أنها لم تسقط. أتظنهم يستطيعون المجيء إليها؟ ألا تعلم ما فعل بهم سيدنا الإمام.
Неизвестная страница