Asbir wa Ihtasib
اصبر واحتسب
Издатель
دار القاسم
Жанры
الإهداء
إلى من تكالبت عليه الأيام .. وقلب له الدهر ظهر المجن.
إلى من ادلهمت السماء فوقه تنذر بالخطوب .. وأغلقت في وجهه المسالك والدروب فإذا به صابر محتسب.
ما اهتز له قلب
وما رف له جفن
***
إلى من نامت قريرة العين برضا الله وقدره .. متوسدةً عاصفة هوجاء .. تتخطفها الأسنة وتنالها الرماح ..
ما عرف الحزن إلى قلبها مدخلا
وما استقرت الدمعة في عينها زمنا
***
إلى من فقد الأبناء والأحباب .. والآباء والأصحاب
إلى كل مؤمن مهموم .. وكل مبتلى مغموم
***
عظم الله أجرك .. ورفع درجتك .. وجبر كسرك.
1 / 3
المقدمة
الحمد لله الذي جعل الصبر جوادًا لا يكبو، وصارمًا لا ينبو، وحصنًا حصينًا لا يُثلم .. والصلاة والسلام على خير الصابرين والشاكرين والحامدين محمد بن عبد الله .. وبعد:
في هذه الدنيا سهام المصائب مُشرعة ورماح البلاء مُعدةً مرسلة .. فإننا في دار ابتلاء وامتحان ونكد وأحزان. وقد بلغ الضعف والوهن ببعضنا إلى التجزع والتسخط من أقدار الله .. فأضحى الصابرون الشاكرون الحامدون هم القلة القليلة.
وسُنن الله في خلقه ثابتة لم تتغير وقضاؤه على عباده سائرٌ لم يتبدل .. نلاحظ أن النوازل تنزل والقوارع تطرق والناس في هذا الزمن غلبت عليهم أمورٌ أربعة:
الأول: عدم الرضا والصبر والاحتساب .. بل البعض يسلو كما تسلو البهائم.
الثاني: الجزع والتسخط .. وكأن الدنيا ما خلقت إلا للصفو والنعيم ..
الثالث: عدم احتساب الأجر سوى في المصائب الكبيرة كالموت وغيره وتناسوا أن الأمر سواء على كل ما يسوء المرء حتى الشوكة تُصيب قدمه.
الرابع: ظن الكثير أن الامتحان والابتلاء هو زمن المصيبة فحسب، وما عدوا النعمة والغنى بلية وطامة إن لم تُعن على الطاعة والعبادة.
1 / 4
وهذا هو الجزء الرابع من سلسلة "أين نحن من هؤلاء؟ " نرى فيه كيف كان رضا وصبر وشكر من كانوا قبلنا وقد أبتلي بعضهم بأشد مما يُصيبنا.
وهذا الكتاب فيه تعزية للمُصاب وتسلية للمُبتلى وإعانة على الصبر والاحتساب.
جعلنا الله من الصابرين الشاكرين ممن يُنادي يوم القيامة: (سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عُقبى الدار* وصلى الله على نبينا محمد.
عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم
1 / 5
بسم الله الرحمن الرحيم
إن العبد في تنقلاته في هذه الحياة وأطواره فيها لا يخلو من حالتين: إما أن يحصل له ما يُحب ويندفع عنه ما يكره، فوظيفته في هذه الحالة الشكر والاعتراف بأن ذلك من نعم الله عليه، فيعترف بها باطنًا ويتحدث بها ظاهرًا، ويستعين بها على طاعة الله وهذا هو الشاكر حقًا ..
الحالة الثانية .. أن يحصل للعبد المكروه أو يفقد المحبوب، فيُحدث له، همًا وحزنًا وقلقًا فوظيفته الصبر لله، فلا يتسخط ولا يضجر ولا يشكو للمخلوق ما نزل به، بل تكون شكواه لخالقه ﷾، ومن كان في الضراء صابرًا وفي السراء شاكرًا فحياته كلها خير وبذلك يحصل على الثواب الجزيل ويكتسب الذكر الجميل (١).
والبلاء الذي يصيب العبد لا يخرج عن أربعة أقسام: إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب، والناس مشتركون في حصولها، فغير المؤمن التقي يلقى منها أعظم مما يلقى المؤمن كما هو مشاهد (٢). ورأيت جميع الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجًا يزيد على الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذلك وضعت، وهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم
_________
(١) الصبر وأثره ص ٥.
(٢) الصبر وأثره ص ١٢.
1 / 6
والموجود سوى العدم (١).
ولا بد أن يعلم المصاب أن الذي ابتلاه بمصيبته أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل البلاء ليُهلكه به ولا ليعذبه، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرّعه وابتهاله وليراه طريحًا على بابه لائذًا بجنابه، مكسور القلب بين يديه رافعًا قصص الشكوى إليه (٢) قال تعالى:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (٣).
وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (٤).
وقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ (٥).
وقد ذكر الله الصبر في القرآن في نيف وتسعين موضعًا وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له، وجمع للصابرين بين أمورٍ لم يجمعها لغيرهم فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ فالهدى
_________
(١) الثبات عند الممات ص ١٩.
(٢) تسلية أهل المصائب ص ٢٢٥.
(٣) البقرة: ١٥٥.
(٤) الزمر: ١٠.
(٥) محمد: ٣١.
1 / 7
والرحمة والصلوات مجموعةٌ للصابرين (١).
وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (٢).
وقال ﵊: "من يرد الله به خيرًا يُصب منه" (٣).
والحمد لله على فضله وجزيل عطائه فقد بشرنا الرسول ﷺ بقوله: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه" (٤).
والأنبياء ﵈ يتوالى عليهم البلاء مثل كافة الناس وإن كانوا أشد بلاءً فعن أبي سعيد الخدري - رضى الله عنه- قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء" قلت: ثم من؟ قال: "الصالحون إن كان أحدهم ليُبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحتويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء" (٥).
_________
(١) عدة الصابرين، ٩٨ مكاشفة القلوب ٢٣٧.
(٢) مجموع فتاوى شيخ الإسلام. ١٠/ ٩.
(٣) رواه البخاري.
(٤) متفق عليه.
(٥) رواه ابن ماجه.
1 / 8
والصبر -أخي الكريم- مقامٌ من مقامات الدين ومنزل من منازل السالكين (١).
وقد قال أبو الدرداء: ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضاء بالقدر (٢).
وفي حديث عن النبي ﷺ: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد" (٣).
والحسن ﵀ يقول: "الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله ﷿ إلا لعبد كريم عنده" (٤).
وقال رسول الله ﷺ: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له" (٥).
والخير الحاصل للشاكرين هو الزيادة: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
والخير الحاصل للصابرين هو الأجر والثواب والمغفرة والرحمة (٦).
_________
(١) الإحياء ٤/ ٦٥.
(٢) الإحياء ٤/ ٥٦.
(٣) ضعيف الجامع الصغير ٣٥٣٨.
(٤) مختصر منهاج القاصدين. ٢٩٥.
(٥) رواه مسلم.
(٦) الصبر وأثره ص ٥.
1 / 9
قال الفضيل: إن الله ﷿ ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير (١).
وقال ﵀: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يُعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة، وحتى لا يحب أن يُحمد على عبادة الله (٢).
وسأل رجلٌ الإمام الشافعي فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل أن يُمكن أو يُبتلى؟ فقال الشافعي: لا يُمكن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنَّهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة (٣).
وجعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (٤).
والمصائب -أخي الكريم- تتفاوت ولكن أعظمها المصيبة في الدين، فهي أعظم مصائب الدنيا والآخرة، وهى نهاية الخسران الذي لا ربح معه، والحرمان الذي لا طمع معه (٥).
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
وأصل كلمة الصبر هو المنع والحبس، فالصبر حبس النفس عن
_________
(١) الإحياء. ٤/ ١٣٩.
(٢) السير. ٨/ ٤٣٤.
(٣) الفوائد ٢٦٩.
(٤) مجموع الفتاوى ١٠/ ٣٩.
(٥) تسلية أهل المصائب. ٢٤.
1 / 10
الجزع واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما (١).
وحقيقة الصبر خُلقٌ فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به من فعل ما لا يُحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها وحين سُئل الجنيد عن الصبر قال: تجرع المرارة من غير تعبس.
وقال ذو النون: هو التباعد عن المخالفات، والسكون عن تجرع غُصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة.
وقيل: الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب (٢).
-أخي الكريم- لا بد من الابتلاء بما يؤذي الناس، فلا خلاص لأحد مما يؤذيه ألبته، ولهذا ذكر الله -تعالى- في غير موضع أنه لا بد أن يُبتلى الناس، والابتلاء يكون بالسراء والضراء، ولا بد أن يبتلى الإنسان بما يسره وما يسوؤه، فهو محتاج إلى أن يكون صابرًا شكورًا .. قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. وقال تعالى: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (٣).
_________
(١) عدة الصابرين ٢٧.
(٢) عدة الصابرين. ٢٩.
(٣) الفوائد. ٢٧١.
1 / 11
ولو تبصر الإنسان في من حوله لوجدهم بين أمرين وفي أحد حالين: إما سراء أو ضراء ولكن النفوس البشرية تغفل عن فتنة السراء ولا ترى إلا فتنة الضراء وهى الظاهرة في شكاوى البشر .. فما من إنسان إلا له ألمٌ أو فجيعةٌ أو هم أو غم أو نكد، ولا يكاد يمر يوم في هذه الدنيا دون تنكيد وتنغيص قال تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ (١).
قيل في تفسير هذه الآية: يكابد أمرًا من أمر الدنيا وأمرًا من أمر الآخرة وفي رواية يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة (٢).
عن عبد الملك بن أبحر قال: ما من الناس إلا مبتلى بعافية، لينظر كيف شُكره أو مبتلى ببلية لينظر صبره (٣).
أما نعمة الضراء .. فاحتياجها إلى الصبر ظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، فإن فتنة السراء أعظم من فتة الضراء (٤).
والفقر يصلح عليه خلق كثير، والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم، ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لأن فتنة الفقر أهون، وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر، لكن لما كان في السراء اللذة وفي الضراء الألم اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في
_________
(١) سورة البلد: ٤.
(٢) تفسير ابن كثير ٤/ ٥١٣.
(٣) حلية الأولياء. ٥/ ٨٥.
(٤) الفتاوى ١٤/ ٣٠٥.
1 / 12
الضراء (١).
وقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم (٢)
أخي الكريم: إذا فجعتك المصائب ونزلت بك الهموم وادلهمت بك الطرق وأظلمت عليك الدروب من حوادث الدنيا المقدرة .. فإن عليك بمنزلة الرضا لما قدر الله وقضى فإنها المنزلة الأولى ..
فارض بقضاء الله وقدره ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾.
والدرجة الثانية: الصبر على البلاء وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء، فالرضا فضل مندوب إليه مستحب، والصبر واجبٌ على المؤمن حتم.
والفرق بين الرضا والصبر، أن الصبر كف النفس وحبسها عن السخط مع وجود الألم وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا انشراح الصدر وسعته بالقضاء وترك تمني زوال الألم وإن وجد الإحساس بالألم، لكن الرضا يخففه ما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وإذا قوي الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية (٣).
_________
(١) الفتاوى ١٤/ ٣٠٥.
(٢) موارد الظمآن ٢/ ٧٥.
(٣) جامع العلوم والحكم باختصار ١٩٤.
1 / 13
وينقسم الصبر إلى: واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومباح.
فالصبر الواجب ثلاثة أنواع: أحدها: الصبر عن المحرمات. والثاني: الصبر على أداء الواجبات، والثالث: الصبر على المصائب التي لا صنع للعبد فيها، كالأمراض والفقر وغيرها.
أما الصبر المندوب: فهو الصبر عن المكروهات والصبر على المستحبات والصبر على مقابلة الجاني بمثل فعله (١).
والصبر المحمود: أنواع: منه صبر على طاعة الله ﷿ ومنه صبر عن معاصي الله ﷿ ومنه صبر على أقدار الله ﷿ (٢).
قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (٣) قال: صبروا على ما أمروا به، وصبروا عما نهوا عنه (٤).
ويذكر عن علي ﵁ أنه قال: الصبر ثلاثة: فصبرٌ على المصيبة، وصبرٌ على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة، ومن صبر على الطاعة حتى يؤديها كما أمر الله كتب الله له ستمائة
_________
(١) عدة الصابرين ٥٠.
(٢) جامع العلوم والحكم ٢٦٦.
(٣) الرعد: ٢٤.
(٤) تسلية أهل المصائب ١٩٣.
1 / 14
درجة.
ومن صبر عن المعصية خوفًا من الله ورجاء ما عنده كتب الله له تسعمائة درجة (١).
وقال ميمون بن مهران: الصبر صبران: فالصبر على المصيبة حسن، وأفضل منه الصبر عن المعصية (٢).
واحتمال الأذى فهو الصبر ولكنه أشق، وهو بضاعة الصديقين، وشعار الصالحين وحقيقته أن يؤذى المسلم في ذات الله -تعالى- فيصبر ويتحمل، فلا يرد السيئة بغير الحسنة، ولا ينتقم لذاته (٣).
والله -جل وعلا- يجازيه على صبره: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (٤).
أخي المسلم:
إن الشخص البالغ العاقل ما دام في دار التكليف والأقلام جارية عليه، لا يستغني عن الصبر في حالة من الأحوال، فإنه بين أمرٍ يجب عليه امتثاله، والصبر لا بد منه قولًا وفعلًا، وبين نهي يجب عليه اجتنابه وتركه، والصبر لا بد له منه، وبين قضاء وقدر يجب عليه الصبر فيهما، وبين نعمة عليه شكر المنعم عليها والصبر عليه، وإذا
_________
(١) عدة الصابرين ٩٧.
(٢) تسلية أهل المصائب ١٩٣.
(٣) الصبر وأثره ١٩.
(٤) الزمر: ١٠.
1 / 15
كانت هذه الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازم له إلى الممات.
ولما كان الصبر مأمورًا به، جعل الله -سبحانه- له أسبابًا تعين عليه وتوصل إليه فمما يسلي المصاب: أن يوطن نفسه على أن كل مصيبةً تأتيه هي من عند الله وأنها بقضائه وقدره، وأنه ﷾ لم يقدرها عليه ليهلكه بها، ولا ليعذبه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه، وشكواه إليه وابتهاله ودعاءه، فإن وفق لذلك كان أمر الله قدرًا مقدورًا، وإن حرم ذلك كان ذلك خسرانًا مبينًا.
وعلاج المصائب بأمور منها:
الأول: أن يعلم بأن الدنيا دار ابتلاء، والكرب لا يرجى منه راحة.
الثاني: أن يعلم أن المصيبة ثابتة.
الثالث: أن يقدر وجود ما هو أكثر من تلك المصيبة.
الرابع: النظر في حال من ابتُلي بمثل هذا البلاء، فإن التأسي راحة عظيمة.
الخامس: النظر في حال من ابتُلي أكثر من هذا البلاء، فيهون عليه هذا.
السادس: رجاء الخلف إن كان من مضى يصح عنه الخلف كالولد والزوجة.
السابع: طلب الأجر بالصبر في فضائله وثواب الصابرين وسرورهم في صبرهم، فإن ترقى إلى مقام الرضا فهو الغاية.
1 / 16
الثامن: أن يعلم العبد كيف جرى القضاء فهو خيرٌ له.
التاسع: أن يعلم أن تشديد البلاء يخص الأخيار.
العاشر: أن يعلم أنه مملوك، وليس للمملوك في نفسه شيء.
الحادي عشر: أن هذا الواقع، وقع برضى المالك، فيجب على العبد أن يرضى بما رضي به السيد.
الثاني عشر: معاتبة النفس عند الجزع، أن هذا الأمر لا بد منه فما وجه الجزع مما لا بد منه؟
الثالث عشر: إنما هي ساعةٌ فكأن لم تكن (١).
أخي الحبيب:
متى ما أصابك مكروه في بدنك أو مالك أو حبيبك فاعلم أن الذي قدره حكيم عليم لا يفعل شيئًا عبثًا ولا يُقدر شيئًا سدى، وأنه تعالى رحيم قد تنوعت رحمته على عبده، يرحمه فيعطيه، ثم يرحمه فيوفقه للشكر، ويرحمه فيبتليه، ثم يرحمه فيوفقه للصبر، فرحمة الله متقدمة على التدابير السارة والضارة ومتأخرة عنها، ويرحمه أيضًا بأن يجعل ذلك البلاء مكفرًا لذنوبه وآثامه ومنميًا لحسناته ورافعًا لدرجاته (٢).
وهنا توجيه نبوي كريم بكتمان المصيبة وعدم التحدث بها قال ﷺ: "من البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة".
_________
(١) تسلية أهل المصائب ٢٩ باختصار.
(٢) الصبر وأثره ص ٨.
1 / 17
وإذا كانت المصيبة مما يمكن كتمانها، فكتمانها من نعم الله ﷿ الخفية .. وهذا سر من أسرار الرضا وعدم التضجر والانزعاج.
قال الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة، ما ذكرتها لأحد (١).
ولما نزل في إحدى عيني عطاء الماء، مكث عشرين سنة لا يعلم به أهله (٢).
﵀ لو رأى زماننا لعجب من كثرة الحديث في المصائب .. بل إن البعض حتى قبل أن تسأله عن صحته وحاله .. يبادر بالشكوى .. ويكثر التسخط .. يحدثك بما فيه من الأمراض .. وبما في أبنائه وأهله .. حتى ليخيل إليك أن هذا الإنسان ما مر به خيرٌ ونعمةٌ ورخاءٌ قط .. ووالله لو نظر بعين الرضا لرأى الخير في حياته يحف به من جميع الجوانب .. نعمٌ لا تحصى ولا تعد.
قال ﷺ: "من كنوز البر كتمان المصائب، وما صبر من بث" وحين سأل يونس بن زيد ربيعة بن أبي عبد الرحمن: ما منتهى الصبر؟ قال أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه (٣).
وقال بكر بن عبد الله المزني: كان يقال من الاستكانة الجلوس
_________
(١) مختصر منهاج القاصدين ٢٩٩.
(٢) تسلية أهل المصائب ٢٢٦.
(٣) تسلية أهل المصائب ١٩٤.
1 / 18
في البيت بعد المصيبة (١).
وقال خالد بن أبي عثمان: مات ابن لي فرآني سعيد بن جبير مقنعًا، فقال لي: إياك والتقنع فإنه من الاستكانة (٢).
وليس الجزع -أخي الحبيب- أن تدمع العينان ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيء والظن السيء (٣).
ومن آداب الصبر استعماله في أول الصدمة وحين وقوع الفاجعة لقوله ﷺ: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" (٤).
ومن الآداب سكون الجوارح واللسان، فأما البكاء فجائز.
قال بعض الحكماء: الجزع لا يرد الفائت ولكن يسر الشامت.
ومن حسن الصبر أن لا يظهر أثر المصيبة على المصاب (٥).
وأما البكاء والحزن من غير صوتٍ ولا كلامٍ محرمٍ، فهو لا ينافي الصبر والرضا.
قال تعالى حكايةً عن يعقوب ﵇: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ (٦).
_________
(١) عدة الصابرين ٣٢٦.
(٢) تسلية أهل المصائب ٢٢٤.
(٣) عدة الصابرين ٣٢٦.
(٤) متفق عليه
(٥) مختصر منهاج القاصدين ٢٩٩.
(٦) يوسف: ٨٤.
1 / 19
قال قتادة: كظيم على الحزن، قلم يقل إلا خيرًا، مع قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ (١). وقوله تعالى عنه في أول السورة: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾.
وقد جاء في أثرٍ مرفوع إلى النبي ﷺ: "من بث لم يصبر" لكن يعقوب ﵇ ابيضت عيناه من البكاء ولم يناف حُزنه وبكاؤه وصبره، فإنه ﵇ ما شكا بثه وحزنه إلى مخلوق، وإنما شكاه إلى الله (٢).
وحُكي عن شريح أنه قال: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات وأشكره، إذ لم تكن أعظم مما هي، وإذ رزقني الصبر عليها، وإذ وفقني الاسترجاع لما أرجوه فيه من الثواب، وإذ لم يجعلها في ديني (٣).
ومما ينافي الصبر شق الثياب عند المصيبة، ولطم الوجه، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، وحلق الشعر، والدعاء بالويل (٤).
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة -رضى الله عنها- قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمر الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في
_________
(١) يوسف: ٨٦.
(٢) تسلية أهل المصائب ٢٢٣.
(٣) تسلية أهل المصائب ٢٩٠.
(٤) عدة الصابرين ٣٢٥.
1 / 20
مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها". [الحديث].
وقد جعل الله كلمات الاسترجاع وهى قول المصاب "إنا لله وإنا إليه راجعون" ملجأً وملاذًا لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين من الشيطان لئلا يتسلط على المصاب فيوسوس له بالأفكار الرديئة، فيهيج ما سكن، ويظهر ما كمن (١).
وليعلم المصاب أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها، وهو في الحقيقة يزيد في مصيبته، بل يعلم المصاب أن الجزع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب أخزى شيطانه، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات في الأمر الديني قال النبي ﷺ: "اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر" فهذا هو الكمال الأعظم، لا لطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بالويل والثبور، والتسخط على المقدور.
قال بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يومٍ من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم (٢).
قال عبدالله بن المبارك ﵀: أتى رجل يزيد بن يزيد
_________
(١) تسلية أهل المصائب ١٦.
(٢) تسلية أهل المصائب ٣٩.
1 / 21
وهو يصلي وابنه في الموت، فقال: ابنك يقضي وأنت تصلي؟ ! فقال: إن الرجل إذا كان له عمل يعمله فتركه يومًا واحدًا كان ذلك خللًا في عمله (١).
قال ابن عبد العزيز لأم مات ابنها: اتقي الله واحتسبيه عند الله واصبري، فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع (٢).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصبر على المصائب واجب باتفاق أئمة الدين، وإنما اختلفوا في وجوب الرضا (٣).
ومما يقدح في الصبر والرضا وينافيهما: إظهار المصيبة، والتحدث بها وإشاعتها، سواء كان كلامًا بها بين الأصحاب أو غيرهم، اللهم إلا أن يقول لأصحابه أو لأقاربه: مات فلان، يعني والده أو ولده، ونحو ذلك، وما يريد به إظهار المصيبة، وإنما يريد إعلامهم لأجل الصلاة عليه وتشييعه ونحو ذلك مما هو من فروض الكفايات، ويحصل لهم بذلك القراريط من الأجر (٤).
قال شقيق البلخي: من شكا مصيبة به إلى غير الله، لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوةً أبدًا (٥).
وما يصيب الإنسان محن وابتلاء من الله -جل وعلا- فالفتنة
_________
(١) تسلية أهل المصائب ٢٢٤.
(٢) تسلية أهل المصائب ٢٢٤.
(٣) الفتاوى ١١/ ٢٦٠.
(٤) تسلية أهل المصائب ٢٢٦.
(٥) منهاج القاصدين ٣٠١.
1 / 22