مرت أيام وسنون على قدموس تكاثرت فيها ذريته، ولكن سعادته كانت دائما مهددة بما أوعده به الهاتف من آلام، وكان أول ألم نزل به ما أصاب سبطه أكتيون ابن بنته أريسته؛ وذاك أن أكتيون ذهب في بعض الأيام يتصيد في جبل قرب بيوثى، فأعياه الحر والتعب فدخل غار غاني مستظلا، وكان هذا الغار مقدس ديانا. غابة خضراء في وسطها ينبوع غزير الماء تبترد فيه بنت جوبيتر وحورياتها العذارى حينما تعود وإياهن من الصيد. وكانت ديانا وعذاراها حين دخول أكتيون الغار عاريات في الماء، فشاهدهن في عريتهن فولولت العذارى حياء وذعرا ولولة ملأت الغابة، وغضبت ديانا لأنه رآها عارية وهي عذراء غيور على عذرتها ضنينة بها نذرت المحافظة عليها إلى الأبد، فتناولت ملء كفها ماء ورشقته به، فتحول إلى وعل ونبت له قرنان في أم رأسه، وقالت له: اذهب الآن وخبر، إن استطعت الكلام، أنك شاهدتني وعذاراي عاريات. ففر من وجهها يعدو حتى وصل إلى عين ماء، فنظر فيها فرأى أنه وعل ذو قرنين فبكى.
وكان لسانه قد عقل فتاه على وجهه حتى وصل إلى حيث ينتظره خدمه وكلابه، فلما أبصرهم دنا منهم يريد أن يكلمهم ويعرفهم نفسه، فلم يستطع إلى الكلام سبيلا، وشاهدته كلابه، فالتحقت به تطارده ولم يكن في طوقه أن يناديها بأسمائها، طاردته كلابه حتى أدركته ومزقته بأنيابها وأظفارها، فاشتفى قلب ديانا العذراء.
أما الألم الثاني الذي حل بقدموس، فقد كان مما سببه جوبيتر لابنتيه سميلا وإينو، وذاك أن هذا الإله، تبع البنات الإنسيات، رأى سميلا فأحبها، ويظهر أنه كان يفتتن بجمال كل فتاة من سلالة آجينور، وما عتم أن اختطفها وتزوجها، فغارت منها جونون، وشاءت أن تتخلص منها، لا سيما أنها كانت تبغض كل سلالة آجينور من أجل أوروبا، فانحدرت إلى الأرض في زي بريسا العجوز، مربية سميلا، ودخلت عليها وعلمتها أن تسأل جوبيتر، يوم يأتي إلى زيارتها، أن يحيطها بهالة المجد والعظمة التي يحيط بها زوجه جونون ساعة يكون وإياها في فراش الزوجية. وجاء جوبيتر إلى زيارة سميلا، فسألته أن يمنحها من المجد والعظمة ما يمنح جونون، وكان جوبيتر يضن بكل ما هو من حق الألوهية لا يتساهل به أقل تساهل خشية أن يبتذل بين أبناء الأرض المعدين للفناء، فتنعدم ميزات الآلهة، وهكذا لم تكد سميلا تفوه بما سألته إياه حتى احتدم غيظا واستل من أحشائها ولده الذي كانت حبلى به ورماها بصاعقة أحرقتها، ثم شق فخذه ووضع ابنه فيها وخاط عليه إلى أن تمت أشهره، فأخرجه وسلمه إلى خالته إينو فأرضعته، ولكن الحوريتين ياريا (سارة) ونمريتس (صادقة) أخذتاه منها وحملتاه إلى جزيرة ناكسوس، فربتاه في مغاورهما تغذيانه باللبن، وسمتاه باخوس، ولما ترعرع خرج من المغاور، وطاف في الشرق يصحبه مؤدبه سيلين والإله بان وسرب من الحوريات، فافتتح الهند كلها، وعاد إلى جزيرته فاستوى على عرش ألوهية الخمر والنبات الحقلي والغابي والمروج والرياض.
أما إينو فقد تزوجت البطل اليوناني أتاماس ملك أوكومين، فولدت منه غلامين ليركوس وميليسرت، وكان له من زوجه الأولى نيفيله غلامان فريكسوس وهله اتخذتهما جونون أداة لتوقع الشر بين إينو وزوجها انتقاما من إينو؛ لأنها أرضعت باخوس، فأوقعت في قلب إينو كرها شديدا لولدي زوجها. واتفق أن حصلت مجاعة في أوكومين، فأرسل أتاماس يستفتي بيثي، كاهنة دلف وهاتفة أبولون، فيما يصنعه تداركا للمجاعة، فأمالت إينو قلوب الرسل إليها وجعلتهم يقولون: إن بيثي تأمر بتضحية فريكسوس. فكشفت جونون لأتاماس مكيدة إينو وشردت عقله موهمة إياه أن ليركوس ابنه من إينو وعل فقتله، وحملت إينو على أن تلقي ابنها ميليسرت في مرجل ماء غال فمات، ثم دفعتها فارتمت في البحر فماتت غرقا وطفت جثتها على وجه الماء، فحملها دلفين إلى خليج قورنثه، وتحولت هنالك إلى إلهة بحرية اسمها ليكوثيا تساعد بعطفها ولطفها البحارة المهددين بالغرق والعواصف.
نزلت هذه الآلام المرة على بيت قدموس لقتله ابن المريخ وتمليته نظره منه وهو يحتضر . وتوالت عليه وعلى زوجه هرمونيا أحزان ملا معها الحياة. وكان جوبيتر قد رق لهما فجعلهما إلهين في ثوبهما الإنساني، ولكنهما لم يعلما بذلك، فهجرا بيوثى يائسين وتوجها إلى إيليرية، وتذكر هناك قدموس أنه معد إلى التحول إلى ثعبان ولا منجاة له مما هدده به الهاتف، فطلب وزوجه هرمونيا إلى جوبيتر أن ينفذ بهما ما قدر لهما فاستجابهما، وحول قدموس إلى ثعبان وهرمونيا إلى حية ووضعهما في فردوس الجحيم. وكانا أحيانا يخرجان معا فيجولان في غابات إيليرية متنزهين، ولكنهما لم يكونا يؤذيان أحدا. (3) مينوس وأريان
ولدت أوروبا لجوبيتر فيمن ولدتهم مينوس الشاب الجميل، فتولى بإرادة أبيه عرش إكريت، وتزوج صبية جميلة تدعى بازيفابي ولدت له أريان فمنحها جدها جوبيتر صفة إلهية، وأعطاها خيطا سحريا تقود به الضالين.
وفي أحد الأيام ترك مينوس زوجه بازيفابي في قصره في إكريت، وسافر بجيشه إلى محاربة مدينة ميغار حليفة أثينا لخلاف وقع بينه وبين مليكها الشيخ نيزوس، فحاصر ميغار بضع سنين لم يتمكن خلالها من فتحها؛ لأنها كانت محمية بطلسم هو شعرة أرجوانية مندسة بين شعرات مليكها نيزوس، فلا يقوى أحد على فتحها وإزالة ملك ملكها إلا إذا تسنى له الحصول على تلك الشعرة.
وكان للمدينة سور قوي يحيط بها قيل إن أبولون، إله النور والفنون الجميلة والكهانة، وضع في أحد الأيام قيثارته عليه فالتقطت حجارته نغماتها، وكان للملك نيزوس بنت تدعى سيلا، تأتي كل يوم إلى السور وترشق حجارته بحصى صغيرة، فترن مرددة نغمات قيثارة أبولون. واتفق أن جاءته في أحد الأيام والمعارك واقفة بين مدينتها وجيش مينوس، فأشرفت من أحد الأبراج على السهول المنبسطة حول المدينة، فرأت فارسا ممتطيا فرسا أبيض، ومدرعا بدرع تبرق في أشعة الشمس، وفي يده مزراق يسطع سنانه كالكوكب الدري، فرنت إليه تتثبته، وإذا به ينزع الخوذة عن رأسه ويكشف وجهه فيبين في ثوبه القرمزي فتنة النواظر، ثم همز فرسه فمر به من تحت السور كالبرق الخاطف، فعرفت أنه مينوس، وودت لو تلقي بنفسها من على البرج فتسقط بين يديه، ولعنت الحرب لأنها جعلته عدو أبيها، ثم ما لبثت أن باركت الحرب، فلولاها ما رأت هذا الشاب الجميل ولا عرفته، وشد ما تمنت لو تنفتح أمامه الأسوار، فيدخل المدينة وتنتهي الحرب فتهبه نفسها وتصبح أمة له.
ثم خاطبت نفسها قائلة: لماذا أدع دماء أبناء مدينتي تهرق في حرب لا نهاية لها؟ وعلام أترك مدينتي تشقى في حصار لا فرج منه إلا بسقوطها في يد من أحبه قلبي؟ أليس الأجمل بي أن أحقن دماء بني قومي وأبعد الشقاء عنهم؟ لأذهب إلى مينوس وأسلمه نفسي وأسأله أن يكف نفسه عن الحرب ويرفع الحصار، ولكن أنى لي الوصول إليه والأبواب مقفلة والعسس لا يأتلي طوافا؟
وقطبت حاجبيها تفكر فيما تصنع، وإن هي إلا هنيهة حتى أشرقت أسارير وجهها، واستدارت على نفسها، وعادت إلى قصر أبيها، ولما أرخى الليل ذوائبه ونامت العيون مشت مشية الحية منسلة إلى غرفة والدها، فرأت شعرته الأرجوانية تسطع نورا بين شعراته البيضاء فاستلتها، وخرجت تجر ذيل خيانتها وراءها إلى أن وصلت إلى السور، فانفتحت لها أبوابه، فاجتازتها ومشت إلى مخيم الأعداء حاملة جريمتها بيدها، ولما انتهت إلى خيمة مينوس دخلت عليه، فبهت لرؤيته صبية من بنات أعدائه تأتي إليه وحدها تحت غياهب الظلام، وسألها: من أنت؟ قالت: أنا سيلا بنت الملك نيزوس، جئتك لأسلم إليك آلهة بيتي ولا أطلب مكافأة إلا أن أكون لك أمة. خذ هذه الشعرة الأرجوانية عربونا لحبي لك، واعلم أني، في تسليمي إياها إليك، إنما أسلم إليك رأس والدي، ثم بسطت يدها بالشعرة، فتراجع مينوس مذعورا من خيانتها ووقاحتها، وأجابها بغضب: لتطردك الآلهة من عالمنا، أنت يا عار زماننا، وليحرموك البر والبحر، أما أنا فلا أطيق أن تتدنس إكريت، مهد جوبيتر ومدينتي، بملمس قدمي مسخ مثلك، قال هذا وانتزع الشعرة من يدها، ومضى إلى المدينة فانفتحت وخضع له مليكها وسكانها ففرض عليهم فروضا عادلة، وقفل راجعا إلى قومه، فأمرهم بأن يحلوا أربطة سفنهم وينشروا أشرعتها ليعودوا إلى بلادهم.
Неизвестная страница