وكان في السماء بعض آلهة منصتين إلى اعترافات مذنبي الأرض، فسمعت إلهة منهم طلبة مرة فحنت عليها، وأجابتها إلى ما سألت وحولتها إلى شجرة حملت اسمها «شجرة المر»، وتركت دموعها تسيل من الشجرة عطرا طيبا يجمعه عابرو الطريق.
وكان الجنين لا يزال في بطن مرة وقد اكتملت أيامه، فجاءها المخاض وأخذتها الآلام ولم تكن تستطيع الكلام لتدعو «لوسين» الإلهة التي تساعد الحبالى في وضعهن، لكن «لوسين» لم تكن تخفى عليها خافية، فأدركت أمرها وانحدرت من أعلى السماء إلى مساعدتها، وإذا بالشجرة تتلوى تلويا عنيفا، ثم تنشق ويخرج الطفل من أحشائها، فاستقبلته حوريات الماء وأضجعنه على مهد من العشب. وكان الطفل جميلا يستهوي قلب كل من رآه، حتى الحسد نفسه فإنه أعجب بجماله. هكذا ولد أدونيس الإله الفينيقي، وحوريات الماء هن اللواتي اخترن له هذا الاسم اللطيف.
وشعرت فينوس إلهة الجمال والحب بأنه ولد في الأرض طفل عجيب بجماله، فأبت إلا أن تكون لها يد في تربيته، فانحدرت إلى الأرض في مركبتها التي تجرها حمائم بيضاء، وأخذت أدونيس الطفل من حوريات الماء ووضعته في صندوق، وأقفلت عليه وسلمته إلى فرسيفين، ملكة الجحيم، آخذة عليها عهدا بألا تفتحه وأن تعيده إليها ساعة تطلبه منها، ثم مضت طائرة على مركبتها إلى جبال الآلهة، ولكن فرسيفين لم تراع عهدها؛ فقد رابها الصندوق واشتهت أن ترى ما فيه ففتحته، ورأت ذلك الطفل يشع فيه كالكوكب فسحرت بجماله واحتفظت به لنفسها، ولم تستطع فينوس أن تنتزعه منها، فتحاكمتا إلى جوبيتر الإله الأعظم، فقضى بأن يكون الطفل أربعة أشهر لفرسيفين وأربعة أشهر لفينوس وأربعة أشهر حرا بنفسه.
مرت السنون فشب أدونيس الذي كان أخا أمه وابنها مقفلا عليه في قلب شجرة، وترعرع وصار فتى بسمات الحياة ملء إهابه وآيات الجمال حشو ثيابه، وكان قد خرج من حكم وصاية فرسيفين وفينوس عليه، وصار رشيدا حر التصرف بأمر نفسه.
وكانت عشتروت (فينوس) تتقصى أخباره من حوريات الغابات؛ لأنها كانت تعلم أنه يحب الصيد ومطاردة الوحوش. وذات يوم عن لها أن تنزل إلى مغارة أفقا في لبنان، فتبترد بمائها الصافي الزلال، فمر أدونيس من هناك اتفاقا وقد تفتقت أزهار جماله فافتتنت عشتروت به ولم يأبه لها، فكأنه أراد أن ينتقم منها لما سببته لأمه من الآلام بذلك الغرام الذي ألهمتها إياه. ويظهر أن كوبيدون، الإله الصغير مثير الحب بسهامه، قد لامس بأحد أسهمه، عن غير قصد، فؤاد أمه فجرحه، وأحست آلام الجرح فغضبت على كوبيدون، وطردته من أمامها، ولكن سم السهم كان قد فتك فتكته، فشغفت عشتروت بأدونيس أشد الشغف، وتركت من أجله شواطئ «قيثيرا» جزيرتها الساحرة في الأرخبيل، وعشرة بافوس، مدينتها القبرسية التي يحيط بها بحر عميق، وأهملت كل الجزر التي تحبها حتى السماء، وفضلت أدونيس عليها جميعا، فتعلقت بأذياله، والتحقت به في لبنان ترافقه أينما ذهب، فترقد معه في ظلال الخمائل، ويتيهان معا خلال الغابات والجبال والصخور المكسوة بالطحلب والعليق. ولكنه على استئناسه بها لم يبادلها الحب ولم يشف غليلها بقبلة كانت تحترق جوى لاجتنائها من ثغره الربيعي.
وكان أدونيس صيادا ماهرا مولعا بصيد سباع الوحوش، فكانت عشتروت تثير له الكلاب فتتبع هذه الصيد وتسد عليه مذاهبه، فيأسره أدونيس دون ما خطر، وعشتروت سائرة إزاءه مشمرة ثوبها فعل ديانا إلهة الصيد، فتفر من أمامها الأرانب والغزلان والأراوي والنعام.
غير أنها كانت تخشى على أدونيس السباع الضواري، فتعظه قائلة: كن شجاعا تجاه كل ما يفر من أمامك، ولكن حذار الجرأة على الأجراء فإنها خطرة عليك، إن جمالك وشبابك اللذين فتنا عشتروت لا يحسنان أن يفتنا الأسود، فإياك يا حبيبي الشاب أن تخاطر بسعادتي التي هي أنت وحدك، لا تصارع الوحوش المفترسة التي سلحتها الطبيعة بسلاح قوي، فالأسود والخنازير والحيوانات المتأبدة إياك أن تدنو منها.
فبهت أدونيس لوصيتها، وسألها: ما هو سبب خوفك علي من هذه الحيوانات؟ فاضجعت وإياه تحت حورة مسدولة الأغصان قرب ينبوع أفقا، وقالت له: أصغ إلي أحدثك حديثا عجبا: كان على أركاديا ملك يقال له: ياسيوس من سلالة ليكاوون أول ملوك اليونان، ولم يكن لهذا الملك ولد يخلفه في الملك بعد موته، فطلب من الآلهة أن يرزقوه ولدا ذكرا يرثه، فحبلت زوجته ولكن الآلهة رزقته بنتا ولم ترزقه غلاما، فاغتاظ وأمر زوجته أن تلقيها على الجبل البرتيناني، فلم يسعها مخالفته، فحملتها أمها إلى هذا الجبل وتركتها إلى ما قدر لها الآلهة من نصيب، واتفق أن مرت بها دبة، فحنت عليها وحملتها إلى وجارها تقوتها بحليبها إلى أن شبت وبلغت مبلغ النساء، وتعلمت رماية النبال، فكانت تصطاد الحيوانات، وقد أكسبها كلفها بالصيد سرعة العدو، وكانت ذات جمال وحفاظ شديد على بكارتها، وفي أحد الأيام بينما كانت تطارد الوحوش هاجمها حيوانان مخيفان يقال لهما السانتور، فلم ترهب ولكنها أوترت قوسها ورمتهما عنه بسهمين أصابا مقاتلهما فخرا لليدين وللفم صريعي سهامها.
واتصل خبرها بأبيها الملك فهفا قلبه؛ وهل هي إلا ولده وقطعة من كبده؟! فجاء بها إلى قصره، فكانت عنده بمنزلة روحه.
هذه الفتاة هي أتلانت العذراء التي لا يعرف رائيها أيفتنه منها سحر جمالها أم تأسر فؤاده خفة رجلها، وكان أبوها يرغب في تزويجها لتلد له وارثا لمملكته، ولكنها كانت تكره الزواج وتفضل أن تبقى بكرا. وألح عليها ذات يوم فانطلقت إلى هيكلي تستشيرني وتطلب مني أن أجيبها بلسان هاتفي، وأقول لها: هل يمكنها أن تتزوج؟ فأجبتها: كلا! ولكنك لن تفري من الزواج، وسوف تتركين ثوبك هذا البشري، وتلبسين ثوبا آخر دون أن تتركي الحياة. فخافت أتلانت من هذا الجواب، واعتزلت المدينة وخرجت تعيش في عتمة الغابات منصرفة إلى الصيد، غير أن الشبان الذين كانوا قد رأوا جمالها وفتنوا بها وطلبوا يدها فرفضتهم التحقوا بها إلى الغابات. واشتهر جمالها في بلاد الإغريق فقصدها الشبان، أبناء الملوك والأمراء، يخطبون ودها ويسألونها رضاها عنهم، فلما رأتهم تكاثروا عليها وضايقوها بولوعهم بها أرادت أن تتخلص منهم، فشرطت عليهم أن تتسابق جريا على الأقدام وكل من يرومها زوجة له، فإذا سبقها تزوجته، وإن سبقته رمته عن قوسها بسهم يقتله، فرضوا بشرطها فذهبوا ضحايا حبها.
Неизвестная страница