إذ ما العلوم الإنسانية، إذا لم تكن محاولات لتنميط السلوك البشري في شتى الظروف، سواء منها ما كان ظروفا اقتصادية أو نفسية أو اجتماعية؛ وإذن فالأمر فيها لا يخرج عن كونه مشاهدات وتجارب تتجمع لدينا بطريقة منظمة، ثم تبوب أصنافا، ثم يفترض لكل صنف منها مبدأ عام يفسرها؛ فليس ثمة من فرق جوهري بينها وبين الظواهر المناخية مثلا، أو ظواهر الضوء والصوت في علم الفيزياء؛ اللهم إلا أن يكون السلوك البشري أكثر تعقيدا، لكن هذه الزيادة في تعقيد الظاهرة لا ينفي عنها كونها ظاهرة على كل حال، فإن كانت أعسر تناولا، تطلبت مزيدا من التحليل؛ فما دام السلوك البشري واقعا في الوجود الفعلي المشهود؛ فهو إذن شأنه شأن كل ما يقع في الوجود من واقع. ولعل ما دعا فريقا من فلاسفة العلوم إلى أن يتشككوا في إمكان أن تندرج العلوم الإنسانية مع العلوم الطبيعية في منهج واحد، هو صعوبتها من جهة، وتخلفها وبعدها عن الدقة إذا قيست إلى علوم الطبيعة من جهة أخرى، لكن ذلك كله لا يعارض شروط المنهج العلمي كما نعرفه في العلوم التي تقدمت؛ فليس لهذا المنهج إلا شرطان أساسان؛ هما إجراء مشاهدات وتجارب نأمن فيها الزلل، ثم استيحاء هذه المشاهدات والتجارب نظرية تنسق الجزئيات المشاهدة في بناء واحد، ويمكن العودة بها إلى مجال التطبيق فتصح في هذا المجال، وليس في العلوم الإنسانية ما ينافي هذين الشرطين.
ولقد أدى إلى تخلف هذه العلوم عدة عوامل يمكن التخلص منها بالتدريب المنهجي؛ فمن أهم تلك المعوقات التي حالت دون أن تتقدم علوم الإنسان بمثل ما تقدمت علوم الطبيعة، استخدامها لمفهومات كيفية لم تحاول أن تلتمس لها طريقا يحولها إلى صيغ كمية، فتراها - مثلا - تستخدم ألفاظا مثل: «طبقة»، «مجتمع»، «ذكاء »، «منفعة»، «ديموقراطية»، «غرائز» ... إلخ إلخ، وكأنما هذه الألفاظ بسيطة المعاني ويمكن ضبط مدلولاتها ضبطا يمنع الاختلاف في فهمها، ويساعد على معاملتها معاملة تشبه ما نعامل به ألفاظا مثل: «حرارة»، «ضوء»، «صوت»، «كهربا» وأمثالها، وإنه لمن العسير علينا أن نتصور سبيلا إلى التقدم العلمي قبل أن نجد الطريقة التي تتحول بها المعاني الكيفية إلى درجات كمية يمكن قياسها بجهاز يبتكر لكل مجال؛ فقد كان يمكن - مثلا - أن تظل «الحرارة» معتمدة على التقدير التقريبي الذي لا يفيد شيئا، إذا لم يكن العلماء المختصون قد ابتكروا جهازا هو الترمومتر، يقيس «الدرجة» بحيث تصبح الحرارة سلما متدرجا من أدنى درجة يمكن قياسها إلى أعلى درجة يمكن قياسها، فبدل أن نقول «حار» أو «بارد» نقول درجة كذا تحت الصفر أو درجة كذا فوق الصفر، فتمكننا هذه الدقة من معالجة الأجسام بما يتفق مع الدرجة الحرارية المطلوبة، وهكذا في جميع المدركات في مجال العلوم، وأما في العلوم الإنسانية فما زلنا - مثلا - نقول في ميادين الاقتصاد والسياسة والنفس والاجتماع ألفاظا لا نريد بها إلا معانيها في القواميس أو في الاستعمال اليومي، دون أن يكون هنالك الوسائل التي تترجمها إلى درجات حسابية، على أن هذه العلوم الإنسانية تجاهد في سبيلها إلى هذه الترجمة الكمية لمفاهيمها شيئا فشيئا، وكثيرا ما تصيب النجاح فتتقدم بمقدار ما نجحت.
ومن معوقات العلوم الإنسانية كذلك، أنها ما زالت إلى يومنا هذا تبيح لنفسها أن تستخدم ألفاظا ذاتية الدلالة، كالألفاظ الدالة على قيم، أو الألفاظ المثيرة للوجدان، غير مكتفية بلغة العقل، فما أيسر على علم النفس أن يستخدم صفات يصف بها أفراد الناس، من أمثال «سوي» و«شاذ»، أو من أمثال «انبساطي» و«انطوائي» و«عدواني» وغيرها، وكلها ألفاظ تحمل معها قيما مما يتعذر معه الدقة العلمية الموضوعية، فهل عرفت في علوم الفيزياء والكيمياء ظاهرة يصفونها بأنها «شاذة»؟ إن الطبيعة لا تعرف الشواذ، فلكل ظاهرة في الطبيعة قانونها الذي تندرج تحته الظاهرة؛ إن الفرد الإنساني الذي نسميه شاذا لتخلفه العقلي عن أترابه أو لاختلاف سلوكه عن سلوك الكثرة الغالبة من جيرانه في حد ذاته ظاهرة توضع للبحث والتحليل والتقنين، فإذا لم نجدها منطوية تحت القوانين التي تشمل سائر الناس؛ فإن لها قوانينها التي تفسرها؛ ولن ينفتح طريق التقدم المنهجي أمام العلوم الإنسانية إلا إذا فرقنا تفرقة حادة بين تفسير الظواهر كما تقع، بالقوانين التي تمكننا من التنبؤ بمسار تلك الظواهر، وبين القيم الأخلاقية أو الجمالية؛ ولا يعني ذلك أن حياة الناس تستغني عن مجموعة القيم، لكن لكل من الجانبين مهمته التي يؤديها، فبالدراسة العلمية الصحيحة «نفهم» أمور الواقع كما هي واقعة، وبالقيم نتعلم كيف ينبغي أن نسلك حيالها.
ومن العوامل التي لازمت العلوم الإنسانية أيضا فأدت إلى تخلفها دون العلوم الطبيعية، إقحامها لفكرة «الغايات المثلى» في ميادين بحثها؛ ففي السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع، ترانا نلتزم «مبادئ» نشكل سلوكنا على أساسها، ونعده خروجا على الموازين الكاملة للحياة الإنسانية ألا نسلك على غرار تلك المبادئ وما تمليه؛ وليس في ذلك بأس، لكن البأس كل البأس هو في الطريقة التي نفهم بها كلمة «مبادئ» (وأعني حين يكون المجال مجال تفكير علمي في موقف معين) إذ كثيرا ما يفوتنا المعنى الذي يساير التفكير العلمي ولا يعارضه؛ وهو أن «المبادئ» في العلوم الإنسانية هي من قبيل ما يسمى «بالفروض» في ميادين العلوم الطبيعية، فإذا كانت الفروض في هذه الميادين تسقط إذا لم تفلح عند التطبيق، فنستبدل بها فروضا أخرى، إلى أن نقع على «الفرض» الذي يصح عند التطبيق، فنطلق عليه عندئذ اسم «نظرية» علمية أو اسم «قانون» علمي، فهكذا يجب أن تفهم كلمة «مبادئ» في العلوم الإنسانية؛ فهي جديرة بأن نتمسك بها طالما يثبت لنا أنها هي المؤدية بنا إلى حياة نريدها، وأما إذا تبين أن «مبدأ» ما من شأنه إذا ما استمسكنا به في سلوكنا أن يؤدي بنا إلى حياة متخلفة سيئة فقيرة مريضة متخبطة، فعندئذ لا بد من تغيير المبدأ بمبدأ سواه، ومكمن الخطأ في هذا الصدد هو أن ننظر إلى «المبادئ» وكأنها من حقائق الكون الثابتة كشروق الشمس وغروبها وتوالي الفصول على مدار العام.
تلك هي أمثلة من المعوقات التي تمسك بالعلوم الإنسانية فلا تدعها طليقة السير على مناهج العلم كما عرفتها العلوم الطبيعية التي بلغت مبلغا من الدقة يجعلها نموذجا يحتذى فيما عداها من العلوم، على أن ذلك لا ينبغي أن ينسينا موقفا آخر يقفه فريق من فلاسفة العلم، إذ يقولون إن للعلوم الإنسانية ظروفا خاصة تحول بينها وبين اصطناع المناهج العلمية المعروفة في علوم الطبيعة، منها أن الاطراد في الحياة الإنسانية أقل ظهورا من الاطراد في ظواهر الطبيعة، فلئن كانت ظواهر الطبيعة تقع على أنماط يمكن إدراكها واستخراج القوانين العلمية التي تحكمها، فإن أفراد البشر وشعوبهم لا يطرد سيرها على مثل هذا المنوال المتجانس، ومنها أنه من الممكن لعلماء الطبيعة أن يعيدوا حدوث الظاهرة التي يضعونها موضع بحث، وقتما يشاءون في معاملهم، وأما الظواهر الإنسانية فكثيرا ما تنفرد بالحدوث مرة واحدة ثم لا تعود ولا هي مما يمكن إعادته، لكن الرد على اعتراضات كهذه هو ما أسلفنا ذكره، وهو أن الفروق بين المجالين إنما هي - عند التحليل - فروق في درجة التركيب، لا فروق في طبائع الأمور ذاتها. •••
يقولون كذلك فيما يقولونه، اعتذارا عن عدم التزام المنهج العلمي الطبيعي في ميادين العلوم الإنسانية. إن للإنسان إرادة حرة يمكنه بها أن يغير المسار السببي للأشياء؛ فكيف نتصور بعد ذلك أنه هو نفسه خاضع للروابط السببية؛ وأن التجارب التي نجريها في المعامل على الجماد والنبات والحيوان، محال أن نجري مثلها على الإنسان، وأنه لا عجب إزاء ذلك أن نجد قوانين العلوم الطبيعية عامة ومطلقة لا تتغير بتغير المكان والزمان، وأما الإنسان فحتى لو ضبطنا قوانين سلوكه، فإنما نضبطها في مجال حضارة بعينها، وعصر معين، ومجتمع معين، بحيث لا نستطيع التوسع في تطبيقها لتشمل العالمين جميعا في كل مكان وفي كل عصر من الزمان، ويقولون أيضا إن الذي ساعد العلوم الطبيعية على التقدم والدقة، هو الأجهزة القياسية التي عن طريقها يمكن تحويل المدركات إلى أرقام وصيغ رياضية ، وأن ذلك كله مستحيل بالنسبة إلى الإنسان.
ونحن نرد على ذلك كله بعبارة موجزة، فنقول: إنه إذا ثبت أن في الحياة الإنسانية ما يتعذر إخضاعه للمنهج العلمي الطبيعي، فليكن له مجال غير مجال العلم، وأما أن نعترف منذ البداية بأنه أمر مستحيل، ثم نمضي مع ذلك في الظن بأنه «علم» اجتماع و«علم» نفس و«علم» سياسة، فتناقض مرفوض؛ على أن الذي يوهم المعترضين بالاختلاف الجوهري بين الحياة الإنسانية والظواهر الطبيعية (ولاحظ جيدا أننا هنا نقتصر فقط من الحياة الإنسانية على ما يمكن إخضاعه للعلم، معترفين أن ثمة جوانب أخرى في تلك الحياة لا ندعي لها مثل ذلك، بل ولا نريده لها) أقول إن الذي يوهم المعترضين بوجود فروق جوهرية بين المجالين، هو أنهم ينظرون إلى الإنسان من ناحية مضمونه الشعوري أو الكياني، على حين أن العلم - في الحياة الإنسانية وفي ظواهر الطبيعة على السواء - إنما ينصب أساسا على «العلاقات» التي تربط الأطراف بعضها ببعض، وهذه العلاقات أينما كانت، ممكنة القياس إذا أوجدنا لها الأجهزة التي تقيسها، ومن ثم فهي مما يمكن أن يصاغ في دالات رياضية تمكننا من التنبؤ بما سوف يقع قبل وقوعه، إذا ما توافرت له ظروف معينة، بل تمكننا من إيجاد ما نريد إيجاده من أوضاع إنسانية ما دمنا قد عرفنا قوانينها؛ وإلا فكيف يمكن بغير ذلك أن ندعى بأننا نضع خطة علمية تسير عليها حياتنا - في الإنتاج أو في التعليم أو في غيرهما - مدى عدد من السنين نحدده؟ (6) العلم وحده لا يكفي
وأعود إلى ما بدأت به، وهو أن حياة الإنسان متعددة الجوانب متشعبة الخيوط؛ هي كالقصر ذي الغرف الكثيرة والأبهاء الفسيحة، كثير الأبواب والنوافذ؛ فكل باب يؤدي بك إلى غير ما يؤدي إليه الباب الآخر، وكل نافذة تطل منها على مشهد غير المشهد الذي تراه من النافذة الأخرى، هذا أمر في حياة الإنسان غير منكور؛ لكننا في هذه الصفحات مقصرون أنفسنا على غرفة واحدة من القصر، وعلى نافذة واحدة من نوافذه وباب واحد من أبوابه، أما الغرفة الواحدة التي قصرنا أنفسنا عليها هنا فهي غرفة العلم، وأما النافذة التي فتحناها دون سائر النوافذ فهي تلك التي تطل على الواقع الخارجي الذي يمكن حسابه بالأرقام، وأما الباب الذي يدخلنا إلى تلك الغرفة لنطل منها على ذلك المشهد، فهو المنهج العلمي الذي ذكرنا من أسسه أطرافا موجزة.
ونقول ذلك تحذيرا لمن يهم بسؤالنا - وهنالك من القراء من سوف يفعلون ذلك برغم كل تحذير - هل تريد برحلتك القصيرة هذه في ميادين التفكير العلمي أن تسقط من الحساب كائنات لا سبيل إلى شهودها بالإبصار ولا إلى سمعها بالآذان؟ وهل تريد للعلم والتفكير على أسسه، أن يبسط جناحيه العريضين ليشمل فيما يشمله حقائق هو عاجز بإزائها، كالحب والكراهية، والشجاعة والجبن، والرحمة والقسوة؟ هل يستطيع العلم أن يفسر لنا كيف تبدع العبقرية حين تبدع؟ كيف يتركب الموسيقار العظيم بحيث ينظم ما لا يستطيع سواه أن ينظمه؟ هل يمكن العلم أن يدلنا أين يقع الفرق في التكوين الجسدي بين المعري وشكسبير من جهة وعامة الناس من جهة أخرى؟ إذا كانت مقومات العالم هي الذرات التي يريد العلم أن يحسب مقاديرها ليضعها في دالات رياضية، فأين عسانا أن نضع في عالم كهذا معاني كالحرية والمساواة، وأين نضع المثل العليا التي يصبو الإنسان إلى تحقيقها؟ يقول أنصار المنهج العلمي إنه لا بد من صياغة القوانين التي تتيح لنا أن نتنبأ بما سوف يقع في الظروف المعينة، وأن تتيح لنا إيجاد ما نريد إيجاده بعد أن لم يكن، أفيكون معنى ذلك أنه لا جديد يضاف إلى الإنسان وإلى العالم مما يستحيل اليوم أن نتنبأ به على أساس ما قد كان؟ ثم هل ضاقت رحاب الكون ورحاب الحياة بحيث لا يمكن النظر إليها على حقيقتها إلا من زاوية واحدة هي زاوية العلم ومنهجه؟ أكل شيء عندك هو العقل ومنطقه والرياضة ولغتها؟ أين إذن تريد أن تضع حدس المتصوفة ولمحات الشعراء؟ وماذا أنت قائل في ضروب من الوجدان يضطرب بها الفؤاد، دون أن يكون أمامنا السبل لإخراجها في لفظ علمي مرتب ومفهوم على غرار ما يريدنا منهج العلم أن نفهم وأن نرتب؟
هذه كلها أسئلة واردة، أسبق بها القارئ قبل أن يفاجئني بها بعد قراءة هذه الصفحات؛ هي أسئلة أسبق بها لأقول بملء الفم إن العلم غرفة واحدة ذات باب واحد ونافذة واحدة، من قصر تعددت فيه الغرف والأبواب والنوافذ، لكننا هنا مطالبون بالحديث عن العلم دون سائر الجوانب، إننا هنا كالسائر في مدينة يبحث عن سلعة يريد شراءها، فسأل عن الطريق إلى مكان عرضها ثم وقف هناك لينظر ويفحص ويجري عملية الشراء، فهل يجوز لقائل إن يوجه إليه اللوم: كيف سعيت هذا السعي كله لتشتري قبضة من الفوم والعدس، مع أن هنالك دكاكين تبيع الذهب والفضة واللؤلؤ والمرجان؟ كيف تؤثر هذا الطعام المتواضع وأمامك لحوم الضأن والبقر والدجاج والسمك؟ ... نعم هذه كلها سلع معروضة في السوق، لكنه لسوء حظه قد خرج من الدار باحثا عن شيء واحد طلب إليه أن يبتاعه، وهو تلك القبضة المتواضعة من الفوم والعدس!
Неизвестная страница