قلت: أرجو أن يعودوا قريبا إلى أهلهم وديارهم وأحبابهم، وأحب ألا تجهدي نفسك من أجلي، فكل ما أطمع فيه فراش أتوسده هذه الساعات الباقية من الليل.
قالت: لا عليك أيها السيد فإن مس «كارين» قد حدثتني عنك وليطب خاطرك.
قلت: أخشى أن يكون وجودي الآن قد شغلك عن أداء واجب عزيز ... فتورد وجهها وهي تميل إلى الباب دون أن تجيب، ورحت أسائل نفسي أليس لهذه الفتاة الوسيمة أليف تبتهج لمرآه أو يخفق قلبها بنجواه؟ أوليس من ينتظر قبلتها أو عناقها أمام عربة القطار في هذا الليل وتحت هذا المطر؟ ... وانطلق الخيال يخلق من الوهم الطارئ قصة حب عاثر أو حبيب غادر، ولاح لي في هذه اللحظة خيال «كارين» هذه الشابة الحسناء التي تبذ العذارى رقة وخفرا، إنها في الثانية والعشرين من عمرها، تؤمن بالسحر المصري القديم، وتكلف بحديث الحريم في الشرق، وتثق بطوالع النجوم، وتصدق قراءة الكف، وتسأل عن المستقبل وتبحث عن الحب والرجل المنتظر، إنها تثق بآرائي وتندفع في حماسة إلى حديث الفن بلهجة إنجليزية حلوة جذابة قلما سمعت مثل موسيقاها من أفواه الإنجليزيات أنفسهن، وكنت أعجب لهذه الشابة الذكية القلب المشرقة الروح التي قضت شطرا من عمرها الباكر في بيئات الإنجليز الخاصة وتحت سماء إنجلترا كيف تسلم عقليتها بهذه الخرافات وتعلق بنفسها هذه المعتقدات المضحكة! وتمثلتها على مكتبها وهي تراجع حساب الفندق وكلما أجهدها الفكر مرت بالقلم على فمها القرمزي الصغير، وهي بشعرها الكستنائي المنفوش وعينيها الرماديتين ووجنتيها البارزتين كشاعرة نبيلة بهرتها رؤى علوية طافرة، أو سحرتها أنغام قدسية عاطرة! وذكرت اليوم الأول الذي التقينا فيه على الباخرة الصغيرة بين «أنترلاكن وتون» وهي متكئة على حاجز السفينة ترقب الرغو الفائر تحت قدميها، وقد امتد خطوطا عريضة طويلة والهواء يرفع جانبي معطفها الحريري الأبيض الهفهاف إلى ما فوق ذراعيها فكأنها ملك السحاب يضرب بجناحيه الناصعين في الزرقة الصافية متقدما رعيلا من الغمام الأبيض! وتحدثنا في براءة روحين متجردين من نوازع الدنيا ومنازعها عن ذلك الجو الشعري الفاتن، وكانت خيالية مفتونة بالصور والألوان والأنغام والأصداء، فوجدت في صاحبها الموافق ورفيقها المجاوب، وتكلمنا عن الثلوج في قمة چوفراو، وجبال الألب الداكنة السوداء، كما تبدو من هذه الغابة الصادحة عند منابع الرون بين حدود سويسرا وفرنسا، وأنشدتني مقطوعة للشاعر الأسباني «جوستانو بيلكور» عن فيلا «كارلوتا» على شاطئ بحيرة كومو، وعقدنا مقارنة بين البحيرات السويسرية والإيطالية ومساقط الماء في جبال إنسبروك ومنابع الرين، وتحدثنا عن الصحراء والبحيرات الأفريقية والنيل المقدس، ثم أسمعتني أبياتا للشاعر الإنجليزي «جون كيتس» يخاطب فيها «النيل» بقوله: يا ابن جبال القمر الأفريقية العريقة في القدم! يا وادي الأهرامات والتماسيح!
وقالت إنها كانت تظن سكان ذلك النهر المقدس من العمالقة وأن لهم مثل أجسام التماسيح ضخامة ومثل فهود الأدغال قوة وضراوة.
وانتهى بنا المطاف إلى هذا الفندق الذي تديره خالتها مسز ڤايل، هذه المرأة المتشككة ذات الوجه الجامد الذي لا ينم عن عاطفة ولا يختلج بإثارة ما، وكانت ترى في علاقتي بابنة أخيها ما لا يروقها، وكانت تقابل بالامتعاض ابتهاج الفتاة بلقائي وبالتحدث إلي، ولا أنسى هذه الليلة منذ أربعين يوما وكنت منكبا على خرائط لبعض ممالك أوروبا أقرأ أسماء البلدان والعواصم وأرسم بالحبر الأزرق خطا طويلا متعرجا أبين به طريق صاعدا من مارسيليا إلى كوبنهاجن وهابطا إلى برلين ففارسوفيا فڤينا إلى نابلي ثم صاعدا ثانيا إلى ميلانو فمنحرفا إلى نيس فمارسيليا.
وكانت كارين إلى جانبي تساعدني في قراءة الخطوط الدقيقة ساعة طرقت هذه المرأة الباب بعنف واقتحمت علينا الغرفة بغتة، وعلى صوتها الأجش الجاف انتفضنا ذعرا وسقطت نقطة كبيرة من الحبر لم تلبث أن غطت ثلاث مدن كبيرة وسودت الفضاء بين براغ وفرسوڤيا وڤينا، ولشد ما تشاءمت من ذلك الحادث وتطيرت له وهما حتى ذلك المساء وأنا أعبر نهر إلبي من ضاحية ڤيزر هرش إلى درسدن فإذا بركان من الحديد ينصبها بعض الجند على جوانب الجسر وقد برزت فوهات المدافع من جوانبها، والناس يتجمعون إزاءها من بعد، وهم في ذهول وذعر ووجوم، وفي الساعة الثالثة غادرت فراشي لأستقل آخر قطار يغادر المدينة على نذير الحرب! وكانت أوروبا كلها ترقص في هذه الليلة على فوهة البركان الثائر.
وظلت هذه المشاهد والحوادث تتوالى على خاطري كأنني أستعرض شريطا سينمائيا وعيناي غائصتان في لجة الليل القائم وأنا في يقظة كالحالم، حتى أفقت على ضوضاء وأصوات تتجاوب بها أرجاء الميدان، وأسرعت إلى ردهة الفندق هابطا درج المدخل فإذا بالخادمة وقد وقفت ترقب المشهد من حانوت بائعة التبغ المجاور وفجأة نظرت إلي وهي تهتف: مس «كارين»! مس «كارين»! فوثب الدم في عروقي وتطلعت أمامي فإذا بها في ذات الثوب الأزرق الذي رأيتها فيه أول مرة، وكان وجهها ينم عن فرح بلقائي رغم الحوادث التي توالت ف هذا اليوم على العالم.
ومدت يدها إلي فاحتوت كفي راحتها الصغيرة وهي تنبئني بسرورها لعودتي، وأسفها على انقطاع رحلتي، وسألتني إن كنت سأبقى غدا في برن فقلت: غدا يا عزيزتي أخبرك فليس لي أن أقول شيئا هذه الليلة فربما جدت حوادث أخر، قالت: لقد أعلن المذياع نبأ إغلاق الموانئ الإيطالية وانقطاع المواصلات بين فرنسا وإيطاليا، ولا أحب أن أزعجك عن راحتك بمثل هذه الأنباء التي تعتبر عادية بالنسبة للمتوقع! قلت: حسنا «يا كارين» وارتفع الضجيج في تلك اللحظة واختلطت الأصوات من صدحات أبواق ودقات طبول وخطوات جند وخيول وعربات وسيارات موسوقة بالمدافع والذخائر ولفائف الأسلاك الشائكة وغيرها من أدوات الميدان.
وجذبتني «كارين» إلى منحنى قريب يشتد فيه الضوء، ونكاد نلمس منه بأيدينا الجنود وهم يمرون بخوذاتهم اللامعة تحت الأضواء ورذاذ المطر، وجباههم متألقة بالعرق وقطرات الماء، وعيونهم اليقظة الصافية تومض بالقوة والفتوة والأمل؛ كانوا يسيرون صفوفا بخطواتهم ذات الإيقاع الموسيقي الرتيب، يغمرهم الجلال وتفيض عنهم الروعة، وينطق موكبهم بأنبل المعاني، وكانت «كارين» الحسناء تلوح بمنديلها الأبيض وتنثر على شبابهم ابتساماتها وهم يومئون بنظراتهم المقدرة المعبرة عن ابتهاجهم بهذه التحية الصادقة، وأثر في هذا المشهد الرائع وهز أعصابي هزا عنيفا، فقد ذكرت وطني وذكرت ما نحن مقبلون عليه في غدنا من جد الحياة وجلادها، وقلت لنفسي هل يتاح لي أن أرى لمصر مثل هذا الشباب المستقتل المتفاني وهو يسير في موكب الحياة مفتول السواعد مشبوح العظام؟ وهل يقدر الله لي أن أشهد فتياتنا وقد وقفن مثل هذه الحسناء، وفي مثل هذا المنحنى، تحت الظلام والمطر والريح القارس لينثرن ابتسامتهن على جباه شبابنا البواسل وهم في طريقهم إلى الميدان.
واختفى خيال الموكب الكبير، وتلاشت أصداؤه على رنين ساعة الميدان وهي تدق مؤذنة بانتصاف الليل.
Неизвестная страница