ويقول بعض النقاد إن بودلير كان ضحية المرأة، ويقول آخرون إنه كان ضحية الأفيون والحشيش، ولكن الذي لا مراء فيه أن هذا الشاعر المسكين كان يحب المرأة ولكنها لم تكن تحبه، وأنه كان ينشد الحظوة عند النساء ولكنه كان سيئ الحظ لديهن، وهذا ما دفع به إلى تحديهن بالشر والكنود حتى أصبح يرى في الشيطان المثل الأعلى للجمال! بل إن هذا ما دفع به إلى هذه المواخير التي تنضح بشهوات الأجساد البشرية وإلى هذه الأوكار المظلمة التي يتهالك فيها المتعبون الذين يسترقون أنفاسهم من عطر هذا النبات الشرقي!
ولقد كان الرجل ألصق بالحياة، وأعظم اجتواء بنارها، وأبصر عينا بدنسها، فلا غزو - وقد آثر الصدق والأمانة - إن عبر لنا عن شعوره بالواقع وإن أفرط في ذلك كنتيجة لتأثره السريع، ولكن بودلير الذي يبدو إباحيا مسرفا في إباحيته، لا يكاد ينصرف إلى نفسه حتى يذكر الموت ونهاية الإنسان المحزنة، فيصف لك دموع الميت حينما تطحن الأرض قلبه وتعبث برفاته أقدام العابرين، وهو لا ينسى الديدان وهي تنهش أديم الجسد البشري، فيحس لها وخزا كوخزات ضمير يؤنب صاحبه، فانظر إلى ما يقول بودلير في قصيدة عنوانها «ندامة بعد الموت»:
عندما ترقد يا طيف جمالي القاتم، تحت تمثال من الرخام الأسود، في كهف مخدعك الرطب، تحت قپول ذلك المأوى، وعندما يعصر الحجر الكبير بثقله المروع جوانب صدرك، هنالك في خفة حالمة بهجة سيكف ذلك القلب عن ضرباته ورغائبه، وستقف هذه الأقدام المتقحمة المغامرة عن عدوها.
وهنا سيهمس هذا القلب أو القبر الذي ساهمني هواجسي وأنا مستغرق في شرودي الأزلي طيلة تلك الليالي: «لمن وقع هذه الخطى؟!» «من أنت أيتها الأقدام الفاجرة؟؟ أنت التي لم تعرفي بعد ما هي دموع الموتى!!»
وكوخزات تأنيب الضمير ستمضي الديدان في التهام جسدك ...
وهل هناك شيء أروع من دموع الموتى؟! وهل هناك من ألوان الألم ما هو أشد وأقسى من وخزات الضمير؟! إن في أمثال هذه الخواطر ما ينفي عن بودلير صفة الإيمان بالشر، فهو لم يكن إلا مدفوعا بعوامل الحياة، وتحت عبء آلامه إلى تصوير هذه الفظائع، وهذا ما يتفق ورجل يتألم للموتى، لا لأن أقداما فاجرة تطأ رفاتهم، كما يقول المعري فيلسوف شعراء العرب:
خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
ولكن لأن ذرات أجسادهم تبكي بدموع قلوبهم ...
وإذن فلا موضع لهذا الاعتبار، فمهما كان تمرد بودلير مستمدا من فلسفة عقلية غير سليمة، ومهما كان شذوذه مستمدا من ذات حياته، فلا يمكننا إلا التسليم بأنه رفع إلى الأدب أسمى صور الخيال والفكر، وأنه رفعها باقتناع لأنها في جوهرها تثبت شجاعته وإخلاصه الرفيع لفنه، فلم ينحط إلى التجارب الفجة، ولم يسف إلى اللا فنية العاملة باسم التجديد.
Неизвестная страница