وكان هذا الشذوذ الذي تفرد به في زمانه يتمثل في إلهة جمال سوداء “Black Venus” ، أحبها وآثرها على سميتها البيضاء، امرأة ذات جسد معتل سقيم ملأت البثور أديمه يتخلع في ثوب مهلهل خلق؛ ولقد تقرب منها بودلير تقرب العابد، وكان يرى فيها فتنة ونعمة ساعة يوسد رأسه المثقل بخيالات الأفيون بين نهديها الطوديين، مواريا وجهه في حلكتهما عن آفاق النور.
ومن هذا الجسد الحالك، ومن أزهار الشر السوداء، استمد بودلير هذه الأفكار القاتمة المضطربة، وصاغ هذه الأشعار المثالية التي وصفها «جوتييه» بأنها تلمع كالرخام الأسود.
وإلى نشأة بودلير ترتد هذه الميول الشاذة؛ فقد كان على شيء من الثراء الملحوظ الذي يتيح للشاعر أن يكرس أوقاته للشعر والفن، ولكن ذلك طوح به إلى عالم من الرغبات المجهولة التي تنطلق أحلامها وترتسم أطيافها في دخان ذلك النبات الشرقي، وعطر المناطق الحارة في جزائر المحيط الهندي، حيث ينمو هذا النبات، ويضوع طيبه، وتسطع المجامر ببخوره الفواح ونكهته المخدرة، وكانت رحلة بودلير إلى تلك الجزائر في مطلع شاعريته وصباه الأول، فعاد منها وهو القائل: «إن روحي تسبح في دخان تلك العطور كما تسبح أرواح الرجال في أنغام الموسيقى».
ويقول بعض الرواة إنه تمنى لو ينقع جسده في عصير هذا النبات وعطره المسكر!
ومن هذه العوالم الغريبة المحوطة بالأسرار جاء بودلير بفنه الغريب الذي طغى على فنون أخرى من الأدب الفرنسي؛ فقد ولد بودلير في باريس عام 1821 وتوفي عام 1867، وفي عام 1840 كان هناك جيل من الشعراء الأفذاذ الذين أثرت مذاهبهم الشعرية في اتجاهات الأدب الأوروبي، وكان هذا الجيل يتمثل في لامرتين، موسيه، ڤيني.
ألفونس دي لا مرتين
ففي ذلك الوقت الذي كانت تلمع فيه أسماء هؤلاء الأعلام، وتخطف بلمعانها الأنظار، كان بودلير صبيا في التاسعة عشرة من عمره يقرض الشعر، وكان ليكونت دي ليل زعيم البارناسيين في العشرين من عمره، ولم يكن مالارمي معلم الرمزية قد ولد بعد، وكان الجيل يصغي إلى هذه الأصوات العذبة الشجية المرتلة كأناشيد السماء في تأملات لامرتين وفي قصائه: الخريف، ونبغ الغابة، والبحيرة، التي ترجمناها شعرا في ديوان الملاح التائه، وكان الجيل مأخوذا بهذه الروح الشادية الحائرة الوالهة التي تفيض من ليالي موسيه ومن قصائده: في التذكار، وفينسيا وغيرها، وكانت قصائد ألفرد دي ڤيني في سيمثا
Symètha ، وباريس، وبيت الراعي التي ترجمناها في غير هذا المكان، قد رفعت إلى عالم الشعر مثاليات من الرمزية الرقيقة والمعاني الدقيقة والأخيلة الفاتنة والموسيقى العالية.
ألفرد دي موسيه
فهذا الجيل الذي تأثر وأعجب وفتن بهذه الصور المشرقة السمحة الوادعة هو الذي عاد فأعجب بالصور البودليرية التي تشب بأوار الجسد، وتفوح بأزهار الشر، وتلمع كالرخام الأسود!
Неизвестная страница