من مقابض فرعون إلى مخالب نبوختنصر إلى أظافر الإسكندر إلى أسياف هيرودس إلى براثن نيرون إلى أنياب الشيطان فإلى يد من نحن ذاهبون الآن وأى ومتى نبلغ قبضة الموت فنرتاح من سكينة العدم؟
بعزم سواعدنا قد رفعوا أعمدة الهياكل والمعابد لمجد آلهتهم، وعلى ظهورنا قد نقلوا الطين والحجارة لبناء الأسوار والبروج لتعزيز حماهم، وبقوى أجسادنا قد أقاموا الأهرام لتخليد أسمائهم، فحتى متى نبني القصور والصروح ولا نسكن غير الأكواخ والكهوف، ونملأ الأهرام والخزائن ولا نأكل غير الثوم والكراث، ونحوك الحرير والصوف ولا نلبس غير المسوح والأطمار؟
بخبثهم واحتيالهم قد فرقوا بين العشيرة والعشيرة وأبعدوا الطائفة عن الطائفة، وبغضوا القبيلة بالقبيلة، فحتى متى نتبدد كالرماد أمام هذه الزوبعة القاسية، ونتصارع كالأشبال الجائعة بقرب هذه الجيفة المنتنة؟» «لحفظ عروشهم وطمأنينة قلوبهم قد سلحوا الدرزي لمقاتلة العربي وحمسوا الشيعي لمصارعة السني ونشطوا الكردي لذبح البدوي وشجعوا الأحمدي لمنازعة المسيحي، فحتى متى يصرع الأخ أخاه على صدر الأم وإلى متى يتوعد الجار جاره بجانب قبر الحبيبة وإلام يتباعد الصليب عن الهلال أمام عين الله؟
أصغي أيتها الحرية واسمعينا، التفتي يا أم ساكني الأرض وانظرينا فنحن لسنا أبناء ضرتك، تكلمي بلسان فرد واحد منا، فمن شرارة واحدة يشتعل القش اليابس، أيقظي بحفيف أجنحتك روح رجل من رجالنا، فمن سحابة واحدة ينبثق البرق وينير بلحظة خلايا الأودية وقمم الجبال، بددي بعزمك هذه الغيوم السوداء وانزلي كالصاعقة واهدمي كالمنجنيق قوائم العروش المرفوعة على العظام والجماجم المصفحة بذهب الجزية والرشوة، المغمورة بالدماء والدموع.» «اسمعينا أيتها الحرية، ارحمينا يا ابنة أثينا، أنقذينا يا أخت رومة، خلصينا يا رفيقة موسى، أسعفينا يا حبيبة محمد، علمينا يا عروسة يسوع، قوي قلوبنا لنحيا أو شددي سواعد أعدائنا علينا فنفنى وننقرض ونرتاح.»
كان خليل يناجي السماء وعيون الفلاحين محدقة به، وعواطفهم تنسكب مع نغمة صوته، ونفوسهم تتطاير مع أنفاسه، وصدورهم تخفق بنبضات قلبه، فكأنه أصبح منهم في تلك الساعة بمنزلة الروح من الجسد، ولما انتهى من مناجاته التفت نحوهم وقال بهدوء: «قد جمعنا هذا الليل في منزل الشيخ عباس لكي نرى نور النهار، وأوقفتنا المظالم أمام هذا الفضاء البارد لكي نتفاهم وننضم كالفراخ تحت جناحي الروح الخالدة، فليذهب الآن كل منا إلى فراشه لينام مترقبا لقاء أخيه في الصباح.»
قال هذا ومشى متبعا خطوات راحيل ومريم إلى كوخهما، فتفرق إذ ذاك الجمع وذهب كل إلى بيته مفكرا بما سمعه ورآه شاعرا بملامس حياة جديدة في داخل نفسه.
ولم تمر ساعة حتى انطفأت السرج في الأكواخ وألقت السكينة وشاحها على تلك القرية وحملت الأحلام أرواح الفلاحين تاركة روح الشيخ عباس ساهرة مع أشباح الليل مرتعدة أمام ذنوبه متعذبة بين أنياب هواجسه.
8
مر شهران وخليل يسكب سرائر روحه في قلوب أولئك القرويين محدثا إياهم في كل يوم عن غوامض حقوقهم وواجباتهم، مصورا لبصائرهم حياة الرهبان الطامعين مرددا على مسامعهم أخبار الحكام القساة، جاعلا بين عواطفه وعواطفهم صلة قوية شبيهة بالنواميس الأزلية التي تقيد الأجرام ببعضها بعضا، فكانوا يصغون إليه بفرح يضارع بهجة الحقول الظمآنة بانهطال الأمطار، ويرددون كلامه في خلوتهم ملبسين نسمات مقاصده أجسادا من محبتهم غير حافلين بالخوري إلياس الذي أصبح يتزلف إليهم منذ ظهور جريمة حليفه الشيخ، ويقترب منهم لينا كالشمع بعد أن كان صلبا كالرخام.
أما الشيخ عباس فقد أصيب بعلة في نفسه شبيهة بالجنون، فكان يسير ذهابا وإيابا في رواق منزله كالنمر المسجون، وينادي خدامه بأعلى صوته فلا يجيبه غير الجدران، ويصرخ مستنجدا برجاله، فلا يأتي لمعونته غير زوجته المسكينة التي عانت من خشونة طباعه ما قاساه الفلاحون من مظالمه واستبداده، ولما جاءت أيام الصوم وأعلنت السماء قدوم الربيع انقضت أيام الشيخ بانقضاء زوابع الشتاء فمات بعد نزاع موجع مخيف، وذهبت روحه محمولة على بساط أعماله لتقف عارية أمام ذلك العرش الذي نشعر بوجوده ولا نراه، وقد اختلفت آراء الفلاحين في سبب موته، فكان بعضهم يقول قد اختل شعوره فقضى مجنونا وبعضهم يقول قد سمم اليأس حياته عندما زالت سطوته فمات منتحرا. أما النساء اللواتي ذهبن لتعزية زوجته فأخبرن رجالهن بأنه مات خائفا مرتاعا؛ لأن شبح سمعان الرامي كان يظهر له مرتديا أثوابا ملطخة بالدماء ويقوده كرها عندما ينتصف الليل إلى المكان الذي وجد فيه مصروعا منذ خمسة أعوام. •••
Неизвестная страница