سمع الرجال هذا الكلام فجمدت عيونهم واقشعرت أبدانهم وبهتوا بالشاب هنيهة كأن عذوبة صوته قد انتزعت الحركة من أجسادهم وأيقظت الميول العلوية الهاجعة في أعماق قلوبهم، ولكنهم عادو فانتبهوا كأن صدى صوت الشيخ عباس قد تململ في مسامعهم وذكرهم بالمهمة التي بعثهم من أجلها، فتقدموا وأوثقوا ساعدي الشاب، وخرجوا به ساكتين شاعرين بشيء من الألم بين تلافيف ضمائرهم. فاتبعتهم راحيل ومريم ونظير بنات أورشليم عندما اتبعن يسوع إلى الجلجلة سارتا خلف خليل نحو منزل الشيخ عباس.
7
إن الأخبار - كبيرة كانت أم تافهة - تنتقل بسرعة الفكر بين الفلاحين في القرى الصغيرة، لأن بعدهم عن مشاغل الاجتماع المتتابعة يجعلهم أن ينصرفوا بكليتهم إلى استقصاء ما يحدث في محيطهم المحدود، وفي أيام الشتاء عندما تكون الحقول والبساتين راقدة تحت لحف الثلوج وتنزوي الحياة خائفة مستدفئة حول المواقد يصير القرويون أشد رغبة وأكثر ميلا إلى استطلاع الأخبار لكي يملأوا بتأثيراتها أيامهم الفارغة ويصرفوا باستفسارها لياليهم الباردة.
وهكذا لم يقبض خدام الشيخ عباس على خليل في تلك الليلة حتى انتشر الخبر كالعدوى بين سكان تلك القرية، وأثارت محبة الاستفهام نفوسهم، فتركوا أكواخهم وتراكضوا مسرعين من كل ناحية كالجنود المتفرقين، فلم يبلغ الشاب المكتوف منزل الشيخ حتى اجتمع في تلك الدار الوسيعة الرجال والنساء والصبيان وكلهم يمدون أعناقهم بتشوق ليحظوا بنظرة من الكافر المطرود من الدير ومن راحيل الأرملة وابنتها مريم اللتين شاركتا الأرواح الشريرة على بث السموم والعلل الجهنمية في فضاء قريتهم.
جلس الشيخ عباس على مقعد عال وتربع بجانبه الخوري إلياس ووقف الفلاحون والخدام مترقبين محدقين بالفتى المكتوف الواقف بينهم برأس مرفوع وقوف الطود بين المنخفضات. أما راحيل ومريم فكانتا واقفتين خلفه والخوف يراود قلبيهما ونظرات القوم القاسية تعذب نفسيهما، ولكن ماذا يفعل الخوف في عواطف امرأة رأت الحق فاتبعته وماذا تفعل النظرات القاسية في فؤاد صبية سمعت نداء الحب فاستيقظت؟
ونظر الشيخ عباس إذ ذاك نحو الشاب وبصوت يشابه ضجيج الأمواج سأله قائلا: «ما اسمك أيها الرجل؟»
فأجابه: اسمي خليل. فقال الشيخ: «من هم أهلك وذووك وأين مسقط رأسك؟»
فالتفت خليل نحو الفلاحين الناظرين إليه بكره واشمئزاز وقال: «الفقراء والمساكين المظلومون هم أهلي وعشيرتي، وهذه البلاد الوسيعة هي مسقط رأسي.»
فابتسم الشيخ عباس مستهزئا ثم قال: «إن الذين تنتسب إليهم يطلبون معاقبتك والبلاد التي تدعيها وطنا تأبى أن تكون من سكانها.»
فقال خليل وقد اضطربت أحشاؤه: «إن الشعوب الجاهلة تقبض على أشرف أبنائها وتسلمهم إلى قساوة العتاة والظالمين، والبلاد المغمورة بالذل والهوان تضطهد محبيها ومخلصيها، ولكن أيترك الابن الصالح والدته إذا كانت مريضة، وينكر الأخ الرؤوف أخاه إذا كان تعسا! إن هؤلاء المساكين الذين أسلموني إليك مكتوفا اليوم هم الذين أسلموك رقابهم بالأمس، والذين أوقفوني مهانا أمامك هم الذين يزرعون حبات قلوبهم في حقولك ويهرقون دماء أجسادهم على أقدامك، وهذه الأرض التي تأبى أن أكون من سكانها هي الأرض التي لا تفغر فاها وتبتلع الطغاة والطامعين .»
Неизвестная страница