مقالات موقع الدرر السنية
مقالات موقع الدرر السنية
Издатель
موقع الدرر السنية dorar.net
Жанры
إن عملية الاستدلال لا تكون بمجرد تكثير سواد الأدلة بل لا بد أن تكون منهجية الاستدلال بهذه الأدلة صحيحة أولًا ولا بد من دفع الاعتراضات عنها ثانيًا، وليس من المعقول أن يأتي المستدل ليناقش فكرة هيمنة الشريعة وإلزاميتها فيقتصر على سوق طائفة من أدلة (عدم الإكراه) من جنس (لا إكراه في الدين) (لست عليهم بمصيطر) ويعرض تمامًا عن الطائفة الأخرى من صور الإكراه بحق (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) والسيرة العملية للنبي ﷺ وصحابته في فتوحاتهم، ومحال الإجماع من كلام الفقهاء في تقرير العقوبات على فعل المعاصي وترك الواجبات حتى على مستوى التعبدات الشخصية كإجماعهم على عقوبة تارك الصلاة مثلًا، فإن تغييب الدلائل المضادة للفكرة والإعراض عن مناقشتها ستشكل ولا بد ثغرة كبيرة في تقرير هذه الفكرة خصوصًا إذا كانت هذه الأدلة مبسوطة على لسان الطرف الآخر. أما الاستكثار (بالأدلة المضروبة) من جنس (تولد النفاق من ظاهرة الإلزام) فهي في الحقيقة تزيد القول وهنًا بدل تقويته، وقد أحسن الشيخ فهد العجلان في تفكيك هذه الإشكالية وبيان أوجه الاعتراض عليها عبر مقاله الماتع (هل الإلزام بأحكام الإسلام يؤدي إلى النفاق؟) ومع ذلك فلم نجد ممن استدل بهذا الدليل اعتراضًا على ما طرحه الشيخ أو اعترافًا بخطأ هذا الجنس من الاستدلال، وإنما ساد منطق الإعراض، وكأن منطق الصمت كفيل بإبطال اعتراضات الخصم أو هو ضمانة لنسيانها في خضم السجال، وهذا الاستدلال المليء بالثغرات يعبر عن حالة التكثر والتعجل والتشوه في منهجية الاستدلال الذي يمارسها هذا الفصيل في معالجته لقضية كلية خطيرة تتعلق بسيادة الشريعة.
الأكثر إيلامًا حين تمتد حالة التشوه من مجال الاستدلال لتصل إلى نقطة البحث ذاتها فيتشوه البحث كله بسبب محاولات إعادة تعريف محل الإشكال وتطويره بحسب ظروف السجال، ولتتشوه في الطريق أقوال المعترضين حين يصورون -بحسن نية أو سوء نية- وكأنهم جماعة من المغفلين الذين لا يكادون يفقهون حديثًا، بل ويسجلون اعتراضاتهم على البدهيات والقضايا الواضحة.
نعم، تزداد المشكلة حين تتكاثر حالات الاتهام (بسوء الفهم) للطرف المستقبل للخطاب مع ما معه من علمٍ وذكاءٍ وزكاءٍ ثم لا تجد اعترافًا حقيقيًا من مصدر الخطاب بأن المشكلة قد تكون من عنده في شكل الخطاب وهيئته على الأقل، أو الاعتراف بأن ثمة نقطة اختلاف عميقة تستحق المعالجة.
دعونا نعيد ترتيب المسألة باختصار، ولنحاول قدر الإمكان تحرير محل الخلاف الحقيقي بعد أن زاده طول السجال غموضًا بدل أن يكون سببًا في تنقيحه وتحريره، ثم نعلق بعدها على جملة من الإشكالات.
ليست المشكلة أبدًا في اعتقاد حل الحلال شرعًا أو حرمة المحرم.
وليست المشكلة في أن الالتزام الفردي بهذه الأحكام الشرعية واجب شرعي، وأن تارك الالتزام محل للمؤاخذة الأخروية.
وليست المشكلة أيضًا في وجوب الدعوة لتحكيم الشريعة، وأن ثمة خيارات متعددة في فرض الهيمنة الشرعية في الواقع، وأن الأمر قد يستدعي أناةً وطول نفسٍ وتدرجٍ لفرض هذه الهيمنة في الواقع.
ليس شيءٌ من ذلك مثيرًا للإشكال، ولا هو محل للخلاف، غير أن المخالف لسببٍ غير مفهومٍ يعيد ويكرر نفي هذه المعاني عن كلامه، موهمًا أن جلّ مخالفيه فهموه خطأً.
موضع الإشكال والخلاف من البداية، في مسألة: هل يصلح أن يخير المسلمون بين أن يحكموا بدينهم، وبين أن يُحكموا بغيره؟
1 / 102