الشاعرة سيلفيا بلاث التي انتحرت في الثلاثين من عمرها بأن فتحت الغاز ثم حشرت رأسها في الفرن ووضعت مناشف مبللة تحت الأبواب لتكون حاجزا بين المطبخ وبين غرف أطفالها، تقول في قصيدة أخيرة لها: «لا أستطيع الحديث معك، فقد علق لساني بفكي.» أما صديقتها الشاعرة آن ساكستون التي انتحرت في السادسة والأربعين من عمرها، فتقول في قصيدة لها: «حتى وإن لم يكن لدي شيء ضد الحياة، فأنا أعرف جيدا شفير الأعشاب التي تذكرون، ذاك الأثاث الذي وضعتم تحت حرقة الشمس. الانتحارات لها لغتها الخاصة. تماما مثل النجار، يريد أن يعرف كيف يستخدم الأدوات، لكنه لم يسأل مطلقا لماذا يبني!»
هذا ليس دفاعا عن المنتحرين، وليس بحثا عن مبررات لهم، لكن بقراءة نصوصهم الأخيرة، وبالاطلاع على تفاصيل حياتهم يمكن أن ندرك كم يعانون، بعيدا عن الصور المبهرة لهم كفنانين، ومع عيشهم بمشاعر حادة كحد السكين، يصبح أقل شيء مبررا للاكتئاب والموت، مبررا للسقوط من أعلى الهوة المسماة بالحياة، حتى الشعور بأنهم لن يستطيعوا تقديم المزيد وأنهم أدوا مهمتهم في الحياة، تماما مثل روبن الذي أصيب بالشلل الرعاش قبل وفاته، فلم يكن يستطيع أن يفعل شيئا، سوى أن يوثق حياته بالانتحار، كأنه عمله الفني الأخير.
هنا لا أقول: لماذا يا روبن؟ بل: أنت ما زلت معنا يا روبن. تماما مثل الآخرين الذين أودعوا حياتهم في أعمالهم الفنية، ثم غادرونا. فنك هو حياتك يا روبن، فنك هو حياتنا. وداعا يا روبن!
كأننا روحان حللنا بدنا
«سأختار قارئتي امرأة فاتنة، تجيء ماشية ببطء إلى قصائدي، في لحظات النهار الأشد وحدة، قبل أن تغادر البيت، وستكون قد استحمت، وسيكون شعرها مبللا عند العنق، وستأتي مرتدية معطفها الواقي من المطر، وسيكون المعطف قديما ومتسخا، لأنها لا تملك ما يكفي من المال، لكي تضعه في المصبغة، هناك في المكتبة، ستنزع نظارتها الطبية، حتى تجد أحد كتبي، ثم ستعيده إلى مكانه على الرف، قائلة لنفسها: بهذا المبلغ من المال، أستطيع غسل معطفي، وهذا ما ستقوم به.»
هذه قصيدة للشاعر الأمريكي تيد كوزر، ذكرتها في المقدمة ، لأنني أعتقد أنها تلخص فكرة قصيدة الذات في ظني. والتي تقوم على عقد بين شاعر وقارئ يشبهه، مثل تلك القارئة التي تحدث عنها كوزر.
لا يكتب إذن الشاعر نفسه، بل يكتب قارئه، ولا يكتب شاعر «قصيدة الذات» القصيدة لنفسه، بل يكتبها للآخرين، الذين يشبهونه، الذين ملوا مثله من الشعر المغلق، وبحثوا عن قصائد تصف مشاعرهم، وربما يكون هذا المدخل مهما للحديث عن أن قصيدة الذات لا تتحدث عن ذات الشاعر فحسب، بل عن ذاته التي تتقاطع مع ذوات الآخرين.
لم أدرك هذا المعنى، ولم أصل إليه مبكرا، ولا أعتقد أنه نهاية العالم، فكل شيء قابل للتطور والتغيير، لكن ما أذكره أنني في خريف 1990، كتبت قصيدتي الأولى. كانت أقرب ما تكون إلى مرثية لوالدتي التي توفيت في حادثة، وكنت في القصيدة التي أذكرها إلى الآن أتحدث عن ذات ومشاعر الطفل داخلي في ذلك الوقت.
كانت قصيدة سيئة لا ريب بمقاييس الشعر العادية وغير العادية، مجرد كلام مرصوص له ما يمكن تسميته تجاوزا قافية، لكن كان من كتبها طفل في الصف الرابع الابتدائي، وجد طريقة ليقول لأمه من خلالها إنه يفتقدها بعد 5 سنوات من رحيلها، لكن القصيدة كانت بالنسبة إلى ذلك الطفل طريقة استطاع من خلالها فيما بعد أن يقول الكثير مما لا يستطيع الحديث عنه.
كانت التجارب الشعرية التي أقرؤها في ذلك الوقت، يمكن تلخيصها في القصائد الموجودة في الكتب التراثية والتاريخية التي تضمها مكتبة خالي، ومعظمها ينتمي لشعراء العصور العباسية والأموية وصدر الإسلام والجاهلية، أما أحدث القصائد، فكانت تتوقف عند محمود سامي البارودي وأحمد شوقي؛ وهو ما يعني أن كل القصائد جعلت من القافية والوزن شرطا أساسيا لشاعريتها، ومن المديح والهجاء والغزل والوصف والفخر موضوعا لها.
Неизвестная страница