هذه الصورة خلعها بعض الشعراء مثل «الحلاج» عربيا، والشاعر الفرنسي «شارل بودلير» الذي يتحدث في قصيدة له في ديوان «سأم باريس» عن الشاعر الذي يخلع هالته؛ لأن الأمر بحسب ما يقول «آرثر رامبو»: «يصبح الشاعر رائيا بفعل تشويش طويل، واسع ومدروس لجميع الحواس. ينبغي أن يعرف جميع أشكال الحب والمعاناة والجنون؛ أن يبحث بنفسه عن جميع السموم، ويستنفدها في ذاته، ولا يحتفظ إلا بعصارتها. هي معاناة لا توصف، يلزمه فيها الإيمان كله والقوة فوق الإنسانية كلها، فهو يصبح بين الجميع أعظم مريض، وأكبر مجرم، وألعن ملعون؛ يصبح هو العارف الأعظم.»
وبغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع ما قاله رامبو، ففي ظني أن الشكل التقليدي للشاعر تغير تماما - أو فلنقل: إنه تطور - ومع ثورة ال «سوشيال ميديا» أصبح بإمكان الجميع أن يعودوا شعراء كما كانوا من قبل - بغض النظر عن قيمة ما يكتبون - وأصبح من السهولة بمكان أن يجدوا من يثنون عليهم، من الأهل والأصدقاء والمعارف. وهذا يصعب مهمة الشاعر الحقيقي وسط هذا العالم المفتوح؛ ولذا تجد عشرات الأشخاص على «فيس بوك» ممن يضعون قبل أسمائهم لقب «الكاتب» أو «الشاعر» أو «المبدع»، مع أن الكاتب الحقيقي لا يحتاج أن يوصف نفسه، بل يجب على المتلقي أن يصنف ما يكتبه.
كما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في خلق عشرات الكيانات الوهمية المنغلقة على ذاتها من الكتاب الافتراضيين، مع آلاف المعجبين الافتراضيين أيضا، الذين لا يكلفهم الأمر أكثر من ضغطة «لايك». ساهمت أيضا صفحات «فيس بوك» في كسر المسافة ما بين الكتاب الحقيقيين - والمقصود بهم هنا من يقدمون جودة متفقا عليها فيما يكتبون، ولا يسبقون أسماءهم بأية صفة - وقرائهم؛ فأصبح بإمكان القارئ الدخول إلى أي نص لشاعر مشهور، والتعليق أسفله بأنه رديء أو جيد. كما أصبح من السهل جدا التواصل بينهما، وأصبح بإمكان الشاعر أن يكون طيلة الوقت وسط قرائه.
سهل هذا عودة الكاتب إلى الأرض؛ أقصد أنه ساهم في هبوطه من برجه العاجي إلى الشارع، وإلى القراء، وإلى تعليقاتهم، والتي وإن حظيت في معظمها بصيغة المجاملة، فإنها أيضا كسرت الهالة المقدسة التي قد يرسمها بعض الكتاب حول وجوههم.
الأفضل للشاعر دائما أن يكون في الشارع، أن يعود لممارسة دوره الحقيقي كإنسان، دون أن يصنع حاجزا يفصله عن محيطه وعن المتلقين - كما حدث للشعر في بعض الفترات السابقة فابتعد الشعر عن الناس، وابتعد الناس عن الشعر.
وربما أقرب مثال لهذا الشاعرة الأمريكية «دوريان لوكس» التي عملت في مهن عديدة؛ بين طاهية، ومديرة محطة بنزين، وخادمة ... وغيرها من الوظائف. هذه الحياة مكنت «دوريان» التي حازت جائزة «أوريجون» للكتاب من استبصار الطبقات السفلى والحياة المعتمة للفقراء؛ لذا نجد في شعرها هذه التفاصيل، كما نرى تفاصيل حياتها المختلفة من هم وحزن، وانكسارات ونجاحات، وهو الشعر الذي يصل إلى شرائح واسعة من القراء؛ مما يجعله في رأيها شعبويا رغم نخبويته الفلسفية. وتبرر «دوريان» ذلك في حوار معها بأنها: «عاشت حيوات متعددة، عرفت في طفولتها قسوة الحياة العائلية وحنانها، عرفت التشرد، اختبرت الحب واللذة، اختبرت الزواج والأمومة والطلاق، تنقلت بين وظائف كثيرة جعلتها تحتك بالطبقات السفلى والوسطى من المجتمع؛ أي إنها نمت لديها إحساسا عميقا بذاتها، كما بالآخرين، لا بمعنى التضامن العام إزاء قسوة شروط الحياة، بل بمعنى الفهم العميق للفرديات المتمزقة والقلقة، للآلام الداخلية الخاصة، لأشكال العزلة، للمطالب البسيطة التي تبدو إزاء تعقيدات الحياة اليومية مستحيلة»، وهو ما يشكل ذاتها الشعرية.
يقول الفيلسوف الدنماركي «سورين كيركجور» إن الشاعر «هو رجل تعيس، يكتم غما عميقا في قلبه، إلا أن شفتيه مطرزتان للغاية؛ مما يحول عويله وبكاءه إلى موسيقى فاتنة. فقدره كقدر الضحايا البائسين الذين سجنهم الطاغية «فالاريس» حينما كانوا يتعذبون على نار رصينة؛ لا تصل صرخاتهم إلى أذنيه كوقع مرعب في قلبه، بل تصل لهما كلحن نقي.»
لا أقصد بهذا أن على الشاعر أن يعذب نفسه أو يصبح تاجر سلاح مثل «رامبو»، لكن ما أقوله هو أن الناس هم مصدر الشعر الحقيقي، والدخول في صراعات الحياة من شأنه أن يصنع شاعرا مختلفا. على الشاعر أن يعرف أنه مسئول عن هذه الحياة، عن توثيقها شعرا، ليس عليه أن ينفصل عنها، بل يجب عليه أن يذوب فيها؛ حتى يصبح مثل حبة رمل وسط صحراء، تعرف كيف ترى ما حولها، وترصد، وتكتب، دون أن يسبق اسمها لقب «الشاعرة: حبة الرمل».
لماذا يا روبن؟
1
Неизвестная страница