اقتل الرقيب
في مقال آخر في هذا الكتاب نتحدث عن القارئ الذي يكون رقيبا على الكاتب ويدفعه في اتجاه معين، لكن في بعض الأحيان لا يحتاج الكاتب إلى رقيب خارجي، من أي نوع، بل يكون رقيبه داخليا ينمو داخله كل يوم حتى يتعملق؛ حتى يحتويه تماما، يمنعه من اصطياد الفكرة، بل يمنعه حتى من النظر في اتجاهها.
ينمو الرقيب الداخلي مع التقدم في العمر، ومع الانصياع للمحددات التي يفرضها المجتمع؛ لذا نجد أن النصوص الأدبية المكتوبة في سن مبكرة لدى جل الكتاب هي الأكثر تمردا وجموحا وتجديفا؛ مما يجعلها نصوصا براقة لامعة ومحفزة دائما، وهو ما يتراجع في السنوات التالية لدى الكاتب، حتى يختفي ذلك البريق تماما، وربما تخفت الموهبة أيضا، وربما يتوقف عن الكتابة. وهناك حالات كثيرة نعرفها لشعراء وروائيين توقفوا عن الكتابة بعد أن بدءوا بأعمال مبشرة؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يتمردوا على رقيبهم، ولم يستطيعوا أن يخونوا كتابتهم أيضا، ورغم أن عددا منهم عاد للكتابة بعد سنوات تحت إلحاح الموهبة المكتومة والصهد الذي يدفع غطاء الفوهة إلى أعلى، فإنها كانت أعمالا بغلاف الموهبة فقط، بعد أن أكلت السنوات والرقيب جوهرها، وانطفأت نيران البركان.
يمكن القول إن الرقيب الداخلي هو انعكاس للرقيب الخارجي؛ فالرقيب الذي يولد داخل الكاتب هو ابن من زواج غير شرعي مع الرقيب الخارجي بأشكاله المختلفة، لدرجة أننا يمكن أن ننسب الرقيب الداخلي إلى الرقيب الخارجي، بل إنه أحيانا يفوقه تشددا ومغالاة ومزايدة، وأنواعه متعددة؛ فهناك الرقيب الداخلي السياسي، والخوف من السجن والاعتقال والقمع؛ لذا يلجأ الكاتب إلى ما يسمى بالإسقاط، أو يهرب من الرقيب إلى مجالات أخرى في الإبداع. وهناك الرقيب الداخلي المجتمعي حين يتحول المجتمع بعاداته وتقاليده وقيمه، الجيد منها والمتخلف، إلى جزء من أفكار الكاتب الذي يسعى إلى تغييره، فيصبح عبئا إضافيا على تقدم المجتمع بفضل رقيبه الداخلي، ويصبح الأمر شبيها بلعبة شد الحبل، كل طرف يسعى إلى شد الآخر في اتجاهه والسيطرة عليه. وهناك الرقيب الداخلي العائلي، حين يتحول أفراد العائلة إلى رقباء على كل كلمة، ويحاكم كل نص ليس باعتباره إبداعا يخضع لقواعد فنية محكمة، ولكن باعتباره سيرة ذاتية لكاتبه، ويتحول إلى مفتاح للتلصص على حياته؛ وهو ما يجعل الكاتب يفكر في كل ما يكتب فيما بعد؛ خوفا من أن يتم تفسير ما يكتبه بشكل شخصي، وهو ما يجعله يكبح جماح الإبداع. وهناك أيضا الرقيب الداخلي الديني، وهو ما نلاحظ تصاعده دائما وأبدا حين يقرر بعض من يدعون أنهم متحدثون باسم الأديان أن يفسروا النصوص على مزاجهم، فيصبح كل ما يشغل الكاتب حين يشرع في إمساك قلمه الخوف من سوء التأويل.
والخطر - كما قلت - ليس من وجود هذه الأنواع المختلفة في بيئة الكاتب، وإنما أن يتحول عقله الباطن إلى بيئة حاضنة لها؛ إذ سيفكر كلما هم بالكتابة في القارئ الذي لن يعجبه ما سيكتب، وفي الرقيب الديني والمجتمعي والعائلي والسياسي ... إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الرقباء، مع أنه من الأفضل للكاتب أن يكتب بمعزل عن كل هذا، أن يكتب ثم يعرض ما كتبه لمقص الرقيب، لا أن يترك مقص الرقيب يعمل قبل حتى أن يكتب.
في الغالب لا يستطيع الكاتب أن يفلت من رقيبه الداخلي تماما، لكنه يستطيع أن يتمرد عليه أو يخدعه أو يغافله باللجوء إلى بوابة المخيلة التي لا يجرؤ الرقيب على الدخول منها. يقول الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط: «في داخلي رقيب ذاتي، لكن أصبح عندي حرفة، وأستطيع أن أتحايل عليه؛ الجمال يقتل الرقيب.» وهذا الجمال يمكن أن نسميه هنا الفن، وحرفية الكاتب، التي يستطيع من خلالها أن يقول: «إني أرى الملك عاريا.» دون أن يقول ذلك، فباعتراف الماغوط أضحكت مسرحياته السياسية السلطة، رغم أنها تنتقدها، إلا أنه استعان ب «الجمال»، و«الحرفة».
وسؤال الرقيب هو سؤال كل كاتب حقيقي، لكنهم قلة من يستطيعون الإجابة عنه ، كتب الروائي الراحل عبد الرحمن منيف في مذكراته في أوائل الثمانينيات يقول: «يجب أن «أتمتع»، وأن أستفيد من جو الحرية المؤقت الذي أعيش فيه الآن، ويجب أن أمتلك جرأة حقيقية في الكتابة. هل أستطيع أن أحذف من داخلي الرقيب الذي يطاردني في كل لحظة؟ وهل يمكن لإنسان تعود على القهر والملاحقة أن يحلم بلحظات حرية ... حتى لو كانت وهمية أو قصيرة؟ السؤال التحدي. ومثل هذا السؤال لا يمكن الإجابة عنه إلا بطريقة عملية، وربما تكون الإجابة الأولى في «مدن الملح»؛ إنها الامتحان.» كما كان الرقيب هاجس منيف كانت الحرية هاجسه وتحديه الأكبر؛ لأن الرقيب هو قاتل الحرية، ولا كتابة بلا حرية، بلا قفز على التابوهات المجتمعية.
ربما تلخص هذا المعنى مقولة دوستوفيسكي: «ليس أثقل على الإنسان من حمل الحرية»، وهو ما يمكن أن نخلص منه أيضا إلى أن سؤال الرقيب إذن هو سؤال الحرية، وسؤال الكاتب وامتحانه في كل نص هو سؤال الحرية؛ هو السؤال الأزلي الذي لا ينفك يطرح مع كل نص جديد، مع كل حضور لإبداع، هو سؤال الرغبة في المضي قدما إلى الأمام أو النكوص؛ الكتابة تمنح القارئ والكاتب الحرية، الكتابة تذكر بالحرية، الكتابة تدفع المجتمع إلى الحرية، الكتابة هي الحرية.
معركة الرقيب الداخلي والمبدع تتطلب رصاصة واحدة في مسدس موضوع على الطاولة، أحدكما سيخطف الرصاصة ويطلق الرصاصة أولا، ربما تموت أنت وربما يموت الرقيب، لكن في كل الأحوال، ستعيش أو تموت حرا.
نصوص تمشي على الأرض
Неизвестная страница