فحالما سار الركب قبل المعلم اسطفانوس ابنته وقال لها: «الحمد لله على سلامتك يا بنيتي.» وسلم مرقس عليها، ثم حملوها على فرس من أفراسهم، وساروا بها إلى القرية فرحين، وقد عجبوا لأمر ذلك الفارس وتنكره مع ما صنعه معهم من الجميل، فسألوها عن حكايتها فحكتها لهم كما وقعت، فازداد إعجابهم بشهامته.
أما أركاديوس فسار على جواده، والليل لا يزال حالكا، حتى دنا من بلبيس، والسور محيط بها، والأبواب مقفلة، والحامية على الأسوار حذرا من قدوم العرب، فخاف إن هو دنا من السور أن يصيبه شر؛ لأنهم لا يعرفونه، وتحير هل ينتظر النهار فيدخل المدينة بحيلة، أو يسير في أثر الجند الذين قيل له إنهم حملوا أرمانوسة، وفيما هو يسير قرب المعسكر عثر جواده حتى كاد يكبو، فنظر إلى ما عثر به فإذا هي حبال وأوتاد، فترجل وتأمل ذلك المكان، فعلم أنه أثر مضارب خيام، وقد بقيت آثارها هناك، فتأمل وضع الخيام على قدر ما سمحت له شدة الظلام، فعلم أنها خيام رومانية، وشاهد مع ذلك آثار آنية وثيابا رومانية فتحقق أنها الخيام التي أقلع أهلها في صباح الأمس، وما زال يفتش في تلك الآثار متحيرا حتى دنا الفجر، وأخذت تلك الآثار تنجلي له، فشاهد خيمة لا تزال مضروبة في آخر ذلك المعسكر، فسار وقاد جواده وراءه لعله يجد فيها خيرا، فسمع صوتا يناديه من داخل الخيمة: «من القادم؟» فعرف أن الذي يخاطبه من جند الروم فقال: «بل من أنت؟ أعدو أم صديق؟» فقال: «أنا من جند الروم.»
قال أركاديوس: «لا بأس عليك، لأنك من جندنا.» وتظاهر بأنه من قواد الروم جاء بمهمة، فخرج إليه الرجل من الخيمة فإذا هو جندي كما ظن، ونظر الجندي إلى أركاديوس ولباسه فظنه من كبار القواد، ولم يكن أركاديوس لابسا خوذته، وقد فعل ذلك إخفاء لحقيقة حاله؛ لأنه لو لبسها لعرفه كل من رآه.
فقال أركاديوس: «ما بالكم تقيمون في هذه الصحراء؟ ولماذا لم تقيموا داخل الأسوار؟»
قال: «قد أقمت أنا وجماعتي الليلة هنا بأمر مولانا الحاكم بعد فرار يوقنا أمس من هنا.»
فقال: «وكيف فر وقد جاء لحمل أرمانوسة؟»
قال: «اكتشفوا أنه جاء بدسيسة، ولم يكن مرسلا من مولانا قسطنطين كما ادعى، وبعد أن خرجت السيدة أرمانوسة إلى هذا المكان، ومكثت في هذه الخيمة مدة، وقد أعدوا الأحمال، وهموا بالمسير، جاءهم رسول بكتاب من كبير العرب القادمين إلى هذه الديار، فخاف يوقنا وتركها وفر برجاله.»
فأحس أركاديوس عند ذلك كأن ثقلا كبيرا تحول عن صدره وقال للرجل: «إذن لم يأخذ أرمانوسة معه؟» قال: «لا.» قال: «وإلى أين ذهبت هي؟» قال: «عادت إلى قصر الحاكم في بلبيس.»
فتحقق أركاديوس عند ذلك أن أرمانوسة لا تزال في خير، ولم يأخذها أحد، فاطمأن قلبه، ولكنه أراد أن يقابلها ويكلمها ويشفي أوار شوقه إليها، ولم يكن قد جلس إليها بعد، ونظر إلى هندامه، وتحير كيف يدخل المدينة صباحا، مخافة انكشاف أمره، فتذكر أن جواده معروف عند معظم جند الروم، ولا بد لمن يراه نهارا من أن يعرفه، فإذا أخفى نفسه لا يستطيع أن يخفي جواده. ثم نظر إلى ثيابه وقد انفلق الصبح فرأى السيف ملطخا بالدماء، وعلى درعه نقط منها لطختها ساعة قتل اللص، وبقي برهة يفكر، فتذكر الفتاة التي أنقذها من القتل، وقال في نفسه: «لعلي أستطيع أن أبعث معها كتابي إلى أرمانوسة؛ لأنها فتاة مثلها، ولا شك أنها تخلص لي الخدمة، لأني أنقذتها من الموت، ولكن من أين لي الوصول إليها الآن.»
وبينما هو يفكر في ذلك، وقد تحول عن الخيمة لئلا يرتاب فيه أحد؛ إذ حانت منه التفاتة فرأى رجلا ينظر إليه من بعد ويتأمله، ولا يجسر أن يدنو منه، فبقي أركاديوس ماشيا، وقد أخذ بزمام جواده، وقاده وراءه، فرأى الرجل يدنو منه، فخاف أن يكون قد جاء مخادعا فناداه: «من أنت؟»
Неизвестная страница