قال مرقس: «أرى يا أخي أن بين حكايتي وحكايتك مشابهة، وما يهم أحدنا يهم الآخر.» وحكى له ما جاء من أجله، ثم قال: «ولكنني في شغل شاغل الآن بسيدتي أرمانوسة، ولا أدري كيف أنقذها، فقد علمنا الآن أنه إنما جاء نصيرا للعرب على فتح مصر، فما العلاقة بين الأمرين؟ إني لأراه يريد شرا بسيدتي، وقد أصبحت في قلق عليها، فما رأيك؟»
ففكر زياد قليلا ثم قال: «لا تبال بهذا الخائن، فإني على يقين من حسن ذمام العرب، وإذا أخبرنا عمرا بحقيقة الأمر وعاهدناه على صيانتها وحفظها فإنه يقوم بعهده، وغدا إن شاء الله أدخل عليه وأطلعه على جلية الخبر، وإذا شئت أن تكون معي فإنك ترى بعينيك وتسمع بأذنيك ما قلته لك عن شهامة العرب وكرم أخلاقهم، ولكنني أود أن أدخل عليه بلباس البدو لكي يعرفني حالما يراني.»
فتذكر مرقس ثياب البدو التي حملها من بلبيس فقال: «إن عندي ثوبا بدويا حملته من بلبيس، فهل تريد أن تلبسه؟» ففرح زياد به وقال: «أود كثيرا أن أدخل عليه به، فأين هو؟» قال: «قد خبأته في مكان ما، وسأعطيكه الليلة.»
ثم رجع الاثنان وقد سر كل منهما بالآخر، وقضيا بقية ذلك اليوم في المعسكر يتفرجان. ثم غادراه فرأيا عبيد العرب قد خرجوا يجمعون الحطب، ولما أمسى المساء ظهرت النيران، فرأيا الأسمطة أمام خيمة كل أمير والذبائح قد ذبحت وجلس الناس للطعام.
ولما غابت الشمس سمعا المؤذن يؤذن، وقد قام المسلمون للوضوء والصلاة، وبعد تناول الطعام اجتمع الأمراء إلى خيمة عمرو، وبين أيديهم قراء القرآن يتلون الآيات، والناس يذكرون ويكبرون ويشكرون الله على ما آتاهم من النعم ويسألونه النصر على الأعداء، فقضيا تلك الليلة في عسكر يوقنا، لأنهما كانا في لباس الروم مثل عسكره، وفي الغداة لبس زياد لباس البدو، فالتحف الشملة وتعمم بالعمامة، وسار هو ومرقس من معسكر يوقنا حتى وصلا إلى معسكر عمرو، فدخلا بين الخيام فإذا بالعرب قد قاموا للصلاة وكلهم ركع يصلون، وشاهدوا على كثير منهم ثيابا رومانية ودروعا وأسلحة وأدوات يستعملها الروم في قضاء حوائجهم، فقال زياد: «انظر يا مرقس إلى آثار النصر وبقايا الفتح، إن هؤلاء العرب لم يرتدوا في حياتهم مثل هذه الألبسة، ولا رأوا مثل هذه الأدوات التي غنموها من الروم في حروبهم بالشام.»
وكانا قد شاهدا بين أيدي هؤلاء البدو كثيرا من الأثاث الروماني كالأبسطة والطنافس وعليها رسوم رومانية، وفيها صور بعض القديسين والأبطال، قد فرشها العرب على التراب يجلسون عليها أو يلتحفونها، وبين أيديهم طسوت من الفضة، وصحف من أبدع الصنائع، وكلها أسلاب من مدن الشام. •••
سار مرقس وزياد حتى وصلا إلى فسطاط الأمير فإذا هو قائم على عمد متشامخة، والفسطاط أبيض من الخارج، وداخله مبطن بالحرير المزركش، وفي أرضه البسط والطنافس، وعرفا خيمة عمرو من العلم الأسود والكتابة التي عليه، وكانا قد شاهداه بيد وردان ساعة وصول الجند، فلما اقتربا من الفسطاط استقبلهما وردان عند الباب، وقد عجب لاجتماع هذين الرجلين على تناقض لباسهما، فسألهما عن غرضهما فقال زياد بلسان عربي فصيح: «نريد مقابلة الأمير.» فقال وردان: «ومن الرجلان؟» قال زياد: «رسولان يريدان الدخول على الأمير.»
فدخل وردان ثم عاد ففتح لهما الباب، فدخل زياد بعد أن خلع نعليه كعادة العرب، وعمرو جالس في صدر الخيمة جلوس العرب في خيامهم؛ لأنها لخلوها من الجدران الصلبة لا يستطاع الاستناد إليها، فكانوا يجلسون الأربعاء، أو يجثون قعودا ويلقون أيديهم على الركبتين أو يعقدونها عليها فيستريحون، ويقوم ذلك عندهم مقام الاستناد. أما عمرو فكان على ركبتيه سيف طويل صنع اليمن، وأمراؤه بين يديه وفي مثل جلوسه، وفي بعض جوانب الفسطاط رجل جالس الأربعاء يتلو القرآن والكل يصغون إليه يرددون ما يقوله بين شفاههم، فلما دخل زياد أراد أن يبغت عمرا بتحية الجاهلية لينبهه إلى حاله فقال: «أبيت اللعن أيها الأمير.»
فبغت عمرو ومن في مجلسه من هذه التحية، وقد كادوا ينسونها لاستبدالهم بها بعد الإسلام تحيته: «السلام عليكم»، فأجابه عمرو على الفور: «أعوذ بالله من كفر الجاهلية، ما بالك تحيينا بتحية الجاهلية يا أخا العرب؟» قال ذلك ونظر إلى الرجل، فتذكر أنه يعرفه، ولكنه نسي اسمه؛ لأنه قد فارقه منذ عشرين سنة أو تزيد، وقد كان شابا فأصبح كهلا، فأمعن النظر فيه وزياد لا يزال واقفا ينتظر الأمر بالجلوس، وكان القادم على الأمير عندهم لا يجلس إلا بعد أن يدعوه الأمير إلى ذلك ثلاث مرات، فقال عمرو: «من الرجل؟»
فأجاب زياد: «إن الرجل أخوك في الجاهلية، ورفيقك إلى الإسكندرية.»
Неизвестная страница