نظر أركاديوس إلى مرقس نظرة استفهام، ولسان حاله يقول: «ما قولك في هذا الاتفاق الغريب؟»
فقال مرقس: «هلم بنا يا سيدي ندخل الدار لعلنا نعرف أحدا منهم.»
فقال أركاديوس: «كيف أدخل؟» قد يراني البطريق، وعهده بي أني مقيم في حصني؟ لا أقول هذا خوفا منه، ولكني لا أريد أن يظن بي الجبن أو الخيانة.»
فقال مرقس: «إن الهجوم لم يكن من جانب حصنك، وما أنت بمقصر فضلا عن أن الواقعة انقضت، ورجع العرب إلى معسكرهم، وانظر إلى قوادكم كيف تجمعوا في الدار لمشاهدة الأسرى. ألست واحدا منهم؟ فاجعل أنك جئت فيمن جاء منهم، وثق يا مولاي أن صلاتنا في هذا الصباح هي التي ساعدت على رد العرب وحفظ أسوار المدينة، فإن للسيدة العذراء كرامة.»
فسكت أركاديوس وتحول إلى الباب المعد لكبار الضباط فوسعوا له، فدخل ودخل مرقس معه، فرأيا صحن الدار غاصا بالناس من الأعيان والوجهاء والقواد، فانخرطا في سلكهم وتطلعا فرأيا ثلاثة من العرب في لباس متشابه جيء بهم إلى القاعة التي فيها البطريق، وتفرس مرقس فيهم عن بعد فلم ير غير أقفيتهم، فلما وصل الناس إلى باب القاعة لم يأذن الحجاب لغير كبار القواد، فدخل أركاديوس، ودخل مرقس معه، وجلس الجميع على كراسيهم بين يدي البطريق، وأوقفوا الأسرى في الوسط، وكان مقعد البطريق على دكة في الصدر، ومجالس القواد على كراسيهم إلى يمينه ويساره، وأرض القاعة مرصوفة بالرخام الملون، والجدران مزينة بالرسوم الجميلة على أبدع ما رسم الرسامون.
وما كاد نظر مرقس يقع على الأسرى حتى عرف أنهم عمرو بن العاص، ووردان، ومسلمة بن مخلد. فنظر أركاديوس فرآه يرنو إليه كأنه يستقدمه فتقدم، فهمس في أذنه: «أليس هذا هو الأمير عمرو ابن العاص؟» قال: «بلى.»
فسر أركاديوس بأسره، ثم ذكر يوم رآه للمرة الأولى في بلبيس، وما كان من حمايته أرمانوسة وتأمينها، وكيف أرسلها إلى أبيها سليمة آمنة، فلبث صامتا يترقب.
أما عمرو فكان ينظر إلى البطريق، ويلتفت يمنة ويسرة لا يعبأ بما يبرق أمامه من السيوف، وما يتلألأ على رءوس الجماعة من القلنسوات المزخرفة، أو الخوذ اللامعة، أو الثياب الموشاة بالألوان الزاهية، ووقف رابط الجأش ورفيقاه إلى جانبيه، وتطلع بهدوء وسكينة في وجوه الجالسين، فعرف مرقس، وتأمل وجه أركاديوس فخيل إليه أنه يعرفه، ولكنه لم يذكر أين رآه، ولم يعجب من لقاء مرقس هناك لأنه كثيرا ما سمع بخروجه إلى الإسكندرية ليتجسس للمقوقس.
فصاح البطريق يطلب الترجمان قائلا: «أين الترجمان؟ أين زياد العربي؟»
فدخل زياد، فعرفه عمرو، وكان قد عاد إلى مولاه يحيى النحوي بإيعاز من عمرو بعد فتح الحصن، ليكون عينا له عند الحاجة، فوجد الروم قد زادوا في اضطهاد يحيى حتى لم يعد يستطيع الظهور، فاختبأ، والروم يعتقدون أنه فر من الإسكندرية، فتظاهر زياد بنصرة الروم، وكانوا في حاجة لمعرفة اللسان العربي، فصار في جملة المترجمين، ونظر زياد في الجالسين فرأى أركاديوس ومرقس، فتذكر ما مر بهم جميعا أمام حصون بلبيس، وأن عمرا أحسن إليهم جميعا.
Неизвестная страница