وتفتحت الأبواب، وانطلق الخلق كالدجاج الذي ضايقته زحمة القفص، وكانوا حين يتبادلون تحية الصباح يقولونها بقلوب متورمة، وأرواح خجلة، كانوا كالذي فقد شيئا، ولكنه لا يدري كنه ما فقد.
وتناقل الناس وهم يتفرقون وراء رغيف الخبز ما حدث للعائدين من البندر، وكانوا يتناقلونه في فتور خافت، وحين علموا أنهم ربطوا بحبل، وقضوا الليلة في الدوار بعد علقة نصفها الموت، كانوا يهزون رءوسهم ولا يقولون شيئا، أو ينطق الواحد بكلمة لا معنى لها، ثم يسكت.
وبدأ يوم طويل كغيره من الأيام، ومضى النهار في تلكؤ يخنق الأنفاس، وحين عاد الرجال في الظهر وما بعد الظهر منهكين مشتتين التقت الجماعات فوق المصاطب، وأمام الدور، وقد أغلقت القهوة. وكان كلامهم كثيرا لا روح فيه ولا فائدة كثرثرة النساء، وكل منهم يغرق في رواية تفاصيل ما سمعه من دبيب أثناء الليل، ويقص نفس الحكاية عما حدث بعد قطار الثامنة.
وحين مج الناس الكلام والعودة إليه، تحول الحديث الدائر على مصطبة المعلم عمر إلى ناحية أخرى؛ لما عن لعبد الغني الجمل أن يطيل لسانه. وعبد الغني هو المنقذ دائما من الحديث الممجوج؛ فهو لا يعدم نكتة يرنها على الحاضرين، فينسوا كل شيء، وتستغرقهم فكاهات عبد الغني، وكان هو نفسه فكاهة، بقامته القصيرة التي تطاولها قامات الصغار، ورأسه التي مثل حبة البطاطس، وطاقيته الصوف المنطبقة بحذافيرها على جبهته، والتي حولها المنديل المحلاوي القديم ملفوفا ومربوطا بعقدة خبير، حتى لا يبين شعره، وما كان له شعر. فتحت طاقيته كانت قرعته حمراء راشحة، وكان الناس إذا لم تسعف النكتة عبد الغني يجدون في رأسه المتنفس، ويجذب الجريء منهم طاقيته، فتفج الحمرة من رأسه، وتنهال عليها البصقات.
غير أن ما حدث وجد فيه عبد الغني ثروة ما بعدها ثروة، فراح يقلد الأوسطى عبد الخالق الحلاق السمين الطويل ذا الشوارب، وهو ممسك بحقيبته الخشبية التي فيها العدة في يده، ورافعا باليد الأخرى ذيله، والكرابيج تنهال عليه، ولا يستطيع الجري، أو حتى التحرك، وإنما يقول في تهتهة عاتبة مختنقة بالبكاء: ما يصحش يا افندي، يا افندي ما يصحش.
وينفلت عبد الغني في براعة إلى عمك دعدور بائع السردين الذي نظره شيش بيش، والذي يصر دائما على التحدث بالمنطق والحجج والقانون، وعلى فلسفة كل ما يدور في البلد من حادثات، وعبد الغني كان حين يغمز دعدور لا يخلو فؤاده من بعض الحقد، فقد كان الناس يضحكون لفلسفة دعدور الساذجة أكثر من ضحكهم لنكات عبد الغني المفتعلة، التي يدافع بها عن نور رأسه.
وعلى غرة وجم الجالسون والواقفون وكفوا عما هم فيه حين همس الشحات في صوت آمر: هس يا جدع، أهم جم.
وما انتهى حتى كان الثلاثة يمرون من أمامهم، وكانت هذه أول مرة تقع عليهم الأبصار في وضح النهار، وسن كل واحد عينيه محاولا أن يلتهمهم بنظراته. كان فيهم واحد طويل رفيع ملفوف كعامود التليفون يبدو أبو عوف الجمال طفلا إذا وقف بجواره، وكان الثاني أقصر منه إنما له شلاضيم أعوذ بالله منها يبرز بينها ضب من الأسنان اللامعة البياض، وكأنها أصابع المذراة، وكان ثالثهم مبططا مربعا وعيناه يقدح منهما الشرر، وكانت وجوههم في سواد الهباب، وحلكة ليالي آخر الشهر، ويقطع سوادها تشريطات، وعلى كتف كل منهم بندقية، وفي يده كرباج طويل تلتف حوله أسلاك نحاسية صفراء تنتهي بعقد غليظة، العقدة منها تطلع بقطعة لحم.
ومروا بلا سلام أو كلام، وكأنهم فائتون على جبانة، وما كاد دعدور يفتح فمه يعلق على الموقف بعدما ابتعدوا حتى أقفله ثانية، وأحكم الإقفال. فقد عاد الثلاثة وفي عيونهم شر مستطير، ودون سابق إنذار ارتفعت الكرابيج مرة واحدة، ثم دوت، بينما لكنتهم تقول في حقد: على بيتك، يا بنت الكلب.
وكان الشاطر هو الذي أخذ ثوبه في أسنانه، وقال: أخلو لي الطريق. وفي غمضة عين لم يكن في الشارع كله إنس واحد، وجرى الثلاثة وراء الناس كالنحل الفائع، وكانت وقعة الذي يقابلهم أسود من شعر رأسه.
Неизвестная страница