Критические взгляды на проблемы мысли и культуры
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Жанры
تصدير
يجمع بين موضوعات هذا الكتاب كلها - على تعددها وتنوعها - نزوع واحد إلى تأمل الأمور بنظرة عقلية وبمنهج نقدي، وأحسب أن هاتين السمتين هما اللتان تميزان طريقتي في التفكير وأسلوبي في النظر إلى الأمور حتى الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور؛ أما السمة الأولى، وهي النظرة العقلية - أو العقلانية بمعنى أدق - فلست أعني بها السير وراء ذلك العقل الجاف، المتعالي عن أمور الحياة ومشكلات الناس الواقعية، ذلك النوع من العقل الذي دأب الفلاسفة على تمجيده عصورا طويلة، والذي ازدهرت في ظله مذاهب فكرية شاملة كان معظمها يتطلع إلى عالم الإنسان بترفع وشموخ. ولست أعني ذلك العقل الذي يدعي الثبات ويتهم كل شيء عداه بالتغير والزوال والفناء. ولست أعني ذلك العقل الذي يزدري المشاعر والأحاسيس الإنسانية، ويتجاهل الانفعالات والعواطف على زعم أنها ترتبط بالتقلب والتحول وعدم الاستقرار، وإنما أعني العقل الذي يندمج في الحياة ويسخر نفسه لخدمتها، ويحقق ذاته على أكمل نحو بالتغلغل في مشكلاتها، وأعني العقل الذي يعترف بالتطور والنمو في كل ظواهر الكون والحياة والمجتمع، ويكرس جهده من أجل كشف مسارات هذا التطور والنمو، والاهتداء إلى دروبه ومسالكه المعقدة، جامعا بين الثبات والتغير في مركب يعلو على كل تناقض. وأعني أخيرا العقل الذي لا يحول بين الإنسان وبين الاستغراق في حب الفن والانفعال الخصب بالحياة؛ لأن أحاسيس الفن وانفعالات الحياة هي في نظر العقل السليم جزء لا يتجزأ من واقع البشر، وعنصر جوهري تكتمل به مقومات الإنسانية، ومن المحال أن يكتفي العقل بإنسان مبتور أو بإنسانية أحادية الجانب.
وأما السمة الثانية - وهي المنهج النقدي - فلا يخالجني شك في أنها ترتبط بالسمة الأولى أوثق الارتباط، بل تنبثق عنها انبثاقا عضويا؛ فالعقل - بالمعنى الذي حددته - لا بد أن يكون ناقدا، وفي تصوري أن العقل الذي يتأمل مشكلات الفكر وأوضاع المجتمع والناس بنظرة غير نقدية إنما يتنكر لطبيعته ويأبى أن يمارس وظيفته؛ ذلك لأن سمة العقل المميزة هي قدرته على تخطي ما هو شائع، وتجاوز الأمر الواقع من خلال مقارنته بصورة يرسمها الفكر المتطلع إلى أوسع الآفاق، ولو لم تكن لدى العقل تلك القدرة على التخطي والتجاوز لكان ملكة عاطلة، لا تمتاز بشيء عن تلك الحواس التي يقتصر إدراكها على ما يقع في نطاق محيطها المباشر، وأنا - على أية حال - ممن لا يستطيعون تصور التفكير إلا مصحوبا بالنقد، وممن يؤمنون بأن النقد هو أعلى مظاهر تحقيق الفكر لذاته. ومن هنا كانت الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب نقدية في صميمها، وهي في نقدها هذا إنما تعبر عن وجهة نظري الخاصة إلى المشكلات التي عالجتها، وإن كنت آمل أن تتجاوز وجهة النظر هذه النطاق الفردي لصاحبها؛ إذ إنني أرجو أن أكون في الوقت ذاته قادرا على إقناع الآخرين، ما داموا بدورهم يحتكمون إلى العقل.
وبعد، فإن هذا الكتاب يضم مجموعة من الدراسات والمقالات نشرت منذ عام 1964م حتى الوقت الراهن في مجلات «الثقافة» و«الكاتب» و«الكتاب العربي» و«الطليعة» و«المجلة»، وقبلها جميعا في مجلة «الفكر المعاصر»، ولقد صنفت هذه الكتابات إلى موضوعات رئيسية أربعة، تندرج تحت كل موضوع منها مجموعة من المقالات رتبت بقدر الإمكان ترتيبا منطقيا لا ترتيبا زمنيا.
وأود أن أقول - دون مواربة - إن هذه الدراسات والمقالات أقرب إلى التعبير عن فكري في صورته الصريحة المباشرة من أي شيء آخر كتبته من قبل، وهي بهذا المعنى معيار صادق لما أومن به ولما أرفضه، وإني - إذ أقدمها إلى القراء في هذه الصورة المتكاملة - لا أتوقع ولا أتمنى أن يوافقني الجميع على ما أقول، ولكن ما أتمناه حقا هو أن يناقشني الموافقون والرافضون معا على نفس المستوى العقلي والنقدي الذي كتبتها به؛ ذلك لأن أسعد لحظات المفكر هي تلك التي يحس فيها بأن ما كتبه قد حفز الآخرين إلى التفكير معه، وأتعس لحظاته هي تلك التي يشعر فيها بأن آراءه لم تثر في الناس إلا استجابات انفعالية متسرعة لا ترتكز على أساس من التعمق والتحليل. فليكن تقديم هذا الكتاب دعوة إلى المشاركة في السعادة الفكرية.
دكتور فؤاد زكريا
القاهرة 5 سبتمبر 1974م
الباب الأول
مشكلات ثقافية
أزمة العقل في القرن العشرين1
Неизвестная страница