Критические взгляды на проблемы мысли и культуры
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Жанры
والفارق الأساسي بين الجميل والجليل - عند «كانت» - هو أن الأول يتوقف على تناسق الصورة وتلاؤم الخطوط، أما الثاني فقد يكون متعلقا بصورة هي في ذاتها مشوهة تفتقر إلى كل تناسق، ومن هنا كان تأثير الجمال مهدئا لأعصابنا ومريحا لنفوسنا، على حين أن في الجلال نوعا من الإثارة التي تنبه الخيال وتحفزه على النشاط المستمر، وهذا يؤدي إلى فارق آخر هام بينهما، هو أن إحساسنا بالجلال ينبع كله عن ذاتنا؛ فليس هناك أي نوع من الارتباط المباشر بين طبيعة الموضوع الذي أثاره، وبين الأحاسيس التي تولدت في نفوسنا تجاه هذا الموضوع؛ فالجلال كله ذاتي، وهو ينشأ في صدد موضوع ليست له أية قدرة تعبيرية، على عكس الحال في الجمال، حيث توجد علاقة مباشرة بين تناسق صورة الموضوع وبين استجابتنا الجمالية لها.
وتكتمل معالجة «كانت» لموضوع الفلسفة الجمالية بحديثه عن القوة الخلاقة في الفن، أي العبقرية، وأهم ما يميز العبقرية عنده هو استحالة وصف طريقتها في الخلق الفني بطريقة عقلية مفهومة؛ فالخلق عندها يحدث بطريقة طبيعية، لا تكلف فيها ولا جهد، ومن هنا عرف «كانت» العبقرية بأنها «الطبيعة وهي تعمل بوصفها عقلا في الإنسان»، أي إنها هي ظهور الإنتاج الروحي في الإنسان بنفس السهولة والتلقائية اللتين تتم بهما عمليات الطبيعة. وعلى ذلك فأهم ما يميز العبقرية هو القدرة الفائقة على الإنتاج، وهو الطاقة الروحية الفياضة التي تجعل الخلق والإنتاج أمرا ميسورا، ويرى «كانت» أن العبقرية هي ملكة توليد «أفكار جمالية»، وهنا تستخدم كلمة «الأفكار» بمعنى غير المعنى العقلي؛ فهي صور تتجاوز نطاق الفكر المجرد - كأساطير أفلاطون مثلا - وهكذا تقتصر فكرة العبقرية - في نظر «كانت» - على مجال الخلق الفني وحده، أما العلم فلا يحتاج في رأيه إلى العبقرية؛ لأن أي شخص يستطيع - إذا بذل الجهد الكافي - أن يكون عالما كبيرا؛ فالفن يحتاج إلى تلك الشعلة الغامضة التي لا نستطيع أن نضع لسيرها القواعد، أما العلم فله قواعد يستطيع المرء إذا سلكها أن يهتدي بسهولة إلى طريقه فيه، وقد لا يتفق الكثيرون مع «كانت» في هذه التفرقة القاطعة بين العلم والفن، وقد نرى أن العالم كثيرا ما يقترب من الفنان حين يقفز بفروضه إلى عالم المجهول، فيحتاج عندئذ إلى نفس شعلة العبقرية الغامضة التي تضيء روح الفنان، ولكن الأمر الذي لا شك فيه هو أن «كانت» إنما كان يرمي بحكمه هذا إلى إعلاء شان الفن، ووضعه في القمة العليا من مظاهر النشاط الروحي للإنسان.
فإذا أردنا أن نصدر على نظرية «كانت» الجمالية حكما أخيرا؛ لوجب أن نقول إنه كان أول فيلسوف جعل للفن مجالا متميزا لا يختلط فيه بسائر المجالات؛ فقد رفض كل النظريات الجمالية القديمة التي تخلط بين مجال الفن ومجال الواقع، وتعيب على الفن كونه ذا قيمة ميتافيزيقية أدنى من الواقع، وكونه ظلا باهتا يعجز عن أداء وظيفته الأصلية، وهي محاكاة الطبيعة وموجوداتها، أما «كانت» فإنه يرفض كل هذه النظريات ويؤكد استقلال الفن عن الطبيعة، بل يجعل الإنتاج الفني رمزا قائما بذاته، له قيمته الذاتية التي تعلو أحيانا على قيمة الموضوعات الطبيعية ، بما تضفيه عليها من صور متناسقة وأفكار مبتكرة. كذلك استطاع «كانت» أن يحقق للفن استقلاله عن الغايات الأخلاقية، وأن يقضي على الخلط بين مجال الاستمتاع الجمالي ومجال السلوك العملي، فأكد بذلك الطابع المميز للمتعة الفنية الخالصة، وتمكن بتحليله العقلي من أن يكشف عن الظاهرة الجمالية فيما تتصف به من خصائص فريدة مميزة عن خصائص الظواهر العلمية والعملية معا.
النظرية الرومانتيكية في الفن: شوبنهور ونيتشه
ذكرنا في حديثنا عن نظرية «كانت» العقلية في الفن أن هذا الفيلسوف كان أول من جعل للفن مكانة مستقلة، وأكد أن الظاهرة الفنية قائمة بذاتها، تقف إلى جوار مختلف الظواهر التي تتناولها الفلسفة. ولقد كان شوبنهور تلميذا «كانت» في اتجاهه الفلسفي العام، أما في فلسفته الجمالية فقد كان أشد اهتماما بالفن من أستاذه نفسه، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن تجارب شوبنهور الجمالية كانت أعمق من تجارب «كانت»، كما أنه كان أوسع منه ثقافة في هذا المجال، وإنا لنجد في كتابات شوبنهور - لأول مرة - أحاديث مطولة عن العمارة والشعر والتصوير والموسيقى، تدخل في صميم مؤلفه الرئيسي، وتقف جنبا إلى جنب مع كل الموضوعات الفلسفية الأخرى التي يعالجها في هذا الكتاب.
وتقوم نظرية شوبنهور الجمالية على القول بأن الفن نوع من المعرفة، غير أنه ليس معرفة بموضوعات فردية محسوسة، كما هي الحال في الإدراك الحسي للإنسان، وهو في الوقت نفسه ليس معرفة تصورية مجردة، كما هي الحال في العلم ، وإنما يحتل الفن موقعا وسطا بين هذين. ولكي يعبر شوبنهور عن طبيعة المعرفة التي تكون قوام الفن، استخدم فكرة «المثل»، وهي الفكرة الأفلاطونية القديمة، ولكن بمعنى مخالف للمعنى الأفلاطوني، فالمثال عند شوبنهور ليس فرديا، وهو في الوقت ذاته ليس تصورا مجردا، وإنما هو يعبر عما هو أساسي في العالم، مع كونه في الوقت ذاته قابلا لأن يدرك، ولأن يتحدد على نحو واضح المعالم، ولكن كيف تصل الذات الإنسانية إلى إدراك هذه المثل التي تكون أساس الفن؟ يؤكد شوبنهور أنه لا بد من حدوث تغيرات أساسية في الذات لكي تتهيأ لإدراك هذه الماهيات الكامنة في قلب الأشياء أعني المثل؛ ففي حياتنا اليومية - حين تتحكم فينا الإرادة برغباتها وأطماعها التي لا تقف عند حد - نعجز عن الوصول إلى حالة التأمل الخالص، وتشغلنا مصالح الحياة ومتاعبها بأمور جزئية فردية، ومن هنا كان لا بد من التخلص من كل مطالب الإرادة، بحيث يكون نشاطنا الروحي خارجا تماما عن مجال الإرادة ومصالحها الذاتية، ونصل إلى حالة التنزه التي تغدو فيها الذات أداة للتأمل الخالص الذي تتغلغل به في قلب الأشياء وماهيتها الباطنة.
وهكذا يقوم الفن في فلسفة شوبنهور بدور المخلص للإنسان من استعباد الإرادة واستبدادها؛ ذلك لأن الإرادة عنده قوة طاغية لا تتحكم في الإنسان فحسب، بل تتحكم أيضا في مجرى الحوادث المادية للكون بأسره؛ فكل ما في الكون من حوادث إنما هو الوجه الخارجي لإرادة باطنة تعد هذه الحوادث مجرد مظاهر خارجية لها، ولقد كان هذا الرأي تعبيرا فلسفيا صادقا عن تشاؤم شوبنهور ونظرته القاتمة إلى الحياة؛ ذلك لأن الإرادة بطبيعتها قوة عمياء تفتقر إلى التعقل والنظام، وهي نزوع أهوج لا يستطيع أن يكبح جماحه شيء، وما دامت القوة الباطنة في العالم لها مثل هذه الصفات، فلا بد أن يكون مسار العالم متخبطا، وأن يكون الإنسان بدوره - من حيث هو جزء من هذا العالم - خاضعا لقوة الإرادة العمياء تتحكم فيه كما تشاء، ومن هنا كان الفن يلعب في فلسفة شوبنهور دورا أساسيا؛ فهو وسيلة من وسائل الخلاص من جبروت الإرادة وتحكمها في الإنسان، صحيح أنه ليس هو الوسيلة النهائية، وإنما هو يمثل - في نظر شوبنهور - مرحلة خلاص مؤقتة، تليها وتعلو عليها مرحلة نهائية هي مرحلة الإنكار التام للفردية وللكثرة، وإماتة إرادة الحياة، وبالتالي القضاء على المصدر الأساسي للشر، ومع ذلك فقد رأى شوبنهور في الفن وسيلة من أقوى الوسائل التي تتيح للإنسان التغلب على ما في العالم من خداع وشر؛ فبفضل الفن يتمكن الإنسان من نسيان فرديته وفردية الأشياء، فلا يعود ينظر إلى الأشياء بوصفها موضوعات لرغبته، وإنما يتأملها بصورة موضوعية خالصة تخلو تماما من كل نزوع أو طموح للإرادة، وهنا يبدو أن شوبنهور قد جمع بين رأي أرسطو في الفن ورأي «كانت» في مركب واحد لا تكلف فيه ولا تصنع؛ فالفن عنده يؤدي إلى الخلاص مثلما يؤدي عند أرسطو إلى «التطهر»، وهو يرتبط أساسا بحالة من التنزه والبعد عن الأطماع والأغراض الشخصية، تماما كما قال «كانت».
وعلى أية حال، فإن شوبنهور ينظر إلى الفنون على أنها مظاهر لتلك القوة الكامنة في الكون - أعني الإرادة - وتعبيرات عنها بوسائل متباينة وبمراتب متدرجة، وهكذا يقاس كمال الفن عند شوبنهور بمقدار علو مرحلة الإرادة التي يعبر عنها؛ فالفنون تتدرج في سلم صاعد يبدأ بالعمارة التي تتعلق بقوة من قوى الإرادة الكونية هي الجاذبية، وتسعى إلى حل مشكلة مقاومة المادة الصلبة لهذه القوة، وتلي ذلك قوة أخرى في الطبيعة، هي قوة النمو، كما تتمثل في النبات وتظهر في فن فلاحة البساتين، وتصوير المناظر الطبيعية، وقد بدا الجمع بين هذين الفنين معا غريبا في نظر الكثير من شراح شوبنهور، لا سيما وتصوير المناظر الطبيعية لا يقتصر مطلقا على العالم النباتي. وعلى أية حال فيبدو أن ذلك كان ضروريا لتكملة التناسق الفكري لمذهب شوبنهور، ويلي هذا الفن: النحت والرسم، الذي يصور الجسم الحيواني والإنساني، أي إنه يعلو مرتبة على تصوير قوة النمو في النبات، ثم يأتي بعد ذلك الشعر بكل أنواعه وفروعه، وهو يسمو على الفنون السابقة؛ لأنه يختص بالإنسان وحده، ويصور أحوال إرادته ومشاعره بمزيد من الدقة.
أما الموسيقى فإن شوبنهور يجعل منها قمة الفنون جميعا، ويحرص على التمييز بدقة بينها وبين سائر أنواع الفن؛ فالموسيقى في رأيه عالم قائم بذاته، وهي لا تتناول موضوعات مثل معينة، أو مظاهر خاصة للإرادة، وإنما هي تعبير مباشر عن الإرادة بأكمل معانيها، وهكذا يقول شوبنهور: «إنه ليبدو لمن ترك سيمفونية تتغلغل في نفسه تماما، أنه رأى كل الأحداث الممكنة للحياة وللعالم وهي تمر في داخله، ومع ذلك فإنه لو أمعن التفكير في الأمر، لما أمكنه أن يؤكد وجود أي تشابه بين هذه القطعة الموسيقية وبين الأشياء التي تمر بذهنه؛ ذلك لأن الموسيقى تختلف عن كل الفنون الأخرى في أنها تصوير مباشر للإرادة ذاتها ... وعلى ذلك ففي إمكاننا أن نسمي العالم موسيقى متجسدة، مثلما يمكننا أن نسميه إرادة متجسدة.» وهكذا تقف الموسيقى عند شوبنهور إلى جوار العالم - إن جاز هذا التعبير - ولا تكون جزءا منه؛ لأنها عالم قائم بذاته، ولأنها تكشف عن ماهية الإرادة الكونية بطريقتها الخاصة، مثلما يكشف عنها عالم الظواهر من خلال ما فيه من موضوعات، وفضلا عن ذلك فإن الموسيقى تتميز عن كل الفنون الأخرى بأنها تمثل عالم الزمان الخالص بلا مكان، ومن الطبيعي أن ترتبط الفنون الأخرى المكانية بالعالم الخارجي على نحو ما، أما الموسيقى فلا تعبر عن شيء مما في هذا العالم، وإنما هي تعبر عن أعمق ما في القوة الباطنة المحركة لكل ما في العالم. وأخيرا فالفنون الأخرى - في رأي شوبنهور - تستعين بوسائط مادية كالحجارة وغيرها من المواد في النحت والعمارة مثلا، أما الموسيقى فلا تستعين بمثل هذه الوسائط، ولهذه الأسباب كلها استطاع شوبنهور أن يقول إن في وسع الموسيقى أن توجد حتى لو لم يكن للعالم وجود على الإطلاق، وهي عبارة تمجد الموسيقى كما لم تمجدها عبارة أخرى لأي فيلسوف آخر، ولكن صيغتها الغريبة لا تفهم إلا إذا ربطت بآراء شوبنهور الفلسفية والفنية في مجموعها.
ولعلنا قد لاحظنا في العرض السابق نوعا من التناقض الظاهري في استخدام كلمة «الإرادة» عند شوبنهور؛ فالمفروض - من جهة - أن الفن مظهر للإرادة، إما بطريقة مباشرة - كما هي الحال في الموسيقى - وإما بطريقة غير مباشرة، كما هي الحال في الفنون الأخرى، ولكن وظيفة الفن - من جهة أخرى - هي تحرير الفرد من رغبات الإرادة وأطماعها التي لا تقف عند حد، ولا شك أن مرجع هذا الاختلاف إلى المعنى المزدوج الذي استخدمت فيه كلمة الإرادة؛ فالمقصود منها في الحالة الأولى هو الإرادة الكونية، أو الإرادة من حيث هي قوة ميتافيزيقية تكمن من وراء كل ظواهر الكون، أما في المعنى الثاني، فالمقصود هو الإرادة في الإنسان بما لها من أطماع ورغبات لا نهاية لها، وهذا المعنى الثاني هو الذي كان في ذهن شوبنهور حين تحدث عن الفن من حيث هو وسيلة لخلاص الإنسان وتطهيره، أما المعنى الأول فهو الذي قصده حين وصف الفنون بأنها مظاهر متدرجة للإرادة.
Неизвестная страница