Критические взгляды на проблемы мысли и культуры
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Жанры
إن «النظرة إلى الوراء بسخط» (ومعذرة لكاتب المسرحية المعروفة) جزء لا يتجزأ من صفات جيل الشباب المتطلع إلى التغيير، وهي نظرة بناءة، تحاول إعادة التوازن بين الحاضر والماضي بعد أن ظل طويلا في اختلال ترجح فيه كفة الماضي على الحاضر، وأحسب أن أول ما تقتضيه مرحلة محاسبة النفس التي نمر بها هو المواجهة الصريحة لعيوبنا، ولا سيما المتأصلة منها في نفوسنا خلال فترات تاريخية طويلة بدلا من إسدال ستار من الصمت عليها بحجة التغني بأمجاد الأجداد.
فإن كان الغضب على الماضي الراكد، والسخط على أسلوب في الحياة جامد لا يتطور، بشيرا ببداية الوعي الذي يقودنا إلى مستقبل أفضل، فأهلا بالغضب ومرحبا بالسخط!
أخلاقنا الاجتماعية ... إلى أين؟1
لم يكن يجول في خاطري أن أقوم يوما ما بالكتابة بشيء من الإسهاب في موضوع الأخلاق كما تطبق عمليا على حياتنا في مرحلتها الراهنة؛ إذ كنت أعتقد على الدوام أن الأخلاق - في جانبها العملي - ترتكز على أسس أسبق منها وأعمق، أي إنها ليست كيانا قائما بذاته، خاضعا لمنطقه الداخلي الخاص، مستقلا عما عداه وغير متأثر إلا بنفسه، وإنما هي السطح الظاهري الذي تتفاعل من تحته وتتعامل عشرات من العوامل الدفينة، وهي عوامل يصعب على العين العادية إدراكها، وتكون حصيلة تفاعلها في نهاية الأمر ذلك الشيء الذي نسميه بالأخلاق، ومن هنا كان من قبيل إضاعة الوقت والجهد فيما لا طائل وراءه أن يجهد المرء نفسه في الحديث عما يجري على السطح الظاهري، الذي لا يرى معظم الناس سواه، وهو يعلم أن من وراء هذا السطح عوامل خفية هي التي تحركه من وراء ستار، وأن هذه العوامل تبدو مقطوعة الصلة بمجال الأخلاق، بينما هي في حقيقة الأمر تمارس عليه تأثيرا حاسما، وإن لم يكن مع ذلك تأثيرا واضحا للعيان.
على أن الترحيب الذي لقيه مقالي السابق بعنوان «أخلاقنا العلمية ... إلى أين؟» قد أقنعني بأن للكتابة في ميدان الأخلاق مجالا واسعا، وبأن هناك رغبة يمكن أن توصف بأنها عامة في معالجة هذا الموضوع لا في مجال ضيق كالأخلاق العلمية فحسب، بل على أوسع نطاق ممكن، وبأن الكلام فيه ليس منعدم الجدوى إلى الحد الذي قد يبدو عليه لأول وهلة.
وبطبيعة الحال فإن التصدي لهذا الموضوع يحتاج إلى تلافي محاذير يقع فيها الكثيرون، وترتد كلها إلى الخطأ الأساسي الذي أشرنا إليه من قبل، وأعني به النظر إلى الأخلاق على أنها تكون مجالا مستقلا عن كل ما عداه، وعلى أنها قادرة على تفسير نفسها بنفسها، فلا مفر للمرء - وهو يعمل على تشخيص العيوب - من أن يرد هذه العيوب إلى أسبابها الموضوعية الكامنة في تركيب المجتمع ذاته، ولا بد له - في مرحلة البحث عن العلاج - من أن يقدم أفكارا تصلح لمعالجة الداء من جذوره، لا لتغطية سطحه الخارجي فحسب.
إننا شعب اشتهر بميله - الذي قد يكون مفرطا - إلى نقد ذاته، وكثيرا ما يتردد في أحاديثنا - حينما نجد أنفسنا إزاء أمر يثير فينا السخط - لفظ «يا بلد!» أو «يا شعب !» وكثيرا ما يلحق هذا اللفظ بصفات تدل على أننا نتهم أنفسنا - كشعب - بالضعف الأخلاقي، وبما قد يكون أسوأ من ذلك، وبطبيعة الحال فإن المتكلم يستثني نفسه دائما من هذا الحكم (إذ كيف يكون قد أدرك هذا الضعف، واستطاع أن ينتقده، لو لم يكن هو ذاته فوق مستوى الضعف؟) ومع ذلك فإن أحدا لا يتنبه إلى المفارقة التي تتلخص في أننا جميعا نردد هذه العبارات، وبالتالي فلو كنا جميعا فوق مستوى الضعف الأخلاقي لما كان لعباراتنا هذه معنى، ولكن لندع جانبنا هذا التناقض الشكلي، ولنتأمل الظاهرة في جوهرها، فما الذي يدل عليه هذا النقد الذاتي المفرط، الذي قد يتجلى مباشرة في عبارات ساخطة، وقد يتخذ مظهرا غير مباشر في ذلك السيل الجارف من النكات التي لا يفلت أحد من سخريتها اللاذعة، أو من لذعتها الساخرة؟
إنه يدل - أولا وقبل كل شيء - على اعتقاد منتشر بين معظم العامة وكثير من المثقفين، بأن لكل شعب أخلاقا خاصة مميزة له، وبأن هذه الأخلاق صفة لاصقة به، أو جزء من تكوينه «الطبيعي» أو «الفطري»، ولما كنا لا نود الخوض في مناقشة طويلة نفند فيها الاعتقاد بوجود أي نوع من الارتباط بين ما يسمى بالتكوين الطبيعي لشعب ما وبين النمط الأخلاقي السائد فيه، فسوف نكتفي بالقول إن أخلاق أي شعب لا تتميز عن أخلاق شعب آخر إلا لأن الظروف الموضوعية المتراكمة عبر التاريخ، والتي مر بها هذا الشعب، تختلف عن ظروف الشعوب الأخرى، ومعنى ذلك أن من واجبنا - قبل أن نقسو على أنفسنا بلوم مفرط - أن ندرك مدى تأثير العوامل المعاكسة التي تعرضنا لها على مر التاريخ، ومدى عجزنا - كمجتمع - عن التحكم في هذه العوامل وتغيير اتجاهها على النحو الكفيل بتحقيق مصالحنا، عندئذ يمكن أن تبدو عيوبنا الأخلاقية في ضوء مختلف، وتتخذ أساليب إصلاح هذه العيوب طابعا مغايرا، مستمدا من الفهم السليم للعوامل الحقيقية المتحكمة في أخلاقنا.
على أن هذا النقد الذاتي القاسي يدل أيضا على حقيقة لا يمكن الشك فيها، وهي أن هناك إحساسا عاما بوجود أزمة أخلاقية، ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن عددا غير قليل من المشتغلين بشئون الفكر قد دأبوا على التحذير من هذه الأزمة الأخلاقية، ومع ذلك لا يشعر المرء في كتاباتهم بوجود تلك الرغبة المخلصة في البحث عن علاج حقيقي، بل إن أكثر الأصوات ارتفاعا في التنبيه إلى عيوبنا الأخلاقية، كثيرا ما تصدر عن أبعد الناس عن الأخلاقية بمعناها الصحيح، وتعليل هذه الظاهرة أمر ميسور؛ إذ إن هؤلاء يعزلون العامل الأخلاقي عن غيره من العوامل، ويصورون مشكلتنا الأخلاقية كما لو كانت مستقلة عن غيرها من المشكلات، وتتجه دعوتهم - نتيجة لذلك - إلى «إصلاح الأخلاق» أو «تقويمها»، وإلى «تهذيب النفوس»، وما إلى ذلك من الأهداف التي يستحيل تحقيقها عمليا، والتي يستحيل التأكد من صداها الحقيقي في النفوس حتى لو أمكن تحقيقها، وهكذا فإن أصحاب النزعة الأخلاقية الخالصة هؤلاء، يقومون في واقع الأمر بتمييع المشكلة عن طريق نقلها إلى مجال غير قابل للبحث الموضوعي ويستحيل أن تطبق فيه معايير متفق عليها، وأعني به مجال إصلاح النفوس وتهذيبها.
ولكن إذا كانت هذه النظرة - التي ترتكز على الاعتقاد بالاستقلال الذاتي للأخلاق - قد زيفت المشكلة بنقلها إلى مجال لا يخضع البحث فيه - بطبيعته - للمنهج العلمي، فإن هذا لا ينفي أن المشكلة ذاتها قائمة، وإن كانت تحتاج في تشخيصها وفي علاجها إلى وجهة نظر مختلفة تمام الاختلاف.
Неизвестная страница