Критические взгляды на проблемы мысли и культуры
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Жанры
على أن الأثر الأشد إضرارا والأشد خفاء في الوقت ذاته لتسمية «العالم الثالث» هو ذلك الذي خلفته هذه التسمية في عقول المثقفين الذين لا ينتمون إلى هذا العالم؛ فقد أثار اسم العالم الثالث في نفوس هؤلاء المثقفين نوعا من الإحساس الرومانتيكي الذي يرجع إلى أصول خيالية أكثر مما يرتد إلى جذور واقعية، كانت نتيجته أن أشد المطالب تناقضا أصبحت تطلب من هذا العالم.
فباسم «الأصالة» أصبح كثير من مثقفي الدول المتقدمة يطلبون إلى هذا العالم أن يظل متحفا للقيم الأثرية، يأتي إليه العلماء ليجدوا فيه الماضي متجسدا في الحاضر، ولكي تكتمل خصائص هذا المتحف يستحسن أن يتوقف فيه سير التاريخ أو يمضي بدرجة من البطء تضمن استمرار وجود هوة حضارية شاسعة بينه وبين العالم الذي يتغير بسرعة لاهثة، ومن الطبيعي أن تجد هذه الدعوات صدى في نفوس أبناء العالم الثالث؛ لأنها أولا تقدم تبريرا للجمود السائد، وتجعل من التخلف فضيلة، ولأنها ثانيا توفر عليهم عناء السير في طريق التجديد بما ينطوي عليه من مشاق نفسية ومادية، وتشعرهم بأن أسلوب حياتهم «مرغوب فيه»، وبأن هناك من يبدي به إعجابا، حتى بين أشد المجتمعات تقدما، ناسين أن هذا الإعجاب ليس إلا صورة مهذبة مثقفة لإعجاب الإنسان بأقفاص القرود في حديقة الحيوان، حين يجد لذة في الحضور لمشاهدتهم بين حين وآخر، وإن لم يكن يتصور - بالطبع - مجرد فكرة العيش معهم داخل القفص!
ومن جهة أخرى فإن المثقفين الغربيين - ولا سيما التقدميين منهم - يلقون على بلاد العالم الثالث مسئولية تتناقض مع المطلب السابق تناقضا صارخا، إنهم يريدون منها أن تحقق لهم ما عجزت عن تحقيقه الفئات الثورية التقليدية في البلاد المتقدمة ذاتها، فالمفروض أن تقوم حركات التحرر في العالم الثالث، لا بمهمة تحرير بلاد هذا العالم من كافة أشكال السيطرة الأجنبية فحسب، بل بمهمة تحرير البلاد المتقدمة ذاتها من الاستغلال غير الإنساني في الداخل، وأوضح الأمثلة على ذلك نظرة المثقفين في البلاد الغربية الرأسمالية إلى فيتنام؛ فهم يتوقعون منها أن تتمكن - بحربها البطولية ضد أعتى القوى في تاريخ البشرية - من تحرير أمريكا ذاتها من السيطرة المطلقة لتحالف رأس المال والعسكرية المحترفة، في نفس الوقت الذي تحرر فيه نفسها من التدخل الأجنبي ومن القوى العميلة في بلادها، وعلى حين أن الطبقات الثورية التقليدية في البلاد الرأسمالية - وعلى رأسها الطبقة العاملة - تقف عاجزة أو غير راغبة في النضال، بعد أن أصبحت مندمجة في السلطة القائمة اندماجا يكاد يكون تاما، فإن الأمل كله بات معقودا على تلك الحرب في تنبيه الشعب الأمريكي إلى مساوئ النظام الذي يعيش في ظله، وفي إحداث الصدمة أو الهزة العنيفة التي ستؤدي بهذا الشعب إلى الإفاقة من حلم الحياة الاستهلاكية السعيدة التي كان ينعم بها، وإدراك ما تؤدي إليه هذه الحياة ذاتها من مغامرات وأخطار ونفقات فادحة تتناقض مع هدفها الأصلي.
هكذا أصبح مطلوبا من العالم الثالث أن يحرر العالم «الأول» ذاته - إذا نظرنا إلى الرأسمالية على أنها هي الأسبق زمنا - ولكي تكتمل المفارقة وتتخذ شكلا دراميا مثيرا، فإن المفروض أن يظل هذا العالم الثالث على تخلفه وهو يقوم بهذه الرسالة التاريخية الكبرى، وهكذا يقف الناس - ولا سيما في الدول التي بلغت من التقدم مستوى رفيعا - مشدوهين أمام هذه البطولة الخارقة، ويتغزل التقدميون بكفاح هؤلاء الفلاحين البسطاء الفقراء أمام أقوى أداة حرب عرفتها البشرية، وكلما كان التضاد بين القوتين صارخا، ازداد المجال اتساعا أمام الإعجاب الرومانتيكي ببطولة هذا الشعب، وفي الوقت الذي يموت فيه من هؤلاء الأبطال الألوف وتحرق قراهم ويخرب اقتصادهم ويعم العذاب والخراب بلادهم، يقف الناس في العالم أجمع يصفقون في إعجاب وفي دهشة من بطولتهم الخارقة، ولكنهم يستمتعون - في سلبية تامة - بأنباء انتصار الفقراء الضعفاء على الأغنياء الجبابرة، ويكتفون بالتأييد على المستوى الكلامي، ويجدون في المأساة التي تتكرر كل يوم متعة أشبه بمتعة الطفل الساذج حين يجد جمال «سندريلا» الفقيرة يفوز بالأمير منتصرا على ثراء قريباتها الشريرات.
وهكذا يبدو أن صورة العالم الثالث ينبغي - في نظر البلاد المتقدمة - أن تظل مرتبطة بالحياة المتخلفة البسيطة، حتى يستطيع العالم المتقدم أن يشعر بتقدمه بالقياس إلى غيره، وحتى يتسنى للمستنيرين في البلاد الصناعية الكبرى أن يجدوا في هذا العالم «الآخر» نوعا من الترياق الذي يطهر مجتمعاتهم من سمومها، أو وسيلة للتطهر تساعد هذه المجتمعات على رؤية نتائج استبدادها في صورة عينية مجسمة.
وسواء أكان الأمر على هذا النحو أو ذاك، فإن الاعتقاد الكامن وراء هذا اللون من التفكير هو أن العالم الثالث ليس بحاجة إلى علم وفير أو عقول مفكرة كثيرة، وأن الرسالة «المقدسة» التي يحملها هذا العالم على أكتافه هي أشبه برسالات الأنبياء، يكفي فيها الإيمان العميق، لا العقل الدقيق، فإذا ما هاجرت العقول من هذا العالم الثالث بأعداد وفيرة، فإنها لا تفعل شيئا سوى أن تنتقل من بيئة لا يفيدها العقل كثيرا إلى بيئة أخرى تحتاج - لسوء حظها - إلى أعداد لا حصر لها من العقول، البشرية منها وغير البشرية. •••
تلك هي الزاوية التي تنظر منها البلاد المتقدمة إلى ظاهرة هجرة العقول، ومن هذه الزاوية تعد تلك الظاهرة «استنزافا» بحق، وتبذل بلاد العالم الثالث جهودا جبارة وصلت إلى حد المطالبة بوضع اتفاقيات دولية، من أجل الحد من امتصاص البلاد المتقدمة للمواهب والكفاءات التي لن يكون للبلاد المتخلفة أمل في التقدم بدونها.
على أن للمشكلة وجها آخر لا يلقى ما يستحقه من الاهتمام، وخاصة من جانب بلاد العالم الثالث ذاتها، على الرغم من أنه يتعلق بالجانب الخاص بها من المسئولية عن هذه الظاهرة؛ ذلك لأن هجرة العقول تعد - على الدوام - مظهرا من مظاهر «استنزاف» الدول المتقدمة لموارد الدول المتخلفة، أي الموارد البشرية في هذه الحالة، ومن المؤكد أن لهذه النظرة ما يبررها، بل إن كل ما جاء في هذا المقال من قبل إنما كان تأييدا وتدعيما لها، ولكن هجرة العقول لا ترجع فقط إلى رغبة الدول المتقدمة في الانتفاع من الموارد البشرية للدول المتخلفة، حتى تظل المسافة بين التقدم والتخلف محفوظة على الدوام، بل إن قدرا كبيرا من مسئوليتها يرجع إلى أخطاء قاتلة ترتكبها دول العالم الثالث ذاتها، وإن كانت تميل إلى تجاهلها ملقية اللوم كله على مستنزفي العقول.
ولنقل بعبارة أخرى إن للمشكلة جانبين مترابطين: المهاجر في علاقته بالبلد الذي يغادره، والمهاجر في علاقته بالبلد الذي يرحل إليه، وإذا كان الجانب الثاني وحده هو الذي ينصب عليه الاهتمام في البلاد النامية، فإن من واجب هذه البلاد أن تواجه في شجاعة مسئوليتها عن الجانب الأول؛ إذ إن أي حل للمشكلة لن يكتمل إلا إذا عولجت جوانبها جميعا.
إن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن العقول المهاجرة كثيرا ما ترحل عن بلادها بسبب تطلعاتها الاستهلاكية، وفي هذه الحالة يعبر هؤلاء المهاجرون عن وضع طبقة كاملة في العالم الثالث، يتسم تفكيرها بالبحث عن إشباع الرغبات الخاصة لأفرادها، دون اعتبار لظروف المجتمع ككل، وما دام هناك طلب، في مجتمعات أخرى أكثر ثراء على كفاءاتهم، فلم لا يهاجرون إلى حيث تتوافر وسائل عيش أفضل؟
Неизвестная страница