Критические взгляды на проблемы мысли и культуры
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Жанры
ولكن هل يحق لياسبرز - في ضوء نظرته المعروفة إلى العلم - أن يوجه إلى خصومه نقدا كهذا؟ إن هذا النقد يفترض مقدما إيمانا بالعلم يتجاوز بكثير نطاق الثقة المحدودة التي كان ياسبرز يوليها للعلم طوال تفكيره الفلسفي، وعلى حين أن ارتكاز العلم على الإيمان كان في نظره على الدوام جزءا من ماهية العلم ذاته، فإنه يصبح الآن مظهرا من مظاهر ضعف الروح العلمية وافتقارها إلى الموضوعية، وهكذا يبدو أن ياسبرز حين يواجه خصوما ينسبون إلى تفكيرهم صفة العلمية يلجأ في محاربته لهم إلى تأكيد موضوعية العلم ومنهجيته الدقيقة، أما حين يقارن بين مجال العلم ومجال الإيمان فإنه عندئذ يميل إلى تضييق نطاق العلم وتأكيد عجزه عن تحقيق ما يدعيه لنفسه من أهداف، والموقف الثاني - على أية حال - هو الذي يغلب على تفكير ياسبرز. •••
مثل هذا الاتجاه الفكري، ومثل هذا الموقف من العلم ومن التكنولوجيا ومن التقدم الحضاري بوجه عام، يوحي بأننا إزاء فيلسوف يغلب على تفكيره النزعة المحافظة؛ ذلك لأن أنصار التجديد والتغيير هم - في أغلب الأحيان - مؤمنون بالعلم وبقدرته على بسط سلطانه إلى كل الآفاق، وهم لا يقبلون أن يجعلوا من فلسفتهم أداة لتكبيل العلم وتضييق نطاقه، وحتى لو كانوا على يقين من أن العلم في مرحلته الراهنة عاجز في مجالات كثيرة، فإنهم يميلون إلى جانب التفاؤل، ويؤمنون بأن المستقبل كفيل بأن يمنح العلم القدرة على إثبات وجوده في المجالات التي يقف أمامها اليوم عاجزا، فلو حكمنا على ياسبرز بناء على فلسفته النظرية وحدها؛ لكان من المحتم أن نستنتج أن فكره يسير في الاتجاه المحافظ.
على أن ياسبرز ذاته قد كفانا مئونة الاستنتاج، وأعرب في كثير من المواضع (ولا سيما في الفترة الثانية من تفكيره، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية) عن اتجاهاته السياسية على نحو لا لبس فيه ولا غموض، فإذا بها اتجاهات تندرج قطعا ضمن الفئة التي يطلق عليها في المصطلح السياسي اسم اليمين المتطرف.
ولسنا نود أن نتحدث عن كتابه الذي أثار ضجة كبيرة، وهو «القنبلة الذرية ومستقبل البشرية»؛ إذ إن هذا الموضوع قد عولج في بلادنا بما فيه الكفاية، بل إن هناك كتابا آخر يلقي على آرائه السياسية ضوءا ساطعا، ويعرض اتجاهاته إزاء صراع القوى في عالمنا المعاصر بما لا يحتاج إلى مزيد من الوضوح، ذلك هو كتاب «الحرية وإعادة التوحيد» الذي يتناول المشكلة الألمانية، والذي يعد من أواخر ما كتب.
كان ياسبرز قد أدلى بحديث تليفزيوني مع صحفي ألماني اسمه «تيلو كوخ
Thilo Koch »، وأثار هذا الحديث ضجة كبرى نظرا إلى ما تضمنه من آراء غير مألوفة عن المشكلة الألمانية، فكتب ياسبرز بضع مقالات في مجلة
Die Zeit
الألمانية عام 1960م لكي يبرر الآراء التي عرضها في هذا الحديث، وهذه المقالات - بالإضافة إلى الحديث الأصلي - هي التي تؤلف مادة هذا الكتاب.
ومنذ صفحات الكتاب الأولى نجد ياسبرز يقسم العالم إلى كتلتين: كتلة المذهب الشمولي، الذي يفتقر إلى الحرية، والكتلة الغربية التي هي في رأيه الكتلة الحرة بالمعنى الصحيح، الأولى عدوانية تقدم إلى الجماهير الغفيرة وعودا لا تحققها، والثانية حاملة لواء الحرية والكرامة الإنسانية.
والموضوع المباشر الذي يتصدى له ياسبرز هو موضوع إعادة توحيد ألمانيا؛ فهو يرى أن من واجب ألمانيا الغربية أن تتخلى عن فكرة إعادة التوحيد، وأن تتنازل عن إعادة ألمانيا إلى حدودها التي اكتسبتها منذ أيام بسمارك؛ لأن تلك - على أية حال - حدود حديثة نسبيا، لا ترجع إلى أكثر من سبعين عاما (قبيل الحرب العالمية الثانية)، والمشكلة الكبرى في رأيه ليست إعادة التوحيد بل «الحرية»؛ فعلى الألمان أن يركزوا جهودهم على تحقيق الحرية لإخوانهم في الشرق، أما محاولة ضمهم إليهم مرة أخرى فهي هدف يستحيل تحقيقه في ظروف العالم الراهنة.
Неизвестная страница