Критические взгляды на проблемы мысли и культуры
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Жанры
أما أن الاختلاف بين نيتشه وماركس يظل - على الرغم من نقاط الالتقاء السابقة - اختلافا أساسيا، فهذا ما يتضح من أن كل ما اتفق فيه المفكران لا يمس موقفهما الأساسي، وهو أن الأخلاق - عند أحدهما - من صنع الضعفاء للحد من سيطرة الأقوياء، وعند الآخر من صنع الأقوياء للسيطرة على الضعفاء.
ولعل أول خطوة ينبغي أن نخطوها في هذا الصدد هي أن نتساءل: من هم الأقوياء والضعفاء في كلتا الحالتين؟ إن الأقوياء عند نيتشه هم «الممتازون بطبيعتهم»، أما عند ماركس فهم الطبقة المسيطرة اقتصاديا وبالتالي سياسيا، وهذا اختلاف أساسي، اختلاف «الطبيعة» عن «العرف»، إن جاز أن نستخدم هذا التقابل المشهور لدى فلاسفة اليونان؛ فالأقوياء عند نيتشه هم أصحاب الامتياز الكامن، الذين تؤهلهم طبيعتهم لأن يسيطروا، أما عند ماركس فامتيازهم يرجع إلى وضع اجتماعي معين، لا إلى أية صفات كامنة فيهم، وفي مقابل ذلك فإن الضعفاء عند ماركس هم المضطهدون الذين كان يمكن أن يصبحوا أفرادا ممتازين لو أتيحت لهم الفرصة، وكل ما في الأمر أن ظروفا خارجة عن إرادتهم وضعتهم في مركز الضعف، ولكن الأمل في خلاص البشرية كلها منعقد على ثورتهم، أما عند نيتشه فإن الضعفاء «وضيعون» بطبيعتهم، وضعفهم ذاته يولد فيهم شرا كامنا، وربما كان هو ذاته متولدا عن الشر الكامن فيهم.
وعلى أساس هذا الإيضاح نستطيع أن نضع مشكلتنا الأصلية بصورة أكثر تحددا، فنقول إن الضعفاء - في رأي نيتشه - يخشون سطوة الأقوياء الذين هم بطبيعتهم ممتازون، ويبغضون كل ما هو رفيع وكل ما يبرز فوق المستوى العادي «للمجموع»، فيصطنعون نظاما من الأخلاق يكفل الحد من هذه السيطرة، والقضاء على كل امتياز طبيعي؛ نظاما يدعو إلى «العطف» و«المشاركة» و«الرحمة » وغيرها من القيم التي لا تهدف - آخر الأمر - إلا إلى حماية الضعفاء من الأقوياء بانتزاع مخالبهم، إنهم ينشرون قيم «الكثرة» و«المجموع»؛ لأنهم يخشون «الفردية» التي تكشف ضعفهم، وتجعلهم يبدون أقزاما. أما ماركس فيرى - على العكس من ذلك - أن الأقوياء المسيطرين هم الذين يعملون على نشر أخلاق الاستكانة والرضا والزهد لكي يضمنوا سكوت المضطهدين ورضاءهم بالظلم الواقع عليهم. إنهم يحتمون وراء هذه الأخلاق ويستترون خلفها؛ لأنها تدفع عنهم نقمة المظلومين، وتسلبهم روح الثورة، فهل تقدمنا بعد هذه الخطوة كثيرا إلى الأمام؟ إن التضاد أصبح أكثر وضوحا بلا شك، ولكن حدته لم تخف على الإطلاق، فما زلنا نعجب كيف جعل أحد المفكرين من الأخلاق وسيلة للحد من ثورة الأقوياء، وجعلها الآخر وسيلة للحد من ثورة الضعفاء، وما زال الموقف في عمومه وفي تفصيلاته محيرا كما كان منذ البداية.
فلقد قلنا من قبل إن نيتشه وماركس متفقان في موقفهما إزاء المسيحية، ولكن هل هما متفقان إلى الحد الذي بدا لنا للوهلة الأولى؟ إن المسيحية عند نيتشه تقيم نوعا من المساواة المصطنعة بين الناس «فالكل إزاء الله سواء»، وهي على هذا النحو تكبل الامتياز الطبيعي وتقضي على القيم الأرستقراطية، التي تقوم على الشعور بالترفع عن العامة والوقوف بمبعدة عنهم. وعلى العكس من ذلك يتهمها ماركس بأنها تتستر على الفوارق الطبقية واللامساواة الاجتماعية، وتدافع عن التفاوت بين الناس، بل إنها حين تجعل هذا التفاوت أمرا مقدرا بقوة إلهية، تعمل في واقع الأمر على تثبيته وجعله منتميا إلى «طبيعة الأشياء»، وليس هناك تضاد أقوى مما يعبر عنه هذان الموقفان، ويترتب على ذلك أن القيم الواحدة تتخذ في كلا الموقفين دلالة مختلفة كل الاختلاف؛ فالزهد واحتقار الجسد والعالم الأرضي هي عند نيتشه أخص صفات أخلاق الضعفاء، وهي وسيلتهم إلى إثبات وجودهم إزاء تفوق الأقوياء، أما عند ماركس فهي سمة أساسية لأخلاق الأقوياء والحاكمين يفرضونها على المحكومين ليضمنوا خضوعهم وسكوتهم، وفكرة الازدواج بين عالمين - عالم فان وعالم أزلي - هي في رأي نيتشه سمة مميزة لأخلاق العبيد، بينما هي عند ماركس أداة هامة من الأدوات التي يسيطر بها أصحاب السلطان على المعدمين والمحرومين.
إنه إذن تضاد كامل في النظر إلى نفس القيم، ولا بد لهذا التضاد من تفسير، ولا جدال في أن هناك تفسيرا ألح على ذهن القارئ - طوال العرض السابق - هو أن هذا التضاد تعبير عن تعارض أساسي بين فلسفتين: إحداهما أرستقراطية والأخرى ديمقراطية بطبيعتها؛ فنيتشه من حيث هو مفكر يتجه بطبيعته إلى تأكيد الفوارق بين الأذهان، ويعجب بكل ما هو فخور مترفع متكبر يتعالى على «المجموع»، ويعيش في القرن التاسع عشر بروح مفكر أرستقراطي ينتمي إلى العصر التراجيدي اليوناني، كان لا بد أن يحمل بكل قواه على نفس القيم التي أعلاها ورفع من قدرها مفكر مثل ماركس، تتجه دعوته قبل كل شيء لصالح الجماعات لا الأفراد، ويرى أن رسالة الفكر هي تغيير المجتمع البشري من «الطبقية» إلى «اللاطبقية»، ويؤمن بأن الأمل في تحقيق هذه الرسالة معقود على نفس الطبقات المضطهدة ذات المصلحة في هذا التغيير.
ولكن هل يكفي هذا التفسير، الذي يرجع التضاد بين آراء هذين المفكرين في الأخلاق إلى التعارض الأساسي في مزاجهما وفي اتجاههما الفلسفي العام؟ هل ينبغي أن نطمئن تماما إلى هذه النتيجة، ونحكم بأن نيتشه وماركس قد وصلا إلى رأيين متنافرين في مصدر القيم الأخلاقية وفي الغاية التي تستهدفها هذه القيم؛ لأن نظرة كل منهما إلى العالم كانت مختلفة، وموقف كل منهما إزاء مشكلات العصر كان متباينا؟ في اعتقادي أننا قد نستطيع أن نحل بهذا التفسير جزءا من المشكلة، ولكن الجزء الأكبر منها يظل مع ذلك قائما دون حل؛ ذلك لأن نيتشه وماركس لم يكونا يعبران فقط عما يفضلانه، وعما يودان أن تكون عليه الأمور، بل كانا يصفان أيضا ما هو واقع بالفعل؛ ففي كل ما عرضناه قبل الآن من آراء، كان هذان المفكران يتخذان موقف العالم الذي يستقرئ تاريخ القيم الأخلاقية البشرية ليصل من هذا الاستقراء إلى حكم على تطورها الماضي واتجاهها في المستقبل، ولو كان كل منهما قد اقتصر على التعبير عما يتمنى أن تكون عليه القيم الأخلاقية؛ لجاز عندئذ أن يكون في اختلاف مزاجهما الفكري تفسير كاف للتعارض الأساسي في وجهتي نظرهما، ولكنهما كانا يتحدثان أيضا من وجهة نظر الواقع لا المثل الأعلى، وكان كل منهما يحاول أن يجيب - بطريقة الباحث العالم لا بطريقة المتأمل الحالم - عن سؤالنا الأساسي: «من الذي صنع الأخلاق؟» فكيف تعارضا إلى هذا الحد في وصف ظاهرة واحدة؟ إننا نسلم بأن مزاج المفكر واتجاهه الفكري العام له - دون شك - دوره حتى عندما يتخذ المرء لنفسه هدف الوصف المجرد، لا عندما يحلم بما يتمنى تحقيقه فحسب، ومن المؤكد أن الموضوعية الكاملة في هذا المجال مستحيلة، وأن تصور كل منا لما ينبغي أن يؤدي إليه التطور في المستقبل يتحكم - إلى حد ما - في تشكيل نظرته إلى ما حدث في الماضي وما يحدث في الحاضر، ولكنا نقول: «إلى حد ما»؛ لأن هذا التأثر بالاتجاه الفكري الذاتي يمكن أن يحدث نوعا من التباين بين المفكرين حين يصفان ظاهرة واحدة، ولكنه لا يكفي لإيجاد تناقض كامل بين أوصافهما هذه؛ ولهذا قلنا من قبل، إننا قد نستطيع أن نحل بهذا التفسير جزءا من المشكلة، ولكن الجزء الأكبر منها يظل بلا حل. •••
أما التعليل الصحيح لهذا التضاد فيكمن - في رأيي - في حقيقة أساسية ينبغي أن تتضح للأذهان بصدد كل أخلاق، وهي أن من يصنعها ليس هو بالضرورة من يستخدمها أو يطبقها في حياته، بل إنه قد يصنعها لكي يطبقها طرف آخر مغاير له تماما، بحيث لا تكون القيم عندئذ تعبيرا عن المصدر الذي أتت منه، بل تعبيرا عن الطرف الذي تتجه إليه، ولنقل بتعبير آخر، إن كل أخلاق مسيطرة تخلق أخلاقا أخرى نقيضة لها، توجهها إلى من تمارس عليهم هذه السيطرة، فإذا كانت العلاقات في فترة معينة علاقات قوة واستغلال واضطهاد، فإن القيم التي تنتشر على أوسع نطاق لا تكون عندئذ قيم القوة والسيطرة، بل قيم الخضوع والاستكانة، أو لنقل - مستخدمين تعبيرات نيتشه - إن العصر الذي يسيطر عليه «السادة» ليس هو عصر أخلاق السادة كما توهم، بل هو عصر أخلاق العبيد؛ لأن أيسر طريق يضمن للسادة الاحتفاظ بتميزهم وتفوقهم هو أن تنتشر «أخلاق العبيد».
ولنطبق هذا الحكم العام على فترات محددة في تاريخ الأخلاق كما حدد معالمه نيتشه؛ لنرى إلى أي حد تختلف الصورة التي تتكون نتيجة لهذا التطبيق عن الصورة التي رسمها نيتشه.
فالمجتمع اليوناني الكلاسيكي كانت تسوده - في نظر نيتشه - قيم السادة وأخلاق الأقوياء، ولكن إذا صح هذا فكيف نستطيع أن نفسر أن الاتجاه الأخلاقي الرئيسي عند سقراط وأفلاطون - وأرسطو إلى حد ما - كان اتجاها تظهر فيه معاني الزهد وإعلاء القيم الروحية - بمعناها التجريدي المنفصل عن العالم المادي - فوق كل ما عداها من القيم؟ كيف نفسر قول أفلاطون «أو سقراط» إن «الجسم مقبرة النفس»، وتأكيد أرسطو أن الحالة المثلى لحياة الإنسان هي حالة التأمل العقلي المجرد؟ إن هذه - دون شك - سمات أساسية لما يسميه نيتشه بأخلاق العبيد، فكيف يحل هذا التناقض؟ إن الحل الوحيد الذي يهتدي إليه نيتشه هو أن يعد تيار سقراط وأفلاطون وأرسطو - هذا التيار الرئيسي في الفكر اليوناني - شذوذا يخرج عن طبيعة الروح اليونانية، وهكذا يخفق في الربط بين أقوى اتجاه فكري في المجتمع اليوناني وبين «أخلاق السادة» التي رآها مميزة لهذا المجتمع، وتعليل هذا الإخفاق هو أنه يأخذ الأخلاق حسب قيمتها الظاهرة، أما لو طبقت عليها القاعدة العامة التي أوضحناها من قبل، وهي أن كل أخلاق مسيطرة تخلق نقيضها؛ لأصبح كل شيء واضحا ومتسقا؛ فأخلاق هؤلاء الفلاسفة هي بدورها أخلاق للسادة، ولكنها خلقت نقيضها؛ فإلى جانب دعوتهم إلى الزهد واحتقار الجسد، هناك تبرير لنظام الرق ومحاولة لإثبات أنه ينتمي إلى «طبيعة الأشياء»، وتلك في صميمها أخلاق الطبقة المسيطرة المنتفعة بهذا النظام، إن السادة يدافعون عن النظام الذي يكفل لهم عبيدا يخدمونهم، ولكنهم - بوصفهم سادة - لا يمكن أن يقفوا ليعلنوا صراحة قيم الاستعلاء والكبر والتفوق والامتياز، بل إنهم ينشرون أخلاق الزهد؛ لأنها كفيلة بتغطية الامتهان الأساسي للإنسان، الذي دافعوا هم أنفسهم عنه وحرصوا على تبريره.
ولننتقل إلى مرحلة أخرى في تاريخ الأخلاق، وهي مرحلة الأخلاق اليهودية المسيحية. إن نيتشه يصف هذه المرحلة بأنها انتصار لأخلاق العبيد، أخلاق الشفقة والمحبة والرحمة والمساواة التي ينتزع بها الضعفاء مخالب الأقوياء، ولكن هل كانت هذه التعاليم بعينها هي التي سادت بالفعل مجتمع العصور الوسطى؟ ألم يكن الإقطاعيون والبابوات وكبار رجال الكنيسة يمارسون أشد أنواع الاضطهاد على عامة الناس، وينعمون بامتيازاتهم وتفوقهم؟ ألم يكونوا بالفعل «سادة» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان؟ ألم تكن أخلاق العبيد - في هذه الحالة - مجرد نقيض يخلقه السادة لكي يحتفظوا بسيطرتهم؟ إن نيتشه ذاته ينبهنا إلى ذلك الانقلاب في القيم، الذي بدأ بالديانة اليهودية، واستمر في المسيحية، والذي كان انقلابا ضد الأرستقراطية الوثنية، في هذا الانقلاب أصبح هناك تكافؤ في المعنى بين ألفاظ: الغني والقوي والشرير والفاجر، وتكافؤ آخر بين الضعيف والطيب والقديس، ويفسر نيتشه هذا التحول في القيم بأنه مظهر لأخلاق «العبيد»، ولكن هل العبيد بالفعل أصحاب المصلحة في هذه القيم الجديدة؟ وهل تعد هذه القيم تعبيرا عن انتصارهم؟ لا شك أن نيتشه كان ساذجا حين تصور ذلك، ولو تعمق فيما وراء السطح الخارجي لهذه الظاهرة لوجد أن الأمر على عكس ما اعتقد؛ فحين تقول إن الغني والقوي هو الشرير والفاجر، تريد إبعاد الناس عن الغني، وبث النفور في نفوسهم منه، حتى لا يطمعوا في أن يحققوا الغنى أو القوة في أنفسهم، وحتى يتركوا الغني وشأنه (وكفاه عقابا أنه شرير وفاجر، وأن العذاب الأبدي ينتظره في العالم الآخر)، فأنت إذن تحمي الغني والقوي بطريق غير مباشر، وحين تقول إن الفقير والضعيف هو الطيب والقديس، تعني بذلك أن الفقر والضعف حالة مثلى ينبغي الرضا بها، بل السعي إليها، وبذلك تشجع الفقير على أن يظل فقيرا، أليس هذا بعينه هو ما يريده «السادة»؟ لنتأمل صورة كاهن العصور الوسطى وهو يعظ الناس بالزهد في متاع الدنيا، ويمنيهم بحياة أبدية ينعمون فيها بكل ما حرموا منه في هذا العالم ... هذا الكاهن الذي هو ذاته قوي مسيطر يستمتع بعيش رغد ، ويعيش من كد الآخرين، أهو يتحدث عندئذ بلسان السادة أم بلسان العبيد؟ ألم يكن مصدر الخطأ - في هذه الحالة بدورها - أن نيتشه أخذ الأخلاق بقيمتها الظاهرية، ولم يفرق بين أولئك الذين صنعوا الأخلاق وأولئك الذين تخاطبهم هذه الأخلاق وتوجه إليهم؟
Неизвестная страница