فدقت المرأة يدا بيد وصاحت بعناد: هذا هو، من يشارط منكم؟
وكان هو، ما عليه غير ثياب عتيقة، وفي يده حقيبة رثة فاضية، أغناه البيش، وأفقرته البورصة.
حردان
قال الراوي: كان عهدي به مد النهار كالذي صرعه عنترة في حومة الموت، فإذا بذاك الشحم قد ذاب، وأمسى قليلا ظله ... كان ذا قفا كالطبل، فإذا به لا يرج ولا يمور. كان يلبس الألبكا صيفا، والصوف المارينوس شتاء، فكنت إذا ما رأيته منتصبا تخاله عدلا قنطاريا من الشعر يستوعب مئونة البيت من القمح. لقد دق جناب «البيك» واسترق، فماج في ثوبه الرحراح حتى يحسبه الرائي أنه مستعار وليس لجنابه أصلا.
كدت أنكره حين بادرني بالتحية، ولكن نبرة خاصة في صوته لا تزال ترن في أذني منذ سنتين ذكرتني به. أما الوجه الذي يحمله اليوم فلم أستطع فك مشاكله ولا حل رموزه الهيروغليفية إلا على ضوء صوته، كان ذا عينين تقاومان المخرز، فإذا بهما ذابلتان تشتكيان حتى ضوء النهار الغائم، وكان ذا وجه مرح طروب فإذا به كوجه طفل يتهيأ للبكاء، تكرش وجهه واتسع فمه كمغارة الضبع، وشاء أن يحذف بضع صفحات من سجل عمره فأحفى شاربيه فتبشع، وبان العيب الفاضح في عنوان كتابه.
أدهشني منه أن يستولي على المبادرة في التحية بعد أن كان لا يردها. كنت في الأمس أسيج الطريق بقدي الممشوق، ووجهي الصبوح، أستعد على ابتسامة تقيد الأوابد، ولكن البيك، في عز سلطانه، كان يفر من المأزق كالغزال الشارد، لا يرعوي لروعة حسن ولا لسحر جمال ... فأقعد آسفا على لحظة محيية أفلتت مني ... فليس رد تحية وبشة قليلة من موظف كبير بالأمر الهين.
وازداد عجبي حين قال لي: تفضل أين تستريح؟ ثم جرني معه جرا إلى أول قهوة، وانزوينا.
قعد سيدنا البيك ولكنها قعدة قلقة مقلقة، فكأن سعادته على شوك، نفيخ وفحيح، تنهد وتأفف، أتطلع فأرى شعرات جفنيه «البشيريين» واقفة على سلاحها، استعداد وتأهب في مناطق الوجه كلها، يريد جنابه أن أفتح أنا الحديث، فأخذ يلقي شباك نظراته ويغمرني بالتفاتات معناها: تكلم، فتجاهلت غمزاته وومضاته.
وانتقل مولانا إلى إيه، ونعم، ولكني ظللت معتصما بالصمت والتجاهل، فاضطر إلى إلقاء الدرر وقال لي: من أين جاءك هذا السكوت؟ أعرف أن لسانك يلحس أذنيك.
فأجبته: علمنا الجدود أن السكوت من ذهب.
Неизвестная страница