وقلت وأنا أبدي التأثر: أنا معك في هذا. إنه مخطئ بلا شك. هذا استبداد. - ولهذا طلقته!
قالتها وهي مرتاحة الضمير، كأنما وجدت من يفهمها. وانتظرت أنا حتى انتهى صفير القطار، فقلت: مساكين هؤلاء الرجال! تصوري زوجك هذا مثلا، لا شك أنه كان يحبك. - يحبني؟! إنك لا تتصور كيف كان يحبني، لو قلت إنه كان يعبدني لما أخطأت التوفيق، لكن ما العمل؟ لو لم يكن عنيدا!
وقلت متحمسا: وها هي نتيجة العناد، أن يفقد فينوس ويخرج من الجنة، ولم كل ذلك؟ لأنه أصر على أن يحبس العصفور، ويقف خارج قفصه الذهبي ليسمع تغريده ... كان يجب عليه أن يفعل العكس، أن يغلق على نفسه القفص، ويطلق العصفور ليغرد حيث شاء!
ولكني لم أتم كلامي؛ فقد انقلب اطمئنانها إلى نظرة غاضبة، وقالت مستنكرة: ماذا؟! هل تسخر مني؟! إني لم أقل إني أريد وضعه في القفص. - لكنك قلت! - أنا؟! - أجل، ألم يغضبك أنه لم يعد يستمع إليك؟ الذي أثارك هو أنك لم تعودي الآمرة، وأصبح هو الآمر ... المسألة إذن خلاف على السيادة! - بل على الحرية، المساواة التي قيل إننا نلناها. - تستمتع بها، وتفيد منها الإنسانية. - أبدا، إنها ستبحث عن مطالب جديدة. - ؟! - منذ خمسة وعشرين عاما، عندما خلع عنها الحجاب، ونزلت إلى الطريق، وقيل لها أنت حرة ... قولي شيئا، افعلي شيئا، أتعلمين ماذا فعلت؟! أخذت تطلب أشياء أخرى، من يومها إلى الآن لا تفعل شيئا إلا أن تطلب، وتطلب، وتطلب، في كل مناسبة وبلا مناسبة، لم تخرج عن دورها الدائم في مواجهة الرجل؛ دورها الخالد «هات لي» هي بنفسها أمنا حواء، حين أرهقت أبانا آدم بالمطالب، حتى على أبواب الدنيا لم تغلق فمها لحظة واحدة لتندم على ما جرته عليه حماقتها من متاعب، لا شيء إلى الآن استطاع أن يغلق فم المرأة عن المطالب.
وكدت أن أستمر لولا ضحكة عالية بهت لها ... إنها فينوس نفسها التي تضحك ... لا أذكر أني قلت شيئا يثير الضحك، ومع ذلك فقد مضت في الضحك، على حين ظللت أنا مبهوتا. - استمر يا أستاذ، استمر. - كلامي لا يروقك؟ - أبدا، إنني لم أسمع نصيرا للمرأة في مثل حماستك، أتعرف أن المرأة لا تطلب شيئا، إلا أن تنتصر آراؤك؟ - لا أفهمك؟ - قل لي أولا: أتختلفان كثيرا أنت وسنية؟ - لا كثيرا ولا قليلا. - كيف؟ ألا تطلب منك شيئا؟ - لم تطلب مني؟ ... إن لها في كل شيء مثل ما لي، أنا بالعكس الذي أرهقها بمطالبي! - اتفقنا يا أستاذ! - علام؟ - على أن ما تطلبه من المرأة، هو ما أطلبه أنا لها ... أن لا يملك الرجل شيئا لا تملكه هي، فتضيع الوقت في طلبه ... ألم تقل إن سنية لم تطلب شيئا منك لأن لها مثل ما لك؟ هذا ما كنت أطلبه أنا أيضا ... لقد ذكرت القفص الذهبي، أتدري ماذا كنت أريده بثورتي على هذا القفص؟ - أن تخرجي منه؟ - مع شرط هين! - ما هو؟ - أن يتحطم بعد خروجي منه توا. - أكاد لا أفهمك أيضا. - بل تفهمني جيدا ... كل ما يشوب أفكارك هو أنك لا تفهم الحياة بغير قفص ذهبي، وبغير عصفور حبيس، رجلا كان أو امرأة، هذا هو كل ما يشوه أفكارك.
كان القطار قد وصل إلى مشارف دمنهور، وتهيأت فينوس للنزول، فأخذت تصلح زينتها ... كانت كما رأيتها آخر مرة على درج الكلية وهي تهبط حاملة في أذيال ثوبها آمال أكثر من طالب، فقلت مداعبا: عفا الله عن صاحبنا الذي أسماك فينوس!
قالت وهي تبتسم: وماذا كنت تريد أن يسميني؟ - كنت أوثر أن يكون اسمك حواء، حواء التي لا تقهر.
رجل نبيل
عندما عرفت الأستاذ منصور، لم يخالجني شك في أنني سأنسى كل شيء عنه في اللحظة التي ينصرف فيها ، فلم يكن فيه ما يبعث على الاهتمام؛ لا في وجهه بقسماته المعتدلة، ولا في صوته الهادئ الوتير، حتى اسمه بألفاظه الثلاثة المألوفة، منصور محمد حسن، كان من الأسماء التي يمكن أن تنسى بسهولة، فإن لم تنس فلا بد أن تختلط ويصعب ارتكاز الذاكرة على لفظ واحد منها.
وقد صح ما توقعته عندما لقيته في المرة الثانية بعد شهور؛ ففي الوقت الذي لقيني فيه بحرارة وشوق، صافحته أنا ببط محاولا أن أذكر وجهه، وما كدت أذكر أن هذا الوجه أعرفه حتى نشأت مشكلة الاسم، ولو لم تسعفني الذاكرة بإحدى كلمات اسمه لظللت صامتا، أهز يده، أو أستجيب بيدي لهزات يده في بلاهة، دون أن أنطق بحرف واحد.
Неизвестная страница