ثانيًا: نشأة علم مصطلح الحديث:
إن نشأة علم مصطلح الحديث كنشأة العلوم الإسلامية، تكون مبثوبةً في القرآن الكريم والسنة النبوية وفعل أصحاب النبي ﷺ ورضي عنهم، ثم بعد ذلك يتم استنباطها وتقعيدها على مر السنين حتى تتشكل ملامح ذلك العلم بأصوله وفروعه ومصنفاته.
وبعض أصول المصطلح قد أرشد الله سبحانه إليه، كما في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [سورة الحجرات: الآية ٦].
قال ابن كثير: " يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون -في نفس الأمر-كاذبا أو مخطئا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون". (١)
وكما بيَّن سبحانه في كتابه عدالة صحابة رسول الله ﷺ، وهو نوعٌ من أنواع علم المصطلح مستقلٌ جعله أهل هذا العلم في مبحث خاص، قال الخطيب البغدادي: "عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] ". (٢)
وفي باب اتصال السند وأهمية الإسناد، استنبط بعضهم أصلَ ذلك من كتاب الله تعالى، فقد أسند الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" عن مَطَر الوراق في قوله تعالى: ﴿ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤]، قال: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ يعني: إسناد الحديث. (٣)
وفي باب آداب أهل الحديث، يذكر العلماء مسألة نفعِ طلبةِ العلمِ بعضهم بعضًا وإعارةِ الكُتُب لمن احتاجها وكان أمينًا، ولهم في ذلك استنباط من كتاب الله تعالى، قال السيوطي: " قد ذم الله تعالى في كتابه مانع العارية بقوله: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون: ٧]، وإعارة الكتب أهم من الماعون". (٤)
وغير ذلك من قواعد علم المصطلح المستفادة من القرآن الكريم.
_________
(١) تفسير القرآن العطيم ٦/ ٧٠٧
(٢) الكفاية في علم الرواية، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣ هـ)، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، دمشق - بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى ١٤٣٠ - ٢٠٠٩، ص ٥٨
(٣) انظر: شرف أصحاب الحديث، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣ هـ)، تحقيق: الدكتور محمد سعيد خطيب أوغلي، القاهرة، مؤسسة تبوك للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة ٢٠١٢، ص ٣٩
(٤) تدريب الراوي ١/ ٥٢٤
1 / 9