يبدو أن الشباب، الذين ينمو إلى علمهم أن علاقة السيدتين ترجع إلى ما يربو على ثلاثة أرباع قرن من الزمان؛ يتخيلون أن هذه الرفقة المديدة تعني أن كل شيء بينهما مشترك. فهاتان السيدتان هما الوحيدتان اللتان تذكران ما كان يفصل إحداهما عن الأخرى، وما زال يفصلهما نوعا ما حتى الآن: الشقة التي تقع أعلى مكتب البريد والجمارك، حيث عاشت السيدة كيد مع أمها وأبيها الذي كان مديرا لمكتب البريد؛ والمنزل المستقل الملتصق بصف من المنازل المشابهة، والمطل على شارع نيوجيت، الذي عاشت فيه السيدة كروس مع والديها وأختيها وإخوتها الأربعة الذكور، وحقيقة أن السيدة كيد كانت تتردد على الكنيسة الأنجليكانية بينما ترددت السيدة كروس على الكنيسة الميثودية، وزواج السيدة كيد في الثالثة والعشرين من عمرها من مدرس علوم بمدرسة ثانوية، وزواج السيدة كروس في السابعة عشرة من العمر من رجل يعمل على قوارب البحيرة ولم يترق أبدا لرتبة كابتن. إضافة إلى أن السيدة كروس أنجبت ستة أطفال، بينما أنجبت السيدة كيد ثلاثة فقط. توفي زوج السيدة كروس فجأة في الثانية والأربعين من عمره ولم يكن لديه تأمين على الحياة، وتقاعد زوج السيدة كيد وانتقل للعيش في مدينة جودريتش، وحصل على معاش بعد سنوات من تقلده منصب مدير المدرسة الثانوية التي تقع في مدينة قريبة. ولم تتقلص الفجوة بين الصديقتين سوى مؤخرا؛ فقد حقق أبناؤهما المعادلة؛ أبناء السيدة كروس يكسبون دخلا موازيا في المتوسط لدخل أبناء السيدة كيد، مع أنهم لم يحصلوا على تعليم مواز؛ بينما يجني أحفاد السيدة كروس أموالا أكثر.
تقيم السيدة كروس في دار هيلتوب هوم للرعاية (والترجمة العربية لاسم هذه الدار «قمة التل») منذ ثلاث سنوات وشهرين، بينما تقيم السيدة كيد فيها منذ ثلاث سنوات إلا شهرا واحدا. وتعاني كل منهما من مشكلات في القلب، وكلتاهما تتنقل على كرسي متحرك منعا لإهدار طاقتهما. وخلال حوارهما الأول في الدار، قالت السيدة كيد: «لا أرى أية قمة تل.»
أجابتها السيدة كروس: «تستطيعين رؤية الطريق السريع من هنا. أعتقد هذا هو قصدهم من تسمية الدار بهذا الاسم. أين نزلت؟» «أكاد لا أعرف ما إن كنت سأستطيع الاستدلال على طريق العودة إلى غرفتي. ولكنها غرفة جميلة بغض النظر عن مكانها. غرفة فردية لا يشاركني في أحد.» «هكذا غرفتي أيضا. لدي غرفة فردية. هل غرفتك في الجانب الآخر من غرفة الطعام أم في هذا الجانب؟» «على الجانب الآخر.» «هذا رائع! هذا أفضل جانب؛ فالجميع بصحة جيدة في هذا الجانب، وإن كانت تكلفته أعلى. كلما كانت حالتك الصحية أفضل، زادت التكلفة. يسكن غرف الجانب الآخر من غرفة الطعام أولئك الذين فقدوا عقلهم.» «المصابون بالخرف؟» «نعم، الخرف. في هذا الجانب يعيش النزلاء الأصغر سنا، الذين يعانون من حالات شبيهة بأمراض الشيخوخة. هذا مثلا.» وأومأت برأسها باتجاه رجل مصاب بالعته المغولي، في زهاء الخمسين من عمره، كان يحاول العزف على الهارمونيكا. نقرت على رأسها وأضافت: «في الجانب المخصص لنا، لدينا نزلاء أصغر سنا، لكنهم لا يعانون من أية مشكلات عقلية. مجرد مرض ما. عندما يصل الأمر بهم إلى العجز عن رعاية أنفسهم، فإنهم ينقلون إلى الدور العلوي؛ فهنالك يودعون أصحاب الحالات الحرجة. أما المجانين فهم قصة أخرى؛ حيث يحبسونهم في الجناح الخلفي. هؤلاء هم المجانين بحق. أعتقد أيضا أن ثمة مكانا مخصصا للذين يتحركون بدون مشكلات لكن يعانون من التبول والتبرز اللاإراديين طوال الوقت.»
قالت السيدة كيد بابتسامة يشوبها بعض الانزعاج: «نحن الصفوة إذن . كنت أعلم أنني سأجد الكثير من الخرفين هنا، لكنني لم أكن أتوقع أن أجد آخرين، كهذا على سبيل المثال.» وأومأت برأسها بحذر باتجاه مريض العته المغولي الذي كان يرقص أمام النافذة رقصا نقريا. وعلى العكس من أغلب المصابين بالعته المغولي، كان هذا الرجل نحيلا ورشيق الحركة، وإن كان شديد الشحوب ويبدو عليه الوهن.
قالت السيدة كروس إذ لاحظته: «إنه أسعد من أغلب النزلاء. هذا هو المكان الوحيد في المقاطعة الذي يلقى فيه بكل ذوي الحاجات. لكنك بعد فترة قليلة ستكفين عن الانزعاج.» «أكف عن الانزعاج!» •••
كانت غرفة السيدة كيد تعج بالصخور والقواقع المعبأة في صناديق وقوارير، كما كان لديها صندوق يحوي فراشات محنطة هشة، وآخر يحوي طيورا مغردة محنطة. وتحوي أرفف كتبها كتبا مثل «سراخس وطحالب أمريكا الشمالية»، و«دليل بيترسون لطيور شرق أمريكا الشمالية»، و«كيف تعرف الصخور والمعادن»، وكتاب عن خرائط النجوم. وكان صندوق الفراشات والطيور المغردة المحنطة معلقا في وقت من الأوقات في الفصل الدراسي لزوجها مدرس العلوم؛ فقد اشترى الطيور المغردة، ولكنه هو والسيدة كيد كانا يعشقان جمع الفراشات بأيديهما. وكانت السيدة كيد طالبة بارعة في علم النباتات وعلم الحيوان. ولو لم تكن تعاني مما كان يعرف أيامها بحالة صحية معتلة، لدرست علم النبات بإحدى الجامعات، مع أن قليلا من الفتيات أقدمن على مثل هذه الخطوة آنذاك. ولذا يرسل لها أبناؤها الذين يعيشون في مناطق نائية كتبا جميلة عن موضوعات يوقنون بأنها ستروق لها، لكن أغلب هذه الكتب ضخمة وثقيلة الوزن فلا تجد سبيلا لتصفحها بطريقة مريحة، فسرعان ما تطرحها في أدنى رف. ولكنها لم تكن لتعترف لأبنائها بأن اهتماماتها خبت وتلاشت إلى حد بعيد. كانوا يقولون لها في خطاباتهم إنهم يذكرون كيف علمتهم كل شيء عن عيش الغراب؛ هل تذكرين عندما رأينا فطر الأمانيت السام (ملاك الهلاك) في أدغال بيتري خلال الفترة التي عشناها في لاجون؟ وكانت خطاباتهم تفوح منها رائحة الذكريات. كان هؤلاء الأبناء الذين يجري بهم قطار العمر يريدون أن تركن أمهم إلى ما كانت عليه منذ أربعين أو خمسين عاما؛ فكان لديهم تصور عنها لا يقل عشقا وأهمية عن أي تصور لدى أي والد عن أطفاله؛ كانوا يحتفون بما تتمتع به ويسمى عند الأطفال النضج المبكر: إشراقها وعشقها للمعرفة وإلحادها (وهو السر الذي دام طوال الفترة التي كان فيها زوجها مسئولا عن تنمية عقول الصغار)، وكل الجوانب التي تختلف فيها عن أي عجوز عادية. ومن ناحيتها، كانت تشعر أن من واجبها أن تخفي عنهم الأمارات الكثيرة التي تشي بأنها ليست شديدة الاختلاف عن أقرانها؛ عكس ما يظنون.
كانت السيدة كروس أيضا تستقبل الهدايا من أبنائها، لكنها لم تكن كتبا. فأفكارهم تهديهم إلى الحلي والصور والوسادات. فمثلا، تحتوي غرفة السيدة كروس على باقة من الزهور الصناعية التي تحتوي بداخلها على مصابيح ضوئية تشع أنوارها بالتدريج لأعلى وكأنها نافورة مياه. ولديها أيضا دمية على شكل امرأة أنيقة من الجنوب الأمريكي، تشكل تنورتها المصنوعة من مادة الستان وسادة للدبابيس. ولديها صورة للعشاء الإلهي يصدر منها ضوء ليصنع هالة حول رأس المسيح (كتبت السيدة كيد - بعد زيارتها الأولى - رسالة إلى أحد أبنائها وصفت فيها الصورة، وقالت إنها حاولت أن تستنتج الطعام الذي كان يتناوله المسيح وحواريوه، وتبين لها أنهم يتناولون شطائر الهامبرجر. وكم يطيب لأبنائها سماع مثل هذه الأشياء منها). وهناك أيضا إلى جوار الباب تمثال من الجص بالحجم الطبيعي لكلب من كلاب حراسة الغنم، يشبه كلبا كان لدى عائلة كروس عندما كان الأبناء صغارا، يدعى بوني العجوز. وكانت السيدة كروس تعرف أسعار هذه الهدايا من أبنائها وتعلم الناس بها، وتقول إنها مصدومة من سعرها المرتفع.
بعد وصول السيدة كيد بفترة وجيزة، اصطحبتها السيدة كروس في زيارة إلى الدور الثاني. وقد اعتادت السيدة كروس على الذهاب إلى الدور الثاني كل أسبوعين لزيارة ابنة عمتها؛ ليلي باربر العجوز.
حذرت السيدة كروس السيدة كيد بينما كانتا تشقان طريقهما على الكرسيين المتحركين باتجاه المصعد قائلة: «ليلي ليست بصحة جيدة. وثمة شيء آخر، المكان لا يعبق برائحة عطرة مع أنهم حريصون كل الحرص على رش المكان بمعطرات الجو. إنهم يبذلون قصارى جهدهم.»
أول شيء وقعت عليه عينا السيدة كيد فور أن خرجتا من المصعد امرأة صغيرة البنية كثيرة التجاعيد شيباء الشعر شعثاء، ترتدي فستانا مغضنا حتى إنه انحسر لأعلى وكشف عن ساقيها (فأشاحت السيدة كيد بوجهها عن هذا المنظر)، وتدلى لسانها بطريقة أوحت لها أنها تعجز عن استعادته داخل فمهما. كانت الرائحة الفواحة خليطا من رائحة بول ساخن - لدرجة أن المرء قد يظن أنهم وضعوه بالفعل على الموقد - ومعطرات جو برائحة الزهور. لكن كانت هناك امرأة أخرى رقيقة المحيا تبدو عليها الحكمة والقدرة على التمييز، ترفع شعرها في شكل كعكة وترتدي مئزرا فوق ثوب وردي نظيف.
Неизвестная страница