يتسم الأسبوعان اللذان يسبقان عيد الميلاد بسرعة الإيقاع في حظيرة الحبش. بدأت أذهب إلى الحظيرة مدة ساعة قبل المدرسة، وكذلك بعد المدرسة، وخلال عطلات نهاية الأسبوع. في الصباح، عندما كنت أسير متجهة إلى العمل، كنت أجد أضواء الشارع لا تزال مضاءة والنجوم ساطعة في السماء. كانت حظيرة الحبش تقع على حدود أحد الحقول، وخلفها صف من أشجار الصنوبر الضخمة، ودائما - مهما كان الجو باردا وخاليا من الرياح - كانت هذه الأشجار سامقة تمد فروعها ويسمع حفيفها. وبينما أنا في طريقي إلى الحظيرة لأقضي ساعة في استخراج أحشاء الديوك، كان مستبعدا أن يساورني الأمل في الغد أو ينتابني الشعور بغموض الكون التام الذي لا سبيل إلى فهمه، لكني أحسست بهما. وكان لهيرب علاقة بهذا، وكذلك موجة الطقس البارد - تلك السلسلة من الصباحات الصافية القاسية. الحقيقة أنه لم يكن من الصعب استحضار تلك المشاعر وقتذاك. كنت أستطيع الشعور بها، لكني لم أكن أعرف كيف يمكن ربطها بأي شيء في عالم الواقع.
ذات صباح في حظيرة الحبش، جاءنا عامل جديد للعمل في استخراج الأحشاء. كان فتى في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من العمر، وكان غريبا عن المكان واسمه براين. بدا على صلة قرابة - أو ربما علاقة صداقة - مع هيرب آبوت؛ إذ كان يقيم معه. كان يعمل على متن قارب في البحيرة الصيف الماضي، لكنه قال إنه مل هذا العمل وتركه.
قال: «تلك القوارب اللعينة! لقد سئمتها.»
كانت اللغة المستخدمة في حظيرة الحبش فظة متحررة، لكننا لم نكن قد سمعنا بالصفة التي استخدمها براين قط. ولم يبد استخدام براين لها من باب الإهمال بل التباهي ومزج السباب بالإثارة. ربما كان مظهره العام هو ما جعلها تبدو هكذا. كان يتمتع بمظهر جذاب: شعر ناعم، وعينان زرقاوان فاتحتان، وبشرة متوردة، وجسد متناسق القوام - ذلك النوع من الوسامة الذي لا يختلف عليه اثنان. لكن استحوذ عليه انطباع لا سبيل إلى ترويضه جعله لا يستطيع منع نفسه من تحول جميع مميزاته لتكون محط سخرية؛ إذ بدا فمه وكأنه مبلل، وكاد يكون مفتوحا معظم الوقت، وكانت عيناه شبه مغلقتين، وتعبيرات وجهه تحمل نظرة شبق مشجعة، وحركاته متثاقلة ومبالغ فيها ومغرية. ربما لو وقف على مسرح أمام ميكروفون وجيتار، وأعطي الفرصة لينخر ويصرخ ويتلوى ويثور، لبدا كمقدمي الحفلات. لكن في ظل غياب المسرح، لم يكن براين مقنعا. بعد فترة بدا كما لو كان مصابا بحالة مستعصية من الفواق جعلت شبقه الملح رتيبا وعديم المعنى.
لو خفف شبقه قليلا، ربما استمتعت مارجوري وليلي به. كان بوسعهما أن يستمرا في لهوهما بإخباره أن يغلق فمه القذر وأن يبعد يديه، لكن ما حدث أنهما قالتا إنهما قد سئمتا منه، وكانتا جادتين. ذات مرة سحبت مارجوري السكين الذي تستخدمه في استخراج الأحشاء، وقالت: «ابق بعيدا ... عني وعن شقيقتي وعن تلك الفتاة.»
لم تطلب منه أن يبقى بعيدا عن جلاديس؛ لأن جلاديس لم تكن موجودة في ذلك الوقت، وربما لم تكن مارجوري تشعر بالرغبة في حمايتها على أية حال. كان براين يخص جلاديس بأكبر قدر من المضايقة. كانت تلقي سكينها، وتدخل إلى دورة المياه، وتبقى هناك عشر دقائق ثم تخرج بوجه خال من المشاعر. لم تعد تقول إنها سئمت وتعود إلى منزلها، مثلما اعتادت أن تفعل. وقالت مارجوري إن مورجان قد استشاط غضبا من جلاديس لكونها عالة، وأنها لم تعد تتحمل تبعات ذلك.
أخبرتني جلاديس: «لا أستطيع تحمل ما يحدث. لا أطيق حديث الناس عن هذا الأمر وذلك النوع من الإيحاءات. هذا يثير اشمئزازي.»
صدقتها. بدت شاحبة للغاية. لكن لماذا لم تشك لمورجان؟ ربما لم تكن العلاقات بينهما على ما يرام، وربما لم تستطع حمل نفسها على تكرار أو وصف مثل هذه الأمور. لماذا لم تشك إحدانا لهيرب على الأقل إن لم يكن لمورجان؟ لم أفكر في ذلك قط. بدا براين عبئا يمكن تحمله، مثل البرودة القارصة داخل الحظيرة ورائحة الدم والفضلات. وعندما هددت مارجوري وليلي بالشكوى، كان تهديدهما متعلقا بكسل براين.
لم يكن براين ماهرا في عمله. قال إن يديه كبيرتان على استخراج الأحشاء، فأوكل له هيرب مهام الكنس والتنظيف، وتعبئة قلوب الديوك وأكبادها، والمساعدة في تحميل الشاحنة. معنى ذلك أنه لم يكن مضطرا إلى البقاء في مكان بعينه أو أداء عمل معين في وقت محدد؛ ومن ثم فإنه لم يكن يفعل شيئا معظم الوقت. كان يبدأ بالكنس، ثم ينتقل إلى مسح المناضد، ثم يدخن سيجارة، ويتسكع حول المنضدة يضايقنا إلى أن يناديه هيرب ليساعده في تحميل الشاحنة. كان هيرب مشغولا جدا في مثل هذه الفترة يقضي الكثير من الوقت في توصيل الطلبات؛ ومن ثم كان واردا ألا يعلم شيئا عن تراخي براين في العمل.
قالت مارجوري: «لا أعلم لماذا لا يطردك هيرب. أظن أنه لا يريدك أن تصبح عالة عليه، بلا مكان يأويك.»
Неизвестная страница