يمثلك العارفون حاملة القيثارة تنشدين، ولا يمثلونك حاملة المنديل تبكين.
وإن لقيثارتك أوتارا لكل عواطف الحياة، ولكل لهجات المنشدين.
ولكن أبناءك في هذا الشرق العربي فقدوا سلم العواطف، فقلما يذكرون غير واحدة، هي عاطفة الحزن والألم.
وفقدوا سلم اللهجات، فقلما يذكرون غير واحدة، هي لهجة البكاء والنحيب.
وأنت حاملة القيثارة المتعددة الأوتار، تلك القيثارة التي ردد دنته آيات وحيها، وذهب هوغو حواشي سحرها، وكان هوميروس ابنها الأول الأبر، وكان شكسبير رسولها الأكبر.
ربة الشعر ...
قطع صوت علي الكلام فسمعته يقول: ولكنهم في شرقك العربي مسخوا اسمي وشخصي فأسموني شيطانا. وحملوني دنا فارغا طيب الرائحة، ومصباحا دخانه أكثر من نوره، وقالوا للشعراء: اتبعوا شيطانكم. فتبعوه إلى دور الأمراء، وإلى المقابر - مديح ورثاء، رثاء ومديح! وتبعوه إلى حانات فيها دعارة، وليس فيها للشعر منارة. وتبعوه إلى ساحات الوغى يحاربون دواليب الهواء. وإلى طلول خاوية في ظلال شاوية. وإلى غدر المحال تحت سدر الخيال. وتبعوه إلى بحيرات من نور القمر، تسبح فيها عرائس الأحزان، وترقص حولها بنات الجان. وفي من تبعوه من شعراء العرب، وأدركوا، بهدي العبقرية لا بهداه، حواشي الظل لعرشي الأعلى قليلون عرفتهم وفي مقدمتهم المتنبي والمعري والفارض والبهاء زهير.
فقلت: ربة الشعر اعدلي فينا ربة الشعر انصفينا.
فقالت: اسمع وع. إن عندكم لكل وتر من أوتار الوحي شاعرا يفوق جميع الشعراء. عندكم المتنبي في فخامة القول والحماسة، والمعري في حرية الفكر والحكمة، والفارض في العشق السري الصوفي؛ والبهاء زهير في العشق الساذج الطبيعي، وأبو نواس في المجون والتهكم، وأبو العتاهية في الورع والتقوى، والشريف الرضي في شريف الغزل والنسيب، والمجنون في الوله والحزن والنحيب. أما الإفرنج فإنك لتجد كل هؤلاء في شاعر واحد كبير من شعرائهم في غوته مثلا، أو في الشاعر الأوحد شكسبير.
فقلت: وشعراء اليوم، شعراء الوجدان؛ أولئك الذين يتعلمون في المدارس اسمك القديم؛ واسم جبل وحيك، ويرون في الكتب رسمك تحملين القيثارة وهم يحسنون العد فيعدون أوتارها كما يعدون أوزانهم، ولا يسمعون مع ذلك غير واحد أو اثنين منها. فما داؤهم - دام جلالك - وما السبب في بلائهم؟ هل السبب في السمع والبصر، أم هل هو في التربية الشعرية القياسية؟
Неизвестная страница