حدثتني سيدة مهذبة قالت: كدت أختنق مرة من شدة الغيظ والكمد، وأنا أحاول أن أحبس دموعي، ولكني عندما استسلمت إليها، أحسست أن شيئا ثقيلا متجمدا في صدري أخذ يذوب، فذاب بالبكاء فانفرجت.
ولكن الرجال يفرجون كربتهم بغير الدموع، يفرجونها إما بالصبر والتجلد، وإما بالقوة، وإما بحسن التدبير.
إن الغيظ والكمد والحزن لا تفعل بالرجال إذن ما تفعله بالنساء؛ ذلك لأن فعلها بالنساء منشؤه العواطف، وفعلها بالرجال منشؤه العقل والإرادة - العقل في التدبير، والإرادة في ضبط النفس، أو القوة في إشفاء غليلها.
ولا أظنك تنكر أيها القارئ المفكر أن للتربية مفعولها بالدموع، فالأم لا تزجر ابنتها إذا رأتها تبكي كما تزجر ابنها، فهي توبخه وتذكره بأنه رجل - والرجال لا يبكون.
فإذا كان البكاء حقا مفيدا، فلماذا يحرم الولد فائدته ولا تحرمها الفتاة؟
يظهر إذن فوق كل ريب أن في عقيدة من يقولون: بفائدة البكاء شيئا بل أشياء من الوهم والسخافة، وإن الشاعر في قوله: «إن الدموع يد الله بيضاء» هو شاعر فقط، على أنه قد يكون له تعالى يد في الدموع بيضاء، إذا أسعفها الوهم في تقليد ورثناه، أو في عادة ألفناها.
هوامش
دموع الشاعر
لا أظنك تجد من الدموع في شعر الأمم الأوروبية كلها مقدار نصف ما عندنا في الشعر العربي، ولا أظنني في ما أقول مبالغا، جل في ربوع الشعر أو في بواديه، تجد هناك من الدموع بحيرات ومستنقعات، خذ أي ديوان تشاء وافتحه على بركة الله، تحظ بقصيدة شاكية أو بقافية باكية، وخذ أي كتاب من كتب الأدب القديم، تر صفحاته مزدانة بالأشعار، وفيها دائما من النوع الذي يسيل دمعا سخينا سخيا، قصائد هي السواقي - قوافي هي الشلالات - دواوين هي الينابيع المعدنية.
ويظهر أن الذين يتذوقون الشعر ويروونه أو يعنون بنقله والاستشهاد به في بث فكرة، وتزيين مقال أو إعلان، هم شغفون بدمعة الشاعر فيفضلونها غالبا على ابتسامته، أو على غيرها من ظاهرات مزاجه، هاك ما قرأت في ورقة اليوم من الروزنامة:
Неизвестная страница