И треть для твоей пищи
وثلث لطعامك
Издатель
دار القاسم
Жанры
المقدمة
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمه الظاهرة والباطنة، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد:
فإن الله خلقنا لأمر عظيم، وسخر لنا ما في السموات والأرض جميعًا منه، وسهل أمر العبادة، وأغدق علينا من بركات الأرض؛ لتكون عونًا على طاعته.
ولتوسع الناس في أمر المأكل والمشرب حتى جاوزوا في ذلك ما جرت به العادة، أحببت أن أذكر نفسي وإخواني القراء بأهمية هذه النعمة ووجوب شكرها وعدم كفرها.
وهذا هو الجزء (الثامن عشر) من سلسلة (أين نحن من هؤلاء؟) تحت عنوان (وثلثٌ لطعامك).
أدعو الله ﷿ أن يجعل ما أفاض علينا عونًا على طاعته وأن يعيننا على شكره وحسن عبادته وأن يبوأنا من الجنة غرفًا تجري من تحتها الأنهار .. إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم
1 / 3
مدخل
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ (١).
قال ابن كثير ﵀ في تفسير هذه الآية: يقول الله تعالى آمرًا عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة (٢).
وقال جل وعلا: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (٣). قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرفٌ ومخيلة.
وعن أنس بن مالك ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن من السرف أن تأكل كُلَّ ما شئت" (٤).
وقال تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ (٥).
لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله! أي نعيم نُسأل عنه؟ وإنما هما الأسودان: الماء والتمر، وسيوفنا على رقابنا، والعدو
_________
(١) سورة البقرة، الآية ١٧٢.
(٢) تفسير ابن كثير ١/ ٢٠٦.
(٣) سورة الأعراف، الآية: ٣١.
(٤) تفسير ابن كثير ٢/ ٢١١.
(٥) سورة التكاثر، الآية: ٨.
1 / 4
حاضر، فعن أي نعيم نُسأل؟ قال: "اما إن ذلك سيكون" (١).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي نُسأل عنه: ظل بارد، ورطب، وماء بارد" (٢).
وحال نبي الأمة ﷺ في أكله وشربه تروي لنا طرفًا منه أم المؤمنين عائشة ﵂ حيث قالت: "ما شبع آل محمد ﷺ منذ قدم المدينة من خبز ثلاث ليال تباعًا حتى قبض" (٣).
وعلى المرء أن يتجنب الشبع المفرط لقول رسول الله ﷺ: "ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن لم يفعل فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" (٤).
وهذا الحديث أصلٌ جامع لأصول الطب كلها.
وقد روي أن ابن ماسوية الطبيب لما قرأ هذا الحديث قال: لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام ولتعطلت المارشايات ودكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا لأن اصل كل داء التخم (٥).
وتأمل في نهاية كثرة الأكل وما يجر إليه في الآخرة؛ فعن
_________
(١) فتح القدير ٥/ ٦٠٧.
(٢) رواه الترمذي وصححه الألباني.
(٣) رواه البخاري ومسلم.
(٤) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم.
(٥) جامع العلوم، ص ٤٢٤.
1 / 5
سلمان ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ:: "أكثر الناس شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا في الآخرة" (١).
وعن أُبي ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلًا للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير" (٢).
وهذا أبو هريرة ﵁ يذكر طرفًا من حال الرسول ﷺ قال: أتي رسول الله ﷺ بطعام سخن فأكل، فلما فرغ قال: "الحمد لله، ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا" (٣).
وصح عن النبي ﷺ أنه قال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم قوم يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن".
وفي المسند أن النبي ﷺ رأى رجلًا سمينًا، فجعل يومئ بيده إلى بطنه ويقول: "لو كان هذا في غير هذا لكان خيرًا لك".
وهذا نبي الأمة ﷺ يحذر أمته من شهوة الفرج والبطن، فعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى".
وعن فاطمة عن النبي ﷺ قال: "شرار أمتي الذين غُذُّوا
_________
(١) رواه أبو نعيم في الحلية وحسنه الألباني.
(٢) رواه ابن حبان والطبراني وحسنه الألباني.
(٣) رواه ابن ماجه.
1 / 6
بالنعم؛ يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام" (١).
وعن ابن عمر قال: تجشأ رجل عند النبي ﷺ فقال: "كف عنا جشأك، فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة" (٢).
وقد سُئل الإمام أحمد عن قول النبي ﷺ: "ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس" .. فقال: ثلث الطعام هو القوت، وثلث الشراب هو القوى، وثلث النفس هو الروح (٣).
قال المروذي: كان أبو عبد الله (أحمد بن حنبل) إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذُكِر الموت أهان عليَّ كل الدنيا، إنما هو طعامٌ دون طعام، ولباسٌ دون لباس، وإنها أيامٌ قلائل، ما أعدل بالفقر شيئًا (٤).
وعن عبد الله بن عدي وكان مولى لابن عمر، أنه قدم من العراق فجاءه فسلم عليه فقال: أهديت لك هدية، قال: وما هي؟ قال: جوارش، قال: وما جوارش؟ قال: يهضم الطعام، قال: ما ملأت بطني منذ أربعين سنة، فما أصنع به (٥).
وسُئل سهل التستري: الرجل يأكل في اليوم أكلة، قال: أكل
_________
(١) رواه البزار.
(٢) رواه ابن ماجه.
(٣) جامع العلوم والحكم، ص ٤٢٨.
(٤) السير ١١/ ٢١٦.
(٥) صفة الصفوة ١/ ٥٧٤.
1 / 7
الصديقين، قيل له: فأكلتان، قال: أكل المؤمنين، قيل له: فثلاث أكلات، فقال: قل لأهله يبنوا له معلفًا (١).
وحالهم في المأكل والمشرب حال المُسارع إلى الخيرات متقلب بين حمدٍ وشكرٍ وإكرام ضيف.
قال أبو حمزة السكري: ما شبعت منذ ثلاثين سنة إلا أن يكون لي ضيف (٢).
وذكر أن خالد بن معدان كان يقول: أكلٌ وحمد خير من أكل وصمت (٣).
وكان نوح ﵇ إذا أكل قال: الحمد لله، وإذا شرب قال: الحمد لله، وإذا لبس قال: الحمد لله، وإذا ركب قال: الحمد لله، فسماه الله عبدًا شكورًا (٤).
أخي المسلم:
مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر، قال تعالى:
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ (٥)، وقال النبي ﷺ لمعاذ: "والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دُبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" وليس المراد
_________
(١) الفوائد، ص ٢٣٢.
(٢) تذكرة الحافظ ١/ ٢٣٠.
(٣) السير ٤/ ٥٣٢.
(٤) الزهد للإمام أحمد، ص ٨٧.
(٥) سورة البقرة، الآية: ١٥٢.
1 / 8
بالذكر مجرد ذكر اللسان بل الذكر القلبي واللساني، وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته وذكر أمره ونهيه وذكره بكلامه، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح.
وذلك لا يتم إلا بتوحيده، فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه.
وأما الشكر فهو القيام له بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهرًا وباطنًا.
وهذان الأمران هما جماع الدين، فذكره مستلزم لمعرفته، وشكره متضمن لطاعته، وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس والسموات والأرض، ووضع لأجلها الثواب والعقاب، وأنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وهى الحق الذي به خلقت السموات والأرض وما بينهما، وضدها هو الباطل والعبث.
قال بعض العلماء: ثلاث يمقت الله عليها: الضحك بغير عجب، والأكل من غير جوع، والنوم بالنهار من غير سهر، والحد من النوم: أن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة؛ فالاعتدال في نومه ثماني ساعات في الليل والنهار جميعًا، فإذا نام هذا القدر بالليل فلا معنى للنوم بالنهار، وإن نقص منه مقدارًا استوفاه بالنهار؛ فحسب ابن آدم إن عاش ستين سنة أن ينقص من عمره عشرون سنة، ومهما نام ثماني ساعات وهو الثلث فقد نقص من عمره الثلث (١).
_________
(١) الإحياء ١/ ٤٠٢.
1 / 9
وأعرض عن مطاعم قد أراها ... فأتركها وفي بطني انطواء
فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
قال الشافعي ﵀: ما شبعت منذ ست عشرة سنة، لأن الشبع يثقل البدن، ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.
فانظر إلى حكمته في ذكر آفات الشبع ثم في جدِّه في العبادة، إذ طرح الشبع لأجلها، ورأس التعبد تقليل الطعام (١).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ﵀ في تفسير قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (٢) جمع الله فيها أموارً كثيرة نافعة في الدين والبدن والحال والمآل، فالأمر بالأكل والشرب يدل على الوجوب، وأن العبد لا يحل له ترك ذلك شرعًا كما لا يتمكن من ذلك قدرًا ما دام عقله معه، وأن الأكل والشرب من نية امتثال أمر الله يكون عبادة، وأن الأصل في جميع المأكولات والمشروبات الإباحة، إلا ما نص الشارع على تحريمه لضرره لإطلاق ذلك، وعلى أن كل أحد يأكل ما ينفعه ويناسب ويليق به ويوافق لغناه وفقره، ويوافق لصحته ومرضه ولعادته وعدمها، لأنه حذف المأكول.
والآية ساقها الله لإرشاد العباد إلى منافعهم، وهى تدل على
_________
(١) الإحياء ١/ ٣٦.
(٢) سورة الأعراف، الآية: ٣١.
1 / 10
ذلك كله، وعلى أن أصل صحة البدن تدبير الغذاء بأن يأكل ويشرب ما ينفعه ويقيم صحته وقوته، وعلى الأمر بالاقتصاد في الغذاء والتدبير الحسن، لأنه لما أمر بالأكل والشرب نهى عن السرف، وعلى أن السرف منهي عنه، وخصوصًا في الأطعمة والأشربة، فإن السرف يضر الدين والعقل والبدن والمال.
أما ضرره الديني: فكل من ارتكب ما نهى الله ورسوله عنه فقد انجرح دينه، وعليه أن يداوي هذا الجرح بالتوبة والرجوع.
وأما ضرره العقلي: فإن العقل يحمل صاحبه أن يفعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي، ويوجب له أن يدبر حياته ومعاشه، ولهذا كان حسن التدبير في المعاش من أبلغ ما يدل على عقل صاحبه، فمن تعدى الطور النافع غلى طور الإسراف الضار، فلا ريب أن ذلك لنقص عقله، فإنه يستدل على نقص العقل بسوء التدبير.
وأما ضرره البدني: فإن من أسرف بكثرة المأكولات والمشروبات انضَّر بدنه واعتراه أمراض خطيرة، وكثير من الأمراض إنما تحدث بسبب الإسراف في الغذاء، ثم إنه ينضر أيضًا من وجه آخر، فإن من عوَّد بدنه شيئًا اعتاده، فإذا عوده كثرة الأكل أو أكل الأطعمة المتنوعة فربما تعذرت في بعض الأحوال لفقر أو غيره، وحينئذ يفقد البدن ما كان معتادًا فتنحرف صحته.
وأما ضرره المالي: فظاهر، فإن الإسراف يستدعي كثرة النفقات، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا
1 / 11
مَحْسُورًا﴾ (١)؛ أي تلام على ما فعلت، لأنه في غير طريقه، (محسورًا) فارغ اليد.
وإخباره أنه لا يحب المسرفين، دليل على أنه يحب المقتصدين، ففي هذه الآية إثبات صفة المحبة لله، وأنها تتعلق بما يحبه الله من الأشخاص والأعمال والأحوال كلها، فسبحان من جعل كتابه كنوزًا للعلوم النافعة المتنوعة (٢).
والإسراف أخي المسلم هو الزيادة التي لا وجه لها، مثل زيادة الطعام والشراب بلا حاجة.
وأما التبذير فهو: صرف الأموال في غير وجهها، إما في المعاصي، وإما في غير فائدة لعبًا وتساهلًا بالأموال ..
وكلا الأمرين -الإسراف والتبذير- مذمومان بنص كتاب الله ﷿ .. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ (٣)، وقال في الإسراف: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (٤).
ثم تأمل نهاية الأكل وإلى أين يصير؟ هذه مولاة لداود الطائي تخدمه، فقالت له: لو طبخت لك دسمًا تأكله؟ قال: وددت، فطبخت له دسمًا ثم أتت به، فقال لها: ما فعل أيتام بني فلان؟ قالت:
_________
(١) سورة الإسراء، الآية: ٢٩.
(٢) المجموعة السعدية ٨/ ٤٥٣.
(٣) سورة الإسراء، الآيتان: ٢٦، ٢٧.
(٤) سورة الأعراف، الآية: ٣١.
1 / 12
على حالهم، قال: اذهبي به إليهم، فقالت: أنت لم تأكل أدمًا منذ كذا وكذا، قال: إن هذا إذا أكلوه كان عند الله مذخورًا، وإذا أكلته كان في الحش (١).
وكانت حالهم حال المنفق المتصدق؛ من يُقدم ولا يؤخر، وينفق ولا يقبض رغم قلة الحال وضيق ما في اليد.
هذا أبو الحسين النوري مكث عشرين سنة يأخذ من بيته رغيفين، ويخرج ليمضي إلى السوق فيتصدق بالرغيفين، ويدخل المسجد فلا يزال يركع حتى يجيء وقت سوقه، فإذا جاء الوقت مضى إلى السوق فيُظنُّ أنه قد تغدى في بيته ومن هم في بيته عندهم أنه قد أخذ منه غداءه؛ وهو صائم! !
وهذا الإنفاق وسيلة إلى التقرب إلى الله ﷿ بدفعه والتصدق به على المحتاجين ومساعدة المعسرين! !
قال عبيد بن عمير: يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط، وأعطش ما كانوا قط، فمن أطعم لله أطعمه الله، ومن سقى لله سقاه الله، ومن كسا لله كساه الله.
يقول ابن القيم ﵀: فإن من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله وإعلاء كلمته سلبه الله إياه أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به ونقله إلى غيره فيكون له مهنؤه، وعلى مخلفه وزره، وكذلك من رفّه بدنه وعرضه
_________
(١) تاريخ بغداد ٨/ ٣٥٣.
1 / 13
وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله أتعبه الله ﷾ أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب، قال أبو حازم: لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى.
واعتبر ذلك بحال إبليس فإنه امتنع من السجود لآدم فرارًا أن يخضع له ويذل وطلب إعزاز نفسه، فصيره الله أذل الأذلين، وجعله خادمًا لأهل الفسوق والفجور من ذريته، فلم يرض بالسجود له ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته، وكذلك عباد الأصنام أنِفوا أن يتبعوا رسولًا من البشر وأن يعبدوا إلهًا واحدًا سبحانه، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار (١).
ومن فوائد الجوع وعدم الإكثار من الأكل ما قاله أبو سليمان الداراني: إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق، وإذا شبعت ورويت عمي القلب (٢).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما فضول الطعام فهو داعٍ إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعّاصي، ويثقلها عن الطاعات؛ وحسبك بهذين شرًا. فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام، وكم من طاعة حال دونها، فمن وقي شر بطنه فقد وقي شرًا عظيمًا، والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ
_________
(١) حكمة الابتلاء لابن القيم، ص ٥١.
(٢) جامع العلوم والحكم، ص ٥١٧.
1 / 14
بطنه من الطعام.
ثم قال: ولو لم يكن من الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله ﷿ وإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان، ووعده ومنَّاه، وشهَّاه، وهام به في كل واد، فإن النفس إذا شبعت تحركت، وجالت، وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت (١).
ومع كثرة ما حبانا الله ﷿ به من النعم الكثيرة والخيرات العظيمة احذر ايها الحبيب أن تكون ممن قال عنهم بلال بن سعد: رُبَّ مسرور مغبون، يأكل ويشرب ويضحك، وقد حُقَّ له في كتاب الله ﷿ أنه من وقود النار (٢).
أفلح الزاهدون والعابدون ... إذ لمولاهم أجاعوا البطونا
أسهروا الأعين العليلة حبًا ... فانقضى ليلهم وهم ساهرونا (٣)
قال المروزي: قال لي رجل: كيف ذاك المتنعم؟ (أحمد بن حنبل) قلت له: وكيف هو متنعم؟ قالك أليس يجد خبزًا يأكل وله امرأة يسكن إليها ويطأها؟ فذكرت ذلك لأبي عبد الله فقال: صدق، وجعل يسترجع فقال: إنا لنشبع (٤).
وتأمل حديث الرسول ﷺ بعين فاحصة وقلب واع: "من
_________
(١) بدائع الفوائد ٢/ ٢٧٣.
(٢) صفة الصفوة ٤/ ٢١٨.
(٣) الإحياء ١/ ٣٦٦.
(٤) جامع العلوم والحكم، ص ٥١٧.
1 / 15
أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده وعنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" (١).
ونحن في زمن مال فيه كثير من الناس إلى الإسراف والبذخ والتفاخر بالمآكل والمشارب والمراكب والمساكن. هذا الحسن يروي لنا حال من سبقنا ممن همهم الدار الآخرة ووجهتهم العبادة .. قال: أدركت -والذي نفسي بيده- أقوامًا ما أمر أحدهم بصنعة طعام قط، فإن قرب إليه شيء أكله وإلا سكت، لا يبالي حارًا كان أو باردًا، وما افترش أحدهم بينه وبين الأرض فراشًا قط، وإنما يتوسد يده فيهجع من الليل، ثم يقوم فيبيت ليلته راكعًا ساجدًا، يرغب إلى الله في فك رقبته (٢).
وقال رجل للحسن: ما تقول في رجل آتاه الله مالًا فهو يتصدق منه ويصل منه، أيحسب له أن يتعيش فيه (يعني يتنعم)؟ فقال: لا، لو كانت له الدنيا كلها ما كان له منها إلا الكفاف ويقوِّم ذلك ليوم فقره (٣).
فإن مقصد ذوي الألباب لقاء الله تعالى في دار الثواب، ولا طريق إلى الوصول للقاء الله إلا بالعلم والعمل، ولا تمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن، ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة
_________
(١) رواه الترمذي وابن ماجه.
(٢) حلية الأولياء ٦/ ٢٧٠.
(٣) مكاشفة القلوب، ص ١٥٦.
1 / 16
والأقوات والتناول منها بقدر الحاجة على تكرر الأوقات، فمن هذا الوجه قال بعض السلف الصالحين: إن الأكل من الدين، وعليه نبه رب العالمين بقوله وهو أصدق القائلين: ﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ (١).
فمن يُقْدم على الأكل ليستعين به على العلم والعمل ويتقوى به على التقوى فلا ينبغي أن يترك نفسه مهملًا سدىً يسترسل في الأكل استرسال البهائم في مرعى، فإن ما هو ذريعة إلى يوم الدين ووسيلة إليه ينبغي أن تظهر أنوار الدين عليه. وإنما أنوار الدين آدابه وسننه التي يزم العبد بزمامها ويلجم المتقي بلجامها، حتى يتزن بميزان الشرع شهوة الطعام في إقدامه وإحجامها، فيصير بسببها مدفعة للوزر ومجلبة للأجر وإن كان فيها أو في حظ للنفس، قال رسول الله ﷺ: "إن الرجل ليؤجر حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه وإلى في امرأته". وإنما ذلك إذا رفعها بالدين وللدين مراعيًا فيه آدابه ووظائفه.
أخي الحبيب:
إذا اجتمع الإسلام والقوت للفتى ... وكان صحيحًا جسمه وهو في أمن
فقد ملك الدنيا جميعًا وحازها ... وحلَّ عليه الشكر لله ذي المن
_________
(١) سورة المؤمنون، الآية: ٥١.
1 / 17
قال الإمام الشافعي: ما شبعت منذ ست عشرة سنة؛ لأن الشبع يثقل البدن، ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة (١).
وللإسلام شرائع وآداب عظيمة في جميع حياة المسلم فمن ذلك حال الإنسان في مأكله ومشربه، فإن الداعي إلى ذلك شيئان: حاجة ماسة، وشهوة باعثة.
فأما الحاجة فتدعو إلى ما سد الجوع، وسكن الظمأ؛ وهذا مندوب إليه عقلًا وشرعًا لما فيه من حفظ النفس وحراسة الجسد، ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال بين صوم اليومين، لأنه يضعف الجسد، ويميت النفس، ويُعجز عن العبادة، وكل ذلك يمنع منه الشرع، ويدفع عنه العقل، وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر، ولا نصيب من زهد، لأن ما حرمها من فعل الطاعات بالعجز والضعف أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا، إذ ليس في ترك المباح ثواب يقابل فعل الطاعات وإتيان القرب، ومن أخسر نفسه ربحًا موفورًا أو حرمها أجرًا مذخورًا كان زهده في الخير أقوى من رغبته، ولم يبق عليه من هذا التكليف إلا الشهوة بريائه وسمعته.
وأما الشهوة فتتنوع نوعين: شهوة في الإكثار والزيادة، وشهوة في تناول الألوان اللذيذة.
فأما النوع الأول: وهو شهوة الزيادة على قدر الحاجة،
_________
(١) جامع العلوم والحكم، ص ٥١٨.
1 / 18
والإكثار على مقدار الكفاية؛ فهو ممنوع منه في العقل والشرع، لأن تناول ما زاد على الكفاية، نهَمٌ معر، وشر مضر.
أما النوع الثاني: فهو شهوة الأشياء اللذيذة، ومنازعة النفوس إلى طلب الأنواع الشهية، فمذاهب الناس في تمكين النفس منها مختلفة، فمنهم من يرى أن صرف النفس عنها أولى، وقهرها عن اتباع شهواتها أحرى، ليذل له قيادها، ويهون عليه عنادها، لأن تمكينها وما تهوى، بطر يطغى، وأَشَر يردي، لأن شهواتها غير متناهية، فإذا أعطاها المراد من شهوات وقتها، تعدَّتها إلى شهوات قد استحدثتها، فيصير الإنسان أسير شهوات لا تنقضي، وعبد هوى لا ينتهي. ومن كان بهذه الحال لم يُرْجَ له صلاح، ولم يوجد فيه فضل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى: فالذين يقتصدون في المأكل نعيمهم بها أكثر من المسرفين فيها، فإن أولئك إذا أدمنوها وألفوها لا يبقى لها عندهم كبير لذةٍ، مع أنهم قد لا يصبرون عنها، وتكثر أمراضهم بسببها.
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... لتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان (١)
_________
(١) أدب الدنيا والدين، ص ٣٣٥.
1 / 19
ورث داود الطائي من أمه أربعمائة درهم، فمكث يتقوَّت بها ثلاثين عامًا، فلما نفدت جعل ينقض سقوف الدويرة
ويبيعها (١).
والمحاسبون لأنفسهم في هذه الدنيا يفعلون مثلما قال أبو يوسف القسولي عن نفسه: أنا أتفقه في مطعمي من ستين سنة (٢).
وقال الحسن: أدركت أقوامًا لا يفرحون بشيء من الدنيا أتوه، ولا يأسفون على شيء منها فاتهم (٣).
أما من أسرف على نفسه وأكل الحرام ليملأ بطنه فنسوق له قولًا بليغًا لعله يتعظ به! !
قال شميط بن عجلان: إنما بطنك يا ابن آدم شبر في شبر فَلِمَ يدخلك النار؟ (٤).
وبعض الناس يقوده هذا الشبر إلى النار والعياذ بالله! !
ولهذا كانوا يتحرَّزون مما يأكلون، قال حذيفة: تعاهدوا أرقاءكم فانظروا من أين يجيئون بضرابهم، فإنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت (٥).
وقال شعيب بن حرب: لا تحقرن فلسًا تطيع الله في كسبه،
_________
(١) السير ٧/ ٤٢٤.
(٢) كتاب الورع، عبد الله ابن حنبل، ص ١٠.
(٣) الزهد للإمام أحمد، ص ٢٣٠.
(٤) مكاشفة القلوب، ص ١٧٠.
(٥) كتاب الزهد للإمام أحمد، ص ٢٦٣.
1 / 20
ليس الفلس يراد، إنما الطاعة تراد، عسى أن تشتري به بقلًا فلا يستقر في جوفك حتى يغفر لك (١).
أخي المسلم:
للأكل آداب عظيمة علمنا إياها رسول الله ﷺ، ولا يليق بمسلم أن يأكل ويشرب من نعم الله ﷿ وينسى ما دلنا عليه الشرع من آداب وأحكام! !
ومن الآداب التي تجاهلها الناس وأصبحت مهجورة إما كبرًا أو جهلًا ونسيانًا لعق الأصابع لقول النبي ﷺ: "إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح أصابعه حتى يَلعَقَهْا" أو "يُلِعْقها" (٢)، ولقول جابر ﵁ أن رسول الله ﷺ أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: "إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة" (٣).
وكذلك إذا سقط منه شيء مما يأكل أزال عنه الأذى وأكله، لقول النبي ﷺ: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها، وَلْيُمِطْ (ينح) عنها الآذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان" (٤).
قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر بن عبد العزيز بعد الفجر في بيت كان يخلو فيه بعد الفجر فلا يدخل عليه أحد، فجاءت جارية بطبق عليه تمر صبحاني، وكان يعجبه التمر، فرفع
_________
(١) صفة الصفوة ٣/ ٨٠.
(٢) رواه أبو داود والترمذي.
(٣) رواه مسلم.
(٤) رواه مسلم.
1 / 21
بكفه منه فقال: يا مسلمة! أترى لو أن رجلًا أكل هذا ثم شرب عليه الماء، فإن الماء على التمر طيب، أكان يجزيه إلى الليل؟ قلت: لا أدري فرفع أكثر منه، قال: فهذا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان كافيه دون هذا حتى ما يبالي أن لا يذوق طعامًا غيره، قال: فعلامَ تدخل النار؟ ! قال مسلمة: فما وقعت مني موعظة ما وقعت هذه (١).
أخي المسلم:
قرِّب طعامك وابذله لمن دخلا ... واحلف على من أبى واشكر لمن أكلا
ولا تكن ساحري العرض محتشمًا ... من القليل فلست الدهر محتفلا (٢)
اجتمع مالك بن دينار ومحمد بن واسع فتذاكرا العيش فقال مالك: ما شيء أفضل من أن يكون للرجل غلة يعيش فيها، فقال محمد: طوبى لمن وجد غذاء ولم يجد عشاء ووجد عشاء ولم يجد غذاء، وهو عن الله راضٍ، والله عنه راضٍ (٣).
هي القناعة لا تبغ بها بدلا ... فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن؟
_________
(١) حلية الأولياء ٥/ ٢٧٧.
(٢) ترتيب المدارك ١/ ٣٠٧.
(٣) تذكرة الحفاظ ٤/ ١٢٤.
1 / 22