ومن تقديراته أنه في احتقار المال الذي يكسب عن طريق الإساءة إلى الناس، أنه زجر أخي الكبير زجرا شديدا، حين علم أنه ينوي التبليغ عن بعض المتهمين في قضية جعلت للمبلغ فيها مكافأة قدرها خمسون جنيها - أو مائة جنيه - لا أذكر الآن على التحقيق.
وجلية القضية أن فتى من الشبان الوارثين بالقاهرة حضر إلى أسوان في الشتاء ومعه ألف جنيه، وكانت أسوان مرتاد السائحين والسائحات في موسم الشتاء، وفيها من أسباب الإنفاق والمتعة مطمع لأمثال ذلك الوارث، ومن يلوذون بالمبذرين والمسرفين، وسرق الوارث قبل أن يستنفد من الألف مائة أو مائتين، وانحصرت الشبهة في شاب موظف بالمحكمة، كان يسكن مع أمه وأبيه في بيت لنا مجاور للبيت الذي نقيم فيه، فراحت أمه إلى جارة لها تستجهلها، وتظن أنها لا تعرف ورق النقد الذي كان في الواقع غير معروف بين أكثر الناس، فاستودعتها لفافة من الورق هي جملة المبلغ المسروق، ولكن المرأة أطلعت زوجها على الخبر، وهو من كتاب العرائض المدربين؛ فعرف الورق وعرف سر القضية، وأخفى كل ما وصل إليه. •••
مثل هذا الخبر لا يخفى بين سكان حي من أحياء الريف؛ فعرفنا ما حدث، وعرفنا أن الوارث سمح بالمكافأة التي ذكرناها لمن يرشد إلى السارقين، ونظر أخي الكبير إلى القضية نظر الرجل العصري الذي لا يبالي أن ينتفع بالمال للتبليغ عن مجرمين، ونظر أبي إليها نظرة الجيل القديم يستعيذ من فضيحة الحرمات من أجل ما يبذره وارث سفيه ... فدعا بأخي أمامنا جميعا، وأقسم له أغلظ الأيمان لئن أقدم على التبليغ ليبرأن منه مدى الحياة، ولا يأذن له أن يمشي في جنازته بعد الممات.
وكان يحاسب نفسه على كل حصة من المال تجتمع في حوزته، وتفرض عليها الزكاة فيوزعها خفية، ويرسلني بها إلى بيوت بعض الفقراء الذين لا يتعرضون للسؤال، ولا يرد مسكينا يطلب الطعام من المساكين الذين يترددون على الأبواب.
وكان كثير العطف على ذوي قرباه، يزورهم في المواسم والأعياد، سواء منهم من كبر ومن صغر، ومن استغنى ومن افتقر، على ما كان في انتقاله إليهم من المشقة بعد أن جاوز الخمسين، وإذا استخلص منهم واحدا لسداد رأيه، وخلوص طويته، شاوره في الجليل والدقيق من شئون الأسرة، واعتمد على مشورته في كثير من الأحيان.
ولم يكن يغضب لشيء كما كان يغضب لكرامته وسمعة اسمه، ومن ذاك أنه كان له حمار ينتقل عليه من قرية إلى قرية، حين كان معاونا للإدارة، فلما استقر في المدينة باعه لبعض المكارين،
1
وكان الحمار مشهورا بالسرعة وهدوء الحركة، فكان المستأجرون يطلبونه ويقولون للمكاري: «هات حمار العقاد.» ثم اختصروا كعادتهم فأصبحوا يطلبونه فيقولون: «هات العقاد! هات العقاد.» فلما سمع بذلك عاد فاشتراه، وقبل المغالاة في ثمنه على غير حاجة إليه، واستبقاه يعلفه، ويتحمل ضجته حتى اشتراه من ينقله إلى قرية بعيدة لا يستخدمه فيها بالكراء! •••
ولم يكن مكثرا من القراءة في غير الكتب الدينية، ولكنه كان يحدثنا دائما عن تجاربه ومصاعب حياته، ويأبى علينا أن نستمع إلى أقاصيص العجائز وحكايات الأساطير.
على أنني وجدت في دواليب «المندرة»، بعد أن بلغت سن القراءة، أعدادا كثيرة من مجلة «الأستاذ» لصاحبها عبد الله نديم؛ فاتصلت بالحركة الوطنية قبل أن تنشأ في القطر صحيفة من صحفها الحديثة.
Неизвестная страница