157

قل: إن الكون نور. قل: إن الله نور السماوات والأرض، فإذا قصر بك الحس عن نور الله فثق أن هذا الضياء الذي يملأ الفضاء هو النور الإلهي الذي كتب لابن الفناء أن يراه.

وكان النهار بساما، مدلا بشمسه مزهوا بنوره، كأنما يحس روعته في الأنظار وبهجته في الأرواح، وكأنما يتوهج من نظر العيون إليه كما تتوهج الوجنة الصبوح تحت لمحات الأحداق، كان نهارا مبتكرا عليه جدة لا تحسبها قد مضت عليها سويعة من يوم! ... خلقا مبتكرا يخيل إليك أنه يتلألأ في فضائه للمرة الأولى ... وهل هنالك من فارق بين نور نهارنا هذا وبين النور في أبعد مكان من الفضاء، وفي أبعد فترة من الزمان؟ ها هنا شيء على الأقل تستطيع أن تقول: إنه لم يفتك أن تراه قبل ألف ألف من السنين، وإنك تذهب معه إلى أبعد من مذهب أبي العلاء حين سأل الفرقدين:

واسأل الفرقدين عمن أحسا

من قبيل وآنسا من بلاد

كم أقاما على بياض نهار

وأنارا لمدلج في سواد

إن الفرقدين وأخواتهما في السماء لأطفال تلعب في حجر هذا الشيخ السرمدي، يلوح لك من جدته اليوم كأنه لم تنقض عليه ساعة من نهار!

قال صاحبي وهو يرسل الطرف في السماء، ولا نهاية لمد البصر تصعيدا ولا تصويبا، ولا من يمين ولا شمال: قصرت عين تحسب وهي تنظر إلى هذا النور أنها تنظر إلى شيء مكشوف لا عمق فيه، ولا طوية وراءه: كاشف الخفاء هذا هو ينبوع الخفاء! ...

وشاء أن يتكلم بلغة المكان، لغة المكتبة، لغة المجازيين والبلغاء، فقال: ونحن إذن في برزخ الأنوار، وراء الجدران نور الشمس في مدينة الشمس الخالدة، وبين الجدران نور القرائح، ونور الحكمة، ونور البيان!

قلت: مجاز حسن وإن طال به عهد أصحاب المجاز، الكتب علم، والعلم نور، ولكنني لا أحسبه مجازا يجري في النفس كما يجري في لفظ اللسان، فهل من الحق أننا نواجه المكتبة كما نواجه النور؟ ... وهل خطر لك قط أن تسأل نفسك: كيف تبده الكتب الكثيرة - مجتمعة في مكان واحد - من يدخل عليها لأول مرة؟ ... كيف يقع ألف كتاب أو عشرة آلاف كتاب موقعها ممن يفجأ بها ويعرف ما هي، وإن لم يعرف معناها؟ ... إننا في هذه الحضارة قد تعودنا منظر الكتب مجتمعات بالمئات والألوف. ولكننا خلقاء أن نتجرد من فعل العادة، ولو لحظة عابرة لننظر إلى هذه الظاهرة من جانب غرابتها لا من جانب ألفتها، فكيف تبد هنا رؤية الكتب لمئات من أصحاب القرائح والعقول محشورة في بضعة رفوف؟ ...

Неизвестная страница