وإني أتمثل «أبي» الآن في الصورة التي رأيتها ألفي مرة بل أكثر من ألفي مرة؛ لأنني كنت أراها كل يوم منذ فتحت عيني على الدنيا، إلى أن فارقت بلدتي بعد اشتغالي بالوظائف الحكومية ...
وتلك هي صورته على مصلاه، يؤدي صلاة الصبح، ويجلس على سجادة الصلاة من مطلع الفجر إلى ما قبل الإفطار؛ ليتلو سورا خاصة من القرآن الكريم، ويعقبها بتلاوة الدعوات.
وكان يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، ولكن جلسته في الصباح الباكر هي التي انطبعت في ذاكرتي إلى هذه الساعة؛ لأنها كانت أول ما أستقبله من الدنيا كل صباح.
ومن أجل الصلاة حدث بيني وبينه خلاف يوصف بالعصيان؛ فإنه - رحمه الله - كان يدين بالجد في الواجب، أو بالشدة في الجد، وكان يرى للطفل ما يراه للشيخ، إذا كان الأمر أمر فريضة، أو عمل محمود، أو عرف مأثور ...
من ذلك أنه كان يراني فيما دون الثامنة من عمري أجلس في المنزل بين قريباتي وخالاتي وجارات المنزل، فيصيح بي مستغضبا: عباس ... ماذا تصنع هنا بين النساء؟ ... تعال معي فاجلس بين أمثالك ...
ومن هم أمثالي؟! شيوخ فيما بين الأربعين والسبعين، كانوا يسمرون معه في «المندرة»، ويقضون الوقت في أحاديث الشيوخ عن السياسة تارة، وعن قضايا الأسر الكبيرة تارة أخرى، وقلما يمزحون أو يتفكهون إلا ثابوا إلى وقارهم كالمعتذرين ... وكانت السهرة تنقضي على أحسن حال إذا حضرها شيخ متحذلق معلوم فيه بعض الغفلة ... فيناوشونه بالأسئلة المحرجة، والدعابات المتناقضة ... ثم يعودون إلى ما كانوا فيه. •••
وقد أفادتني هذه الجلسات كل فائدة تأتي من التوقر قبل سن الوقار، وقلما يخلو من بعض الأضرار.
ولكن فائدتها الكبرى كانت - ولا ريب - معرفتي بالقاضي أحمد الجداوي - رحمه الله - فإنه كان من أدباء الفقهاء الذين عاصروا السيد جمال الدين، وأخذوا عنه دروس الحكمة والغيرة القومية، وكان قوي الذاكرة، واسع المحفوظ من المنظور والمنثور، يستظهر مقامات الحريري، وبديع الزمان، ودواوين الشعراء الفحول، ويطارح خمسة أو ستة من الأدباء في وقت واحد فيسكتهم دائما، ولا يسكتونه مرة واحدة. فكانت معرفتي به إحدى الدواعي التي حفزتني للمطالعة، والإقبال على الكتب والدواوين.
ومن أمثلة الجد الشديد في السيد الوالد - رحمه الله - أنه كان ينظر إلى «الصور» كأنها ألاعيب فارغة لا تليق بالعقلاء، فلم يتخذ له صورة قط، ولم يوافقني على شراء صورة من صور الفصول المدرسية التي كانت ترسم للمدرسة كل عام.
على هذه السنة من الجد الشديد أراد - رحمه الله - أن أواظب على الصلاة في أوقاتها قبل العاشرة من عمري، فكان أثقل ما أعانيه في ذلك يقظة الفجر في الشتاء، وهو الوقت الذي يرين فيه النوم على الأطفال، فلا يستيقظون إلا بعد جهد عنيف.
Неизвестная страница