138

ومن الصور التي كانت شائعة في أوائل القرن الحاضر - ولا ترى الآن كثيرا - صورة العمر الإنساني وأدواره من السنة الأولى إلى المائة، فندر دكان حلاق دخلت إليه قبل ثلاثين سنة إلا كانت فيه هذه الصورة التي كان لكل زائر وقفة عندها يتبين فيها مكانه من الدرج الصاعد أو الدرج الهابط، وربما كان التفات الشيوخ إليها أكثر من التفات الصبية والشبان؛ لأن الصبية والشبان واثقون من المكان في حاضرهم وبعد زمن طويل، أو طويل على ما يحسبون، ولكن الشيوخ لا يثقون من مكانهم على هذه الدرجات إلا إلى حين - فهم دائمو التلفت إليه، مخافة أن يضيع! ...

في تلك الصورة طفل مولود في مهده، ثم ولد في العاشرة يعدو وراء طوقه، ثم شاب في العشرين يصاحب فتاة في مثل عمره أو دون عمره بقليل، ثم رجل في الثلاثين معه امرأة تقاربه سنا، وبينهما طفل أو طفلان، ثم كهل في الأربعين تمت له مظاهر السمت والقوة والقوام، ثم يرتقي على قمة الدرج في أوسطه شيخ في الخمسين قد أدار ظهره إلى الدرج الصاعد وقد أدركه بعض الانحناء، واستقبل بوجهه الدرج الهابط وقد تزايد انحناء الهابطين عليه درجة بعد درجة، أو دركة بعد دركة، حتى انتهوا إلى كرسي كمهد الطفل في سنته الأولى، يجلس عليه شيخ فان في المائة، قد نكس رأسه، لا يلتفت إلى الأمام ولا وراء ...

تمثيل حسن لأدوار العمر الإنساني على كل درجة من درجاته مع استحضار الفوارق النسبية بين إنسان وإنسان.

ويصح على هذا التصوير أن تكون الخمسون أعلى الذروة في درجات العمر كله، قبلها الصعود وبعدها الهبوط، وهي بينهما في مكان الاعتدال والاستواء.

ومن المحقق أو الراجح في جميع الأعمار، أن الخمسين نهاية الكسب أو التحصيل من الحياة، ليس بعدها ما يأخذه الإنسان من الدنيا، ويضيفه إلى تكوين عقله وجسمه، ولكنه لا يزال بعدها يعطى الكثير ويفقد الكثير، إيذانا بفقد كل شيء يأخذه التراب من التراب.

إذا قيل على هذا التعبير: إن الثلاثين سن التحصيل، وإن الأربعين سن الجمع والثروة، فالذي يقال في الخمسين إنها سن التصفية و«عمل الحساب» ليعرف الإنسان نصيبه من الربح ونصيبه من الخسارة.

وهي من ثم سن اغتناء وليست سن افتقار، وإن جاز لي أن أقيس على نفسي فهي لا تقل غنى عن الأربعين، وقد تفوقها غنى من وجوه.

تفوقها غنى لأن التدبير فيها أفضل، لا لأن الثروة فيها أعظم، أو تفوقها غنى لأن الحساب فيها أضبط لا لأن الثروة فيها تزداد على التوالي كلما ازدادت السنون؛ إذ هي في الواقع كما أسلفنا تكف عن الازدياد في جملة المكاسب من خيرات الحياة.

فالرجل الذي ضبط حسابه - بعد التصفية الكاملة - قد يستفيد من مائة دينار ما ليس مستفيده غيره من مائتين قبل ضبط الحساب، والرجل الذي عرف ما له وما عليه يعرف على التحقيق أين يضع ماله وأين يمسك عن الإنفاق، وتلك معرفة لا يحيط بها الرجل الذي عنده المال الكثير، ولكنه قد ينفق من ديون، ويكف عن النفقة من الملك المضمون ... •••

هذه هي فضيلة الخمسين على أدوار العمر السابقة: فضيلة المال المحسوب والنفقة المقدورة، والثروة التي لا تزيد يوما بعد يوم، ولكنها لا تضيع في غير طائل، ولا تذهب في غير المفيد.

Неизвестная страница