ثالثا:
إن الإنسان حيوان راق، ولكنه لا يزال «حيوانا» ...
فهذه نظرة «واقعية» لا أومن بها الآن بعد أن جاوزت الأربعين، وليس يتسع المقام هنا لتفصيل الخلاف بين رأيي في العشرين ورأيي في الأربعين، فهذا مجال واسع كثير الشعب كثير التفاصيل، ولكنني أردت أن أقول إن الأمر قد يختلف أحيانا، فيبدأ الشاب بالنزعة الواقعية، ثم ينتهي إلى التعديل فيها، وليس من الضروري في كل حال أن يبدأ بالخيال، وينتهي بالنزعة الواقعية ...
على أن الحقيقة التي لا ريب فيها أن «النزعة الواقعية» عند الشاب لا تخلو من الغضب العنيف على محاسن الخيال والأمثلة العليا، فكما أن الفتى المدله يشعر بالخيانة من حبيبته فيروح ثائرا غاضبا يقسم أنها دميمة، وأنها حقيرة، وأنها لا تستحق منه الشغف، ولا الغضب، ولا النقمة، كذلك يفعل الشاب الذي يخيب أمله في المثل الأعلى فينقلب عليه ثائرا غاضبا يقسم أن المثل الأعلى خرافة، وأن الحياة كلها «مادة »، وأن الإنسان حيوان، وخير له أن يعيش كالحيوان.
فلا ينبغي أن نصدق العاشق المخدوع الثائر على الحبيبة، ولا الفتى المفكر الثائر على المثل الأعلى فإن العاشق يثور وينكر جمال حبيبته؛ لأنه يحب ويريد أن يحب، والفتى المفكر يثور وينكر جمال المثل الأعلى؛ لأنه يؤمن ويريد أن يؤمن. وهذا هو الفرق بين النزعة الواقعية عند الشباب والنزعة الواقعية عند الشيوخ ... ففي الشباب تكون النزعة الواقعية أشبه بالغضب من محاسن الخيال والمثل العليا، وفي الشيخوخة تكون النزعة الواقعية إنكارا لوجود تلك المحاسن والمثل، وعجزا عن الشعور بوجودها مع الرضى عنها أو الغضب عليها ...
فأنا في التفكير بدأت بشبابي «واقعيا»، وانتهيت إلى الشك في قدرة الإنسان على إدراك الواقع كله ... لأن إدراك الواقع كله لا يتأتى لإنسان محدود في زمانه ومكانه وتفكيره وشعوره؛ إذ الواقع كله شيء يتناول الكون في ظاهره وخافيه، وليس للكون حدود في الزمان والمكان، ولا في مؤثراته على الفكر والشعور ... فالذين يحسبون أنهم قادرون على إدراك الواقع في المسائل الكبرى، والأصول الخالدة هم الواهمون، وهم هم الذين لا يستحقون اسم «الواقعيين». •••
هذا في التفكير ...
أما في المسائل النفسية، فالذي أجزم به أن الزمن لا يغير عناصر النفس الأصيلة، ولا يزيد عليها ولا ينقص منها ...
فكل ما كان في نفسي من أخلاق وأطوار وشهوات أحسستها في إبان الشباب الأول لا تزال قائمة هناك أراها في العشرين، وفي الخامسة والعشرين، وفي الثلاثين وفي الأربعين ...
كل ما اختلف منها أنها كانت في حالة الفوران، ثم هي جانحة قليلا إلى الاستقرار ...
Неизвестная страница