ومع هذا يجوز لي أن أقول: إنني طفت العالم من مكاني الذي لا أبرحه؛ لأنني رأيت في هذا المكان ما يراه الرحالون المتنقلون ...
لقد تعلقت بالسياحة في أوائل صباي، وشاقني أن أسيح هنا وأسيح هناك بين مشارق الأرض ومغاربها، ولكنها كانت كلها كما تبين لي بعد ذلك عارضا من عوارض الصبا التي تنزوي مع الزمن وراء غيرها من الميول المتمكنة في السليقة ، فما زالت تضعف وتضعف حتى ليسعني أن أقول اليوم: إنني لولا رياضة المشي التي تعودتها لما خطر لي أن أبرح المنزل أياما بل أسابيع.
ولذلك سبب مني، وسبب من أحوال العصر الذي نعيش فيه.
فأما السبب الذي مني فبعضه يرجع إلى حب العزلة التي نشأت عليها وورثتها من أبوي ...
وبعضها يرجع إلى شعوري بالقراءة التي تعنيني، فإنني أشعر بأنني لا أقرأ سطورا على ورق، ولكنني أحيا في تلك الأوراق بين أحياء.
ومن هنا ألفت بعض شخوص التاريخ كأنني أعاشرهم كل يوم، وألفت بعض الأدباء في قراءة كلامهم فتمثلتهم في ملامح وجوههم وعاداتهم، في حركتهم وسكونهم، واستمليت من ديوان شاعر كابن الرومي سيرة حياته أو صورة حياته، وثبت له في خيالي شكل لا يتغير ولا يزال يلوح لي على هيئة واحدة كلما طاف بي طيفه في منام.
ومثله المعري والفارابي وابن سينا وطائفة من مشاهير الأدب والفن بين الشرقيين والغربيين.
فلو كنت مصورا لاستطعت أن أرسم لكل منهم صورة كاملة كما يرسم المصور أناسا من الأحياء يراهم كل يوم. •••
أما السبب الذي من العصر، فلك أن تقول إنه في الحقيقة جملة أسباب ...
لأن العاصر الحاضر أول عصر ييسر للإنسان - وهو جالس في مكانه - أن يدرك بالبصر والسمع بلادا واسعة على مدى مئات الفراسخ وألوفها، فينظر مساكنها وسكانها، ويشرف على بطاحها، ويتغلغل في دروبها، ويتراءى له في لحظات من معالم هذه المدينة، أو تلك القرية ما ليس يتراءى لساكنها في ساعات أو أيام.
Неизвестная страница