وكأنما الماء في الهدار بهدوء شديد بطؤت حركته، وضحلت حفرته، وآب إلى سكون.
وكأنما البحر الذي انبثق من بين شفتيها بطول الدنيا وعرضها، آب سطحه إلى زجاج.
وبالكاد حاولنا الاعتدال، وهي خجلى ولكنها ليست نادمة، وأنا خجلان، حين لمع شعاع عند الباب على حين بغتة، شعاع أدركت في الحال كنهه وأنه صادر عن زجاج نظارة معوض أفندي أو الباش أسطى أبيها، الطويل الرفيع ذي العينين المتعبتين دائما، واللتين لا بد تجد عند كل زاوية منهما، وفي أي ساعة من ساعات اليوم، نقطة بيضاء من العماص أو الالتهاب لا أعرف.
كنت خجلان ولكني كنت كالمؤمن الذي للمرة الأولى في حياة إيمانه يتصل الاتصال اليقيني المادي بخالقه، وتتم المعجزة، ويتحول عنده الإيمان إلى رسالة ويقين مستعد أن يفقد حياته نفسها وبكل بساطة في سبيلها، وهكذا حين انسحبت حنونة من الحجرة هاربة كالقطة، ودق قلبي الصبي دقة قلب الصبي يضبط، أوقفت دقه بعناد المؤمن المهووس الممتلئ إيمانا، ليس بما فعله منذ لحظات بالذات، وإنما بحنونة، وكل ما يتصل بحنونة، وعلى رأسه أن تستمر علاقته بها، قامت الدنيا أو قعدت، ضربه معوض أفندي أو تشاجر مع أبيه، ردحت أمها لأمي أو خنقتني الأم، سحب أبي بندقيته القديمة من دولابها وأطلق النار على عائلة معوض كلها أو علي أنا منفردا، فليحدث، وإنما كما يصلي العابد لإلهه، كما يتصل الشعاع بأمه الشمس، كما لا يمكن أن تخلو النجوم من الليل، فصلتي بحنونة أكبر من كل هذه الحتميات، باقية وستبقى، إلى أن أموت أو نموت معا، وربما حتى بعد الموت تبقى.
ولكن يبدو أني رغم هذا الإحساس الداخلي المروع، كان وجهي من الخارج، وأمام مشهد معوض أفندي المنتصب طويلا ورفيعا، ينخطف، وينسحب كل ما في جسدي من دم ويسيل مغرقا أرض الحجرة. بقيت واقفا جامد العينين مخفضهما أنتظر العقاب. كنت رغم هذا أدرك أنه جاء بعد النهاية، وأنه لا يمكن أن يخمن حقيقة ما حدث، ولكني بإصرار كنت أنتظر العقاب. وليته عاقبني، ليته ضربني أو سبني، ليته حتى اشتكى لأبي وليت أبي قتلني، فكل ما فعله أنه بعد سكوت طويل قال: أنا كنت فاكرك جدع مؤدب يا محمد.
كلمة من الكلمات التي تلصق بالذهن مدى العمر لا تمحى. كثيرا ما ترد إلى أذنيك، وتجدها فجأة قد انبثقت من غياب الماضي واستحضرت نفسها، حتى على شفتيك تنطق نفسها فترددها، وتشملك رعدة خجل من نفسك وكأنها الرعدة الأولى التي أصابتك حين سمعتها أول مرة، وكلما تذكرتها، تذكرتها كاملة. نفس النغمة والطريقة التي قيلت بها، ولا أدري بالضبط إن كانت قد مرت شهور أو أعوام على ما حدث؛ إذ كل ما تلا ذلك كانت أياما كئيبة ممتدة الطول لا نهاية لها وبلا هدف. آلاف المرات ألف حول البيت علي ألمحها. كنت أعرف أن القضاء قد حل وأن الأمر البات الصريح قد صدر لها من أمها وأبيها معا، ألا تراني، أن أموت تماما من وجودي. وكنت في مرات، مرات قليلة جدا، مرة كل ألف مرة، أراها، أراها من بعيد وأتطلع إليها مكتفيا بنظرة البعد وكأنني الإنسي يتطلع إلى نجوم السماء ، ويحز الهوى القدسي في نفسي أحيانا حتى ليدفعني دفعا أن أقترب، وأظل أقترب حتى لأصبح على مرمى البصر منها، وأناديها، بهمس خفي مرة، بصوت عال مرة، وأشير لها، بيد ترتعش، بيد أحيانا مهووسة متوترة، بذراع تقفز مع الجسد في الهواء وكأنما تريد أن تمسك بخط البصر الكامن بين عينيها المستقيمتين وبين الأفق. ولكنها لم يحدث أبدا أن رمش لها جفن الإدراك، إدراك وجودي، واقفة أبدا في قلب مربع النافذة الأصفر الذي تقطع صفرته عمدان الحديد، عارفة بوجودي، هكذا أحس وأكاد أقسم ولكني أعرف أنها لا تدركه أو تأبى إدراكه، لا بد أنها قطعت على نفسها عهدا أمام أبويها، وعهود حنونة، كحنونة، مقدسة، ومحال أن تحنث بالعهد المقدس. أذوب وجدا وأنا أتذكر، أتذكرها من لحظة عرفتها إلى لحظة المعرفة الأعظم، أتذكر كل حركة صدرت عنها، كل كلمة عرفتها، إلى لحظة المعرفة الأعظم، أتذكر كل حركة صدرت عنها، كل كلمة، كل نظرة ذات معنى ارتسمت ذات مرة على ملامحها، أتذكرها وأذوب وجدا وشوقا وأقتل نفسي ندما. أكان لا بد أن أصل إلى المستوى الأعظم ألم يكن القرب مجرد القرب، أهون ألف مرة من التلاشي التام إلى حد القطيعة. كنت كالبطل في قصة ألف ليلة وليلة ذلك الذي تركوه في القصر ذي الأبواب السبعة وأمروه ألا يفتح الباب السابع للحجرة السابعة، وعاش في القصر ينعم ويستمتع، ولكنه لم يستطع أن يقاوم المتعة الأكبر، أن يفتح الباب السابع، وفتحه، ورأى ما لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر، ولكنه في النهاية وجد نفسه هناك خارج القصر في النقطة السحرية التي فتح له باب القصر منها، كأننا عاديا قد عاد إلى الدنيا العادية، ووجد هناك ستة يرتدون السواد ويجلسون في بكاء متصل، إنهم أولئك الذين سبقوه إلى الندم، وانضم مالك الحزين بملابسه السود ليصبح سابعهم، أكان لا بد من الباب السابع والمتعة الأعظم؟ كمالك الحزين أبكي، وبالندم أحيا، والعالم كئيب، والأيام من فرط طولها عجوز رمادية شائخة، والليالي بلا منتصف أو فجر أو صباح ، والعمر بلا زمن، إلى أن جاء الخريف، وسرت الإشاعة ولا أصدق أنا، وتحدد اليوم، والشخص، وحلت الليلة، وانتثرت الكلوبات في المستعمرة، وتركزت في المربع الأوسط الواسع، الأضواء تكسر الظلام باهرة، والشموع كثيرة لا حصر لها، حتى رائحة الشموع نفسها كانت على البعد تشم، وابن عمها جاء من الصعيد ليتزوجها، وهم يزفونها إليه، ونفس القسيس الذي يزورهم بين الحين والحين قد حضر من كنيسة البندر، والكل يغني ويردد وراء القسيس: كير ... يا ... ليسون، ارحم يا رب، يا رب ارحم، وحنونة في ثيابها البيضاء الناصعة، وعقد الفل، والطرحة، وقد حملا وجهها بأكثر مما يحتمل من ألوان وأصباغ، ولكن بقيت لها نظرة العينين غير مصبوغة، وإنما هي زائغة مروعة تائهة، تتحرك مدفوعة بالأيدي الكثيرة التي تتجاذبها، تتحرك كالمنومة مغناطيسيا كمن تؤدي دورا، وثمة ابتسامة شاحبة خائفة لا تغادر وجهها، وإلى جوارها أفندي ربما لم تره في حياتها إلا الليلة، ضخم الجثة، أسود الشارب كثيفه، يرتدي «بالطو» أسود وشعره لامع شديد اللمعة بما فيه من بريانتين، العريس منتفخ الأوداج وكأنه لتوه قد ربح صفقة، يمضغ ويتملظ ويضحك من أعماق صدره وأحيانا دون أن يريد، وحنونة إلى جواره كالحمامة المسوقة الوديعة، تتجاذبها الأيدي وتدفعها، وتبتسم في شحوب وعيناها هائمتان تبحثان عن شيء بين نجوم السماء وكأنها العدرة فقد منها مسيحها، والعذراء راضخة، صابرة، وحيدة، تفتش السماء بعينيها بحثا عن الخلاص، من يدري ربما كانت تفتش عني وأنا قابع فوق السطح أتألم وأندم وأرقب، والكل يردد: كير يا ليسون، كير يا ليسون.
البراءة1
ابتسامة الجنرال والزورق والدعوة. الابتسامة غير بعيدة على مرمى البصر، والدعوة قائمة ومستمرة ومتجددة، كرياح خافتة دائمة الهبوب. الزورق تتلاعب به المياه، تعلو به موجة، تنخفض به موجة، بإغراء كبير يتلاعب، الابتسامة غير واسعة، وكأنما بالإرادة محددة الحجم، مضبوط ارتفاع شفتها العليا. مقاس تأثيرها بدقة زائدة. الجنرال سمين أكثر مما يبدو في صوره بالصحف، واقف يتمشى، راض عن الدنيا تماما. صلعته الأمامية تلمع بحبيبات عرق تحت ضوء الشمس. الشمس حارة لكنها غير لاسعة ، في الحقيقة مبتسمة . تلف الجو كله بروح الإغراء والدعوة. عصا الجنرال تحت إبطه ولكن ثيابه مدنية، وقميصه صيفي بنصف كم. البقعة السوداء التي تحجب عينه من فرط الرضا المبتسم والوجه المكتنز قد اختفت أو كادت. في الحقيقة لا ألحظها. لا أرى أظافر، أو رءوس حراب أو خناجر غدر. الجمهور على المرسى الخشبي القديم، متدلي الرءوس من فوق الحاجز، يتطلع ساكتا سكوت الدهشة، سكوت حب الاستطلاع، سكوت يوم الدين، ولكنه سكوت عظيم. الجنرال لأمر ما، لخاطر ما، ضحكة فقط فتحت فمه، أسنانه تبدو قديمة منفرجة، متسخة قليلا، ولكنها بلا أنياب، بلا أنياب.
ابتسامة الجنرال والزورق والدعوة، وعبرت. كيف؟ لا أعرف. على ماء كالحرير، أو حرير من الماء، عبرت، بالنزوة، بالتلقائية بالرغبة، عبرت. هببت. كما تهب النسمة في الاتجاه المضاد، هببت. أصبحت هناك. اهتزت أهداب العين الواحدة في ترحاب وقور. الابتسامة أضيف إليها طعم الاكتفاء. عصا الضباط العظام تراخت تحت إبط لم يعد مشدود العضلات. لم تمتد يده تصافحني. في وجهه تعبير من لا يريد إحراجي، من يعرف أني لن أصافحه. أنا فقط أريد أن أرى، مجرد أن أرى وأتفرج عن كثب أشاهد، والرؤية ليس لها دنس. نظيف أنا مثل «بفتة المحلة» البيضاء. كيف أصافح وأيديهم ملأى بالحيات والثعابين والعقارب؟ أنا متأكد أنني لو مددت يدي، وصافحت، لالتصقت باليد التصاق الأبد، ولا أعود أستطيع الانفصال. للفرجة جئت، وعلى الضفة الأخرى كنت أتفرج. والآن، عن قرب أفعل. فماذا يضير؟ ماذا يضير؟
أتجول، وفوق الشاطئ الرملي أقدامي تتحرك، خفيف الوزن كأني هبطت فوق القمر، هبطت فوق الوجه الآخر للقمر. الشمس تماما غير مباشرة. نورها يأتي، ضعيفا واهنا، كنور الغسق، من كل اتجاه يأتي، وإلى كل اتجاه يمضي، فلا يبقى إلا أثر الغسق.
Неизвестная страница