ركزت جهدي في المنهج الذي نحتاجه لنتجاوز به الفشل وضعف الثمار التي أثمرها خطاب التجديد خلال القرنين الماضيين باعتمادهم على نفس الأساس اللاهوتي (الأشعري/الحنبلي). وجاءت ندوة باريس التي دعيت إليها حول موضوع السبل العملية لتجديد الخطاب الديني في الثاني عشر من أغسطس ألفين وثلاثة، فقدمت ورقة بعنوان «نحو منهج إسلامي جديد للتأويل»؛ فمنذ عصر الخليفة العباسي «المتوكل» (205ه/847م-247ه/861م) توقف النقاش حول إشكالية تعريف «الكلام الإلهي» وعلاقته بالذات الإلهية، والتي عرفت بقضية «خلق القرآن»، وحسمت بأمر سياسي، وتم تحديد العقائد الصحيحة وتمييزها عن العقائد الباطلة، واعتبرت عقيدة «خلق القرآن» بدعة، وصار تصور القرآن الأزلي القديم هو العقيدة الصحيحة، حتى أتى «محمد عبده» (1849-1905م) في العصر الحديث في كتابه «رسالة التوحيد»، وفتح النقاش حول قضية الوحي وكلام الله. وفي الطبعة الأولى انحاز لموقف المعتزلة، لكن حدث تغيير لهذا الموقف في الطبعة الثانية من الكتاب التي أخرجها تلميذه «رشيد رضا»، منحازا لموقف «الأشاعرة» الذي يميز بين الصفة الأزلية للكلام الإلهي والقرآن المتلو المحكي بأصواتنا البشرية، وهذا هو المخلوق. ومنذ هذا التردد ظلت محاولات التجديد تدور في فلك اللاهوت الأشعري، ورويدا رويدا غاب هذا التمييز الأشعري بين جانبي الكلام الإلهي لحساب الموقف الحنبلي الذي يصر على صفة واحدة بلا تمييز، وهي أن كلام الله أزلي قديم وصفة من صفاته الأزلية القديمة.
وتعرضت لبعض المحاولات الجزئية التي حاولت الاقتراب منها دون أن تتناول السؤال المكبوت من القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي؛ فعرضت ل «محمود محمد طه» (1909-1985م) في السودان، والذي حاول التمييز بين رسالتين في الوحي؛ الرسالة المكية وهي الأصل والجوهر، ورسالة ما بعد الهجرة وهي الرسالة المدنية. والإشكال هو أنه يعطي نفسه الحق في فهم علمي المكي والمدني والناسخ والمنسوخ من علوم القرآن خارج سياق التاريخ الاجتماعي والسياسي للمسلمين. وقريب من هذه المحاولة محاولة «محمد شحرور» المولود عام 1938م، رغم اختلاف الأسلوب، حيث المصحف يحتوي على جانبين؛ الجانب الأول: جوهر ثابت هو القرآن، ومصدره هو النبي، وهو المتشابه الذي يحتاج إلى الراسخين في العلم لفهمه وتأويله. والجانب الثاني من المصحف هو: الجانب الواضح، وهو الكتاب، وهو التاريخي المؤقت القابل للتطور، ومصدره هو الرسالة والرسول. و«شحرور» يتعامل مع اللغة ككائن هلامي بلا معجم وبلا دلالة استعمالية؛ مما يجعله يستنطق القرآن بمعان ودلالات محددة سلفا.
وتعرضت لمحاولة اثنين من المشاركين في الندوة؛ مشاركة «جمال البنا» المولود عام 1920م، وهو يميز تمييزا حادا بين الإسلام والمسلمين؛ حيث الإسلام جوهر ثابت متعال لوثته الأفهام حين اختلط الإسلام بالحضارات القديمة. ومن جهة أخرى يتعامل مع النصوص التأسيسية كنصوص بلا سياق إنساني مفارقة للتاريخ وللثقافة؛ مما يجعل قراءته تتميز بالانتقائية، ويسهل من ذلك نفيه للثقافة الإسلامية بما فيها الفقه من أفق منظوره التفسيري. وعرضت لتجربة «خليل عبد الكريم» (1930-2002م)، وهو مشغول بالنقد التاريخي، لكنه لا يكاد يتجاوز عنده منهج نقد الرواية في التراث. وفي صراعه مع سلطة التقديس يوظف النقد التاريخي لغايات براجماتية، فيقع في انتقائية واضحة للنصوص التراثية التي تحقق غايته، ويهمل تلك التي تعارض أهدافه. ويمكن أن نستثني من كل هذه المحاولات محاولة «حسن حنفي» المولود عام 1935م، الذي أعاد وأفاد عن العلاقة الجدلية بين الإلهي والإنساني في مفهوم الوحي. وأيضا المفكر الباكستاني «فضل الرحمن» (1919-1988م)، الذي أكد الدور الإيجابي للنبي في عملية الوحي، قائلا إنه لم يكن مجرد ساعي بريد. لكن سؤال كلام الله ظل غائبا عنده.
وحاولت أن أضع بعض النقاط التي أفكر فيها؛ فسؤال القدماء في القرون الأولى من تاريخ الإسلام استجابة للسؤال المسيحي حول تناقض القرآن في فهمه للمسيح، بكونه كلمة الله وروحا منه وبين كونه إنسانا مخلوقا من جهة أخرى. كان السؤال هو ما إذا كان كلام الله قديما أزليا أم محدثا مخلوقا. ومفهوم أن القرآن كلام الله الأزلي القديم، وصفة من صفات الذات الأزلية القديمة؛ فتصبح اللغة العربية قشرة على معانيه. وبما أنها قشرة فإن علوم اللغة والبلاغة والأسلوب والدلالة هي علوم مهمتها إزالة القشور للبحث عن الدرر الكامنة. وهذا التعريف هو الأساس الذي يسوغ أسلمة العلوم بالقدر الذي يسوغ العنف والقتل والتكفير باسم الله؛ فإذا كان هذا هو سؤال التراثيين فإن سؤالنا الآن في سياق الدرس العلمي والفهم الموضوعي هو: ما معنى أن القرآن كلام الله؟ وتتفرع عنه أسئلة كثيرة عن طبيعة الوحي وكيفيته، وهل كان تواصلا باللغة أم تواصلا بالإيحاء والإلهام.
فإن الله تعالى يقول:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء
والتراثيون قسموا طرق التواصل من قراءة هذا النص إلى ثلاثة أنماط؛ الأول: الوحي بمعنى الإلهام كما في كلام الله لأم موسى. والثاني: هو كلامه مع موسى من وراء حجاب الجبل. النمط الثالث: هو نمط الوحي في الإسلام عن طريق وسيط هو جبريل. وقالوا عن هذا التواصل بين جبريل ومحمد كان تواصلا لغويا بالعربية، وهو تفسير تتأبى عليه الآية التي تنص على أن «الرسول/الملك» «يوحي» إلى البشر بما يشاء الله، ومعنى ذلك أن الاتصال بين جبريل ومحمد كان اتصالا غير لغوي، اتصالا بالوحي؛ أي بالإلهام. وهناك روايات كثيرة تنسب إلى الرسول أن الوحي كان يأتيه مثل صلصلة الجرس أو طنين النحل. من ذلك ينفتح الباب للنقاش عن معنى التنجيم، ما معنى أن القرآن نزل مفرقا حسب الأحوال والملابسات؟ وسؤال آخر نابع منه هو: هل القرآن نص واحد أم كثرة من النصوص لكل منها سياقه الخاص؟ وسؤال ينبع من ذلك: لماذا حين جمع القرآن في مصحف لم يرتب حسب النزول؟ وهذا ليس تشكيكا في القرآن، بل لفتح النقاش بحثا عن حكمة الترتيب الحالي، سواء كان هذا الترتيب إلهيا أو بشريا كما يذهب البعض. ودراسة عملية الجمع والتدوين في المصحف، كيف بدأت؟ وكيف تطورت من رسم المصحف بلا تنقيط ولا حركات أو فواصل أو علامات وقف؟ وما علاقة كل هذا بالقراءات المعتمدة؟ ولا نتغافل أو نتجاهل الصحائف الباقية من مصاحف مختلفة، والتي تم العثور عليها بالمصادفة في سقف أحد مساجد صنعاء باليمن بعد سقوط السقف بفعل المطر سنة 1972م، وهي مكتوبة بخط حجازي.
إذا لم يتغلب علينا ضعف الإيمان فنرفض مجرد النقاش وفحص الوقائع، ونصر على أن نجمد عقولنا؛ فإن هذه الأسئلة لن تهدم الدين ولن تزعزع اليقين، بل من المؤكد أنها ستفتح لنا مجالا للفهم لنمتلك تراثنا ونبني عليه من خلال طرح أسئلتنا نحن، بدل أن يكون تراثنا عبئا علينا كما هو الحال الآن. فمتى نبدأ؟ هذا هو السؤال. خرج هذا العام المجلد الثالث من الموسوعة القرآنية، وبه مشاركة لي عن الاضطهاد.
12
منذ محاضرتي عام ألفين لكرسي «كليفرنجا» للحريات في جامعة «لايدن»، التي ركزت فيها على تحليل البعد الرأسي في عملية الوحي. عملية التواصل بين الله والنبي محمد هي العملية التي أنتجت القرآن. وكنت وصلت في محاضرة العام الماضي في باريس إلى أن النظر للقرآن كمجموعة من النصوص لكل منها سياقها، لكن ظلت القضية تشغلني. وفي محاضرة كرسي «ابن رشد»، في جامعة الإنسانيات بأوتريخت، كانت محاضرتي كأستاذ للكرسي في السابع والعشرين من مايو ألفين وأربعة، «إعادة التفكير في القرآن، نحو تأويلية إنسانية»، أن النسخة الأولى لرسم المصحف دون تنقيط وإعراب قد تم إنجازها في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان (23ه/644م-35ه/656م)، والنسخة النهائية للمصحف بعد إضافة علامات التنقيط وعلامات الإعراب قد تم إنجازها في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. وبها تمت عملية التقنين للمصحف الحالي.
Неизвестная страница