وأوجه الشكر لجامعة لايدن، وللأكاديمية الهولندية، والزملاء في الدراسات الإسلامية والدراسات العربية، وإلى قسم المشروعات. والشكر الجزيل لطلابي الذين تعلمت منهم أكثر مما تعلموا مني، والصديقة «منى ذو الفقار» التي جندت نفسها لقضيتي أنا وزوجتي. وأشكر صديقي د. «أحمد مرسي»، والصديق الكريم د. «محمد أبو الغار»، وشكري إلى ابنتي «شيرين أبو النجا»، الذين اكتملت سعادتي بحضورهم من القاهرة ليكونوا هنا، وإلى أمي - رحمها الله - ومعروفها علي. وأشكر رفيقة الدرب «ابتهال» على مساندتها وحبها، والأهم إيمانها بالتحدي. وشكري إلى د. «فريال غزول» وإلى «شيرين» لمراجعة المحاضرة لغويا.
8
أدركت صعوبة أن أكتب عن «ابن عربي» (560ه/1165م-638ه/1240م) بلغة ليست لغتي الأولى، وكدت أن أعتذر عن الكتابة عنه للناشر الألماني، لكنه لم يسمح لي بالاعتذار، ووافق أن يتحمل تكاليف الترجمة من العربية إلى الألمانية، وفوجئت أن الأستاذة «آن ماري شميل» وهي من هي في ريادة الدراسات الصوفية قد تفضلت مشكورة بالموافقة على أن تترجم ما أكتب بالعربية إلى الألمانية. وحرص الدكتور سمير سرحان، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، على تقديم بعض كتاباتي للقارئ في سلسلة مكتبة الأسرة. انتهيت من كتابة الكتاب في يونيو ألفين وواحد، فأهديته إلى أهلي في القرى والنجوع؛ فمن أغانيكم تعلمت الغناء. كان عمي حسن سمك - رحمه الله - أول من علمني الشعر في قريتي، وأول من علمني التصوف؛ فإليه ولكم أهدي هذا الكتاب.
فمنذ رسالتي للدكتوراه وأنا أتوق للعودة للسباحة في محيط فكر «ابن عربي» مجددا، لكن يبدو أن خوف الغرق ظل ماثلا في وعيي، فكنت أعود لقراءة بعض أشعاره أو مراجعة فكرة ما، أو للتأكد من صدق استنتاج ما سبق أن توصلت إليه. في التمهيد ربطت بين عصر «ابن عربي» - القرنان السادس والسابع الهجريان، الثاني عشر والثالث عشر الميلاديان - وبين قرننا الواحد والعشرين. المفكرون الفلاسفة دائما قلقون على مستقبل العالم؛ فالحداثة في أوروبا اعتمدت على عصر التنوير الذي حرر الإنسان من سلطة الكنيسة وقوانينها الإطلاقية؛ مما أدى إلى الطرف النقيض بجعل النسبية مفهوما مطلقا، وحركة المد الاستعماري، وتوظيفها السياسي لتصنيف البشر إلى متحضرين هم أبناء الغرب، وسواهم من البشر همج، وسيطرة ثقافة أهل الشمال التي رأت فيها ثقافات الجنوب المحلية رمزا للظلم والعدوان، والعولمة التي تحولت إلى إله جديد له قوانين لا يجوز مخالفتها، بل لا بد من الخضوع والانصياع لقوانينها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. لقد صارت العولمة دينا، ظالما، فسعى البشر لمقاومة هذا الدين الجديد والتصدي للاهوته المضمر باستدعاء الدين في كل الثقافات بلا استثناء، وفي داخل المجتمعات التي أخرجت الحداثة أيضا تم استدعاء الدين، لكن لا يكفي استخدام الأسلحة الدينية التقليدية، بل لا بد من شحذ أسلحة دينية جديدة لم يتحصن ضدها إله العولمة بعد.
في هذا الإطار يأتي فكر «ابن عربي» الذي يعكس بانوراما الفكر الإسلامي في عصره، وهو همزة الوصل بين التراث العالمي والتراث الإسلامي، بل إنه أسهم في إعادة تشكيل التراث الإنساني مؤثرا فيه، بدليل دراسات المستعرب الياباني «تشيكو أوزوتسو»، والمستعرب الإسباني «آسين بلاسيوس»؛ فاستدعاء «ابن عربي» مع غيره من أعلام الروحانية في كل الثقافات قد يجعلنا نجد في تجربته وتجاربهم ما يمكن أن يمثل مصدر إلهام في عالمنا؛ فالتجربة الروحية هي مصدر الإلهام للتجربة الفنية، وهي الإطار الجامع للدين والفن. وفي السياق الإسلامي استعادة ابن عربي من الهامش إلى متن الثقافة مرة أخرى. ونتيجة لسيطرة الرؤى السلفية على الخطاب الإسلامي، والآلة الإعلامية الغربية نجحت إلى حد كبير في جعل الإسلام عدو الحضارة والتقدم، وتجعل من المسلمين مجموعة من الإرهابيين القتلة، فلا تنوع ولا تعدد في الفكر الإسلامي؛ لذا فنحن نحتاج إلى ترسيخ قيمة الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل، محل الصراع والحروب، وهنا يبرز فكر «ابن عربي» كرصيد ثري لنا جميعا.
اعتمدت في الكتاب على ما قاله «ابن عربي»، فنتعرف إليه من خلال ما أخبرنا هو عن نفسه؛ أي الصورة التي رسمها الشيخ بنفسه لنفسه، والسؤال الأول هنا هو: لماذا اتخذت حياة «ابن عربي» هذا المسار الخاص، رغم انتمائه لأسرة كانت كل ظروفها ترشحه للعمل في الديوان أو الانخراط في سلك الحياة العسكرية؟ والسؤال الثاني هو: إلى أي حد يعد هذا التحول في حياة الشيخ انقلابا؟ وهل كان انقلابا بالفعل أم كان تطورا طبيعيا في بناء الشخصية؟ فتتبعت سيرته من خلال النصوص التي تتضمن وقائع يحكيها الشيخ عن حياته وترتيبها زمنيا وتحليل محتواها. في الفصل الأول تتبعت تحول الفتى «ابن عربي» مما أسماه الجاهلية إلى طريق الولاية، والذي بدأ في فترة مبكرة من حياته بلا شيخ ولا معلم، وعلاقته بالشيوخ الذين يذكرهم بإجلال كبير، وكانت علاقة ندية وتكافؤ.
وسؤال: لماذا رحل الشيخ عن الأندلس والمغرب إلى المشرق بلا عودة؟ وهو ما تعرضت له في الفصل الثاني، ونقدت رؤية «هنري كوربان» عن عدم انتماء خطاب «ابن عربي» إلى عصره وإلى عقيدته، فنظرت إلى الشيخ من جانب التاريخ بما يرتبط به من قيود الزمان والمكان، وتجربة «ابن عربي» من خلال جدلية العلاقة بين الروحي الكوني والتاريخي الثقافي؛ فخطاب «ابن عربي» موزع بين صفاء فكره وتعالي تجربته الروحية، وبين تجربة زمانه وانتمائه الثقافي والحضاري والديني، والتعارض بين سمو خبرة الروح وزمانية الوجود الإنساني. تطورت رؤية «ابن عربي» للواقع الذي رحل من مغربه إلى مشرقه بحثا عن خلاص؛ فلما وجد الأمر في المشرق لا يقل سوءا عنه في المغرب أدرك أن لا خلاص إلا باليقظة الكبرى. وفي الفصل الثالث علاقته بابن رشد، وكان آخر ما شاهده «ابن عربي» في الأندلس قبل تركها نهائيا هو جنازة ابن رشد الفيلسوف والقاضي، صديق والده. فهل كان «ابن رشد» آخر خيط يربطه بالأندلس وبالمغرب؛ فلما انقطع الخيط بوفاة ابن رشد قرر الرحيل بلا عودة؟ وحللت في فصلين اللغة الإشارية وسيطرة البنية القرآنية كنموذج ونمط سردي على بنية كتاب الفتوحات المكية. وفي النهاية عرضت نموذجا للتأويل عند «ابن عربي» لم أعرضها في رسالتي للدكتوراه منذ عشرين عاما عن التأويل في القضايا اللاهوتية والوجودية والمعرفية، فحللت هنا تأويله للشريعة ومسائلها.
نشرت مقالا بمجلة «الثقافة الجديدة» العراقية عدد 295، عن «هل هناك مفهوم للحكم والسلطة في الفكر الإسلامي؟» تناولت مسألة: هل هناك في النصوص التأسيسية مفهوم للحكم والسلطة؟ وما علاقة هذا المفهوم - إذا كان موجودا - بالتجربة التاريخية؟ فمن دلالة «حكم» في القرآن التي تشير إلى القضاء، ويتم توسيع دلالتها لتضم الحكم بالمعنى السياسي عند المودودي وسيد قطب. وفي التجربة النبوية يمكن أن يقوم بدور تأسيس سلطة سياسية، لكن لا يمكن اعتبار كل تأسيس لسلطة تأسيسا لدولة. وما نسميه بالدولة الإسلامية في حقيقتها لها بنية إمبراطورية، وهي جزء من إمبراطوريات ذلك الوقت. وقد وترك الخلفاء والسلاطين المجال للسلطات المحلية حرية تطبيق القانون. ومع انهيار الإمبراطوريات وظهور الدولة الوطنية الحديثة كان التحدي؛ فمنذ جمع «محمد علي باشا» علماء الأزهر ليحاولوا وضع قانون طبقا للشريعة يحكم به ولم يستطيعوا. والمشكلة تكمن في تحويل الشريعة إلى قانون يفهمه الناس . وإذا تركت الشريعة على بنيتها الحالية فهي إعادة إنتاج إمبراطورية، حيث يقرر كل مفت وكل فقيه وكل واعظ الرأي الذي يراه صوابا. وهذا يتعارض مع الدولة الحديثة التي تعني توحيد البناء القانوني وسيادة القانون. وفي مصر نشأ نظامان قضائيان، وجعلت الشريعة محصورة في الأحوال الشخصية، وأعطيت للقاضي بها وظيفتان متناقضتان؛ وظيفة القاضي الذي يطبق القانون، ووظيفة المشرع الذي يعود بنفسه إلى الفقه الحنفي ويختار، في زمن استقلت فيه السلطة التشريعية عن السلطة القضائية.
نشرت لي مقالة باللغة الإنجليزية في يونيو ألفين وواحد عن مفهوم العدل في القرآن، تناولت فيها مفهوم العدل في القرآن، ومفهوم العدل الإلهي، وعن العدل والمساواة والعدالة الاجتماعية، وعن العدل والقسط، وذلك من خلال مجالات مفهوم العدل في الفقه وفي اللاهوت الإسلامي والفلسفة والتصوف، وقبلها جميعا في التفسير. وخرج في نفس العام المجلد الأول من الموسوعة القرآنية عن جامعة «لايدن» من مطبعة بريل، والتي أنا عضو في مجلس تحريرها منذ سنوات، وبه مشاركة لي عن التكبر.
9
Неизвестная страница