2
بعد فترة عسرة بدأت مصطلحات ومفاهيم «الهرمنيوطيقا» تتفتح لي، وازدادت درجة فهمي. قرأت في الفلسفة الوجودية وعن العلاقة بين الأنا والوجود، وأدركت مدى اعتماد العلوم الاجتماعية والإنسانية على التفسير، تفسير الظواهر؛ مما يجعل نظرية التأويل - أي القواعد العامة التي تقوم عليها عملية التفسير - مهمة في هذه العلوم؛ فهذه العلوم تحتاج إلى نظرية تأويلية. وجدت إعلانا في الجامعة عن برنامج تدريسي عن مادة التأويلية (الهرمنيوطيقا)، وكان التسجيل فيه بتصريح خاص من الأستاذ، فذهبت أقابله، وطلبت أن أدرس «الكورس»، فأخبرني أني الطالب الوحيد في الجامعة الذي فهم معنى هرمنيوطيقا وأهميتها. ولم يكن يعرف ماذا يمكن أن يفعل، فسألني لماذا أريد دراسة «الكورس». وبعد حوار طويل قال: أنت عندك أسئلة من ثقافتك؛ أنت من ستجيب عليها، ومعرفتك التي حصلتها هي البدايات التي كان «الكورس» سيساعدك فيها، والآن أنت تعرفها، فاستمر.
أين تكمن الحقيقة؟ هي مشكلة «محيي الدين ابن عربي»، وهي نفس المشاغل والإشكاليات التي تتعامل معها نظرية التأويل. مشكلة «الذات والموضوع» والصلة بينهما. هل الحقيقة تكمن في الذات أم في الخارج أم في العلاقة بينهما؟ «ابن عربي» يرى أن الحقيقة تتشكل وتتلون كتشكل الماء بشكل الإناء الذي يستقبله، وكتلون جلد الحرباء حسب لون السطح الذي تعيش عليه؛ فالحقيقة ليست خارج الوعي، لكنها نتاج العلاقة بين «الذات» و«الموضوع». وإشكال آخر؛ هل الحقيقة ذاتية بشكل كامل أم يمكن التحدث عن تداخل بين «الذات والموضوع»؟ بدأت أشعر أن الحدود الفاصلة وهمية بين اهتمامات الهرمنيوطيقا أو التأويلية، وما أقرؤه في الثقافة العربية الإسلامية وكتابات «ابن عربي». نعم هناك إجابات مختلفة باختلاف الثقافة واللغة، لكن هناك هموما مشتركة. كلما قرأت في «ابن عربي» وفي تراث الهرمنيوطيقا الغربي، شعرت بالحاجة إلى نقل هذه المفاهيم والأفكار إلى اللغة العربية، وفكرت في الإعداد لأول مقال طويل أو دراسة قصيرة سوف أكتبها عن الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص.
الهرمنيوطيقا أو التأويلية قضيتها الرئيسية هي تفسير النص، بالتركيز على علاقة المفسر بالنص، وهي مصطلح استخدمه اللاهوتيون في تعاملهم مع الكتاب المقدس عام 1062ه/1654م، ويقصدون به القواعد والمعايير التي يتبعها المفسر في تفسير النص، ويفرقون بينها وبين عملية التفسير نفسها؛ عملية تطبيق هذه القواعد والمعايير. واتسع مفهوم المصطلح في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية ... إلخ. والتأويلية في تركيزها على علاقة المفسر بالنص لا تخص فقط الفكر الغربي، بل لها وجودها في تراثنا العربي القديم والحديث. وعلاقتنا مع الفكر الغربي يجب أن تكون علاقة حوار جدلي؛ فلا نكتفي بالاستيراد والتبني، بل ننطلق من همومنا الراهنة وواقعنا؛ فلا نلهث وراء كل جديد لمجرد أنه جديد.
فعلى مستوى تفسير القرآن في تراثنا القديم كان التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي أو التأويل. الأول يهدف للوصول إلى معنى النص كما فهمه المعاصرون لنزوله، بجمع الأدلة التاريخية واللغوية. والتفسير بالرأي نظر إليه على أنه تفسير غير موضوعي؛ لأن المفسر يبدأ من موقفه الراهن يحاول أن يجد سندا في القرآن لموقفه. الاتجاه الأول يتجاهل المفسر ويلغي وجوده لحساب النص، بينما لا يتجاهلها الاتجاه الثاني. وفي واقعنا النقدي الحديث، المعضلة تتمثل في أن كل ناقد يعتقد أن تفسيره هو التفسير الصحيح، كما قصده المؤلف، وانظر إلى الدراسات عن «نجيب محفوظ»؛ فهو عند ناقد كاتب الاشتراكية الأول، وعند ناقد آخر هو كاتب الإسلامية الروحية.
العلاقة بين الفن والأدب، أو الإبداع والعالم، منذ «أفلاطون وأرسطو» حتى العصر الحديث فيما عرف بالكلاسيكية، تؤكد دور الواقع الخارجي على حساب دور الفنان أو المبدع من خلال المحاكاة. وجاء تيار الرومانسية ليؤكد دور المبدع على حساب الواقع، وركز على العمل الأدبي بوصفه تعبيرا عن عالم الفنان الداخلي، فحولت عملية نقد العمل الفني إلى انطباعية. ومع مرحلة الجزر الرومانسي خطت الدراسة الأدبية على يد «ت. س. إليوت» خطوة جديدة جعلت النص هو محور اهتمامها، منكرة علاقته بمبدعه أو الواقع؛ وذلك بالتركيز على تحليل النص وترك مجال علاقته بالمبدع أو الواقع لمجالات أخرى تدرسها غير النقد الأدبي. وجاءت البنيوية (البنائية) مستفيدة من مناهج علم اللغة، في البحث عن البنية التي تؤدي إلى اكتشاف نظام العمل الأدبي، فيتم تجاوز ثنائية «الذات والموضوع» بإخضاعها إلى فكرة النظام. من هنا دور التأويلية (الهرمنيوطيقا) لتركيزها على علاقة المفسر بالنص، والتي أهملتها كل النظريات.
قرأت عن جهد الألماني «شليرماخر» (1180ه/1768م-1248ه/1834م) بالخروج بالتأويلية من مجال علم اللاهوت ودراساته لتكون علما قائما بذاته. النص وسيط لغوي ينقل فكر المؤلف إلى القارئ؛ ففيه جانب موضوعي مشترك بين المؤلف والقارئ يجعل عملية الفهم ممكنة. وأيضا يشير النص إلى الفكر الذاتي لمبدعه في طريقة استخدام المبدع الخاص للغة. والعلاقة بين الجانبين علاقة جدلية. وهدف القراءة هو فهم النص كما فهمه مؤلفه. ورغم النقلة المهمة للهرمنيوطيقا على يديه ومفهومه عن الدائرة التأويلية، فإنه حرص على وضع قوانين ومعايير لعملية التفسير تحاشيا لسوء الفهم، فطالب المفسر أن يتباعد عن ذاته وأفقه الراهن.
وفيلسوف التاريخ الألماني «ويلهلم ديلثي» (1247ه/1833م-1328ه/1911م) حاول تأسيس منهج موضوعي للإنسانيات بالتركيز على تحليل حقائق الوعي؛ فالتجربة الذاتية هي أساس المعرفة، والتأويلية عنده تدخل في إطار أكبر من النص ، تركز على فهم التجربة كما يفصح عنها العمل الأدبي من خلال معايشة التجربة التي يعبر عنها النص؛ فمن خلال المعايشة يفهم الإنسان نفسه، وليس من خلال التأمل العقلي، بل من خلال التجربة. وتركيزه على تجربة الحياة ودور المفسر في عملية الفهم أثرا في فكر من أتوا بعده.
الفيلسوف «مارتن هيدجر» (1305ه/1889م-1395ه/1976م) حاول إقامة التأويلية على أساس فلسفي، أو يقيم الفلسفة على أساس تأويلي؛ فوعي الإنسان لوجوده يفصح عن نفسه خلال تجربة حية وفهم آني تاريخي يتشكل من تجارب يمر بها الإنسان؛ فالأشياء تتجلى لنا، والعالم يكشف نفسه للإنسان من خلال عمليات مستمرة من الفهم والتفسير، واللغة هي التجلي الوجودي للعالم. ونحن لا نلتقي النص خارج إطار الزمان والمكان، نلتقي به متسائلين هذه الأسئلة التي هي الأساس لفهم النص وتفسيره، لكن «هيدجر» أغفل الخاصية المميزة للفن، وأهدر ذاتية المبدع في سبيل التجربة الوجودية.
و«هانز جادامر» الألماني أيضا (1316ه/1900م-1421ه/2002م) في كتابه الماتع الذي أعجبت به كثيرا
Неизвестная страница