ما أسخف أن يعلن الإنسان عن مبادئه، أصبحت بين شقي الرحى يومذاك؛ بين إعلاني أنني أريده أن يحيا حياته كما يشتهي وبين هلعي ولهفتي إن غاب عني، سنوات، سنوات، وأنا أشتاق إليه وهو في غيبة النهار، أو غيبة المساء، لا، وماذا تنفع لا وهي مهيضة الجناح لا تستند على منطق؟! العاطفة لا تسعف هنا، أتقف عثرة في مستقبلي لأنك ستشتاق إلي، إن أعظم تضحية أقدمها أن أخفي شوقي، وأخفي قلقي، ذلك القلق الآسر العربيد المخيف، ابني وحيد في بلاد غريبة عني وعن أمه وعن الأهل والأصدقاء. ليس ذنبه أنه وحيدي وأنني لا أريد أن أقلق عليه، ليس ذنبه أن المخاوف تتخطف قلبي كلما تأخر عن موعده دقائق، ليس هذا ذنبه، وليس شيء من هذا جميعه يصلح حجة تقف به أن يسافر إلى الخارج.
ويعود ويصفه من يحبني من الناس. أنيق. في مظهره شموخ وفي نظراته إيناس وترفع وقدرة على اجتذاب حب الآخرين، أتراهم يصدقونني في وصفه؟ لعلهم يريدون أن يرضوا نوازع الحب في نفسي، ولكنهم يقولون صفات بعينها محددة، لعلها لا تكون مكتملة، ولكن لا بد أنه يتصف بشيء منها على الأقل.
أما حديثه فإني أستطيع أن أحكم عليه، إنها هوايتي وخبرتي أن أحكم على الناس من أحاديثهم. وهل أملك إلا أن أحكم على الناس من أحاديثهم؟ ولكن هل أستطيع أن أحكم على صالح وهو ابني؟ وما يعنيني إن كان حكمي صادقا أو غير صادق؟ إنه رأيي أنا في ابني وأنا سعيد به، وليكن للناس جميعا بعد ذلك رأي مختلف، ماذا يعنيني أنا رأي الناس؟! إنه يستطيع بحديثه أن يأسر قلب محدثه، ويستطيع أن يشعر من أمامه أن كلاهما مهم، وأن حديث كليهما على جانب كبير من الأهمية، وهو يجيد ذلك في براعة لا تكلف بها ولا تصنع. لو لم يكن رأيي هذا صحيحا لما استطاع أن يصل إلى منصبه؛ مفتش داخلية في سنوات قليلة، ولو لم يكن رأيي هذا صحيحا لما استطاع أن ... - أبي. - أفندم يا حضرة المفتش؟
المفتش يريد أن يفتش عن شيء آخر. - خير، يبدو أن آمالك لا تقف عند حد. - أتريدها يا أبي أن تقف؟ - أريدها أن تقف عند المدى الذي تستطيع تحقيقه. - أنا لا أعرف هذا المدى. - على مهلك إذن. - ولكن لا بد أن أحاول. - محاولة جديدة؟ - حين كنت بالخارج وجدتهم يعرفون عن مصر أكثر مما أعرف. - وسائلهم أعظم. - العامل البشري أهم شيء. - وبعد؟ - لم أشأ أن أقول لك شيئا حتى أتأكد من عرضهم. - هل عرضوا عليك شيئا؟ - أن أقوم برحلة أكشف فيها بعض واحات في صحراء مصر، على أن يقوموا هم بالتكاليف. - هل التكاليف هي كل ما فكرت فيه؟ - لقد عودتني ... - ألا ترحمني، ألأني عودتك أن تفعل ما تشاء لا ترحمني؟ - آمال عريضة أحملها يا أبي. - حققها يا ابني، ولكن اعلم أنك تحققها من نبضات قلبي الخائف، ومن هذا الشعور البغيض من القلق يستولي على نفسي فيجعلني أفضل الموت على الحياة. حققها يا ابني، حققها. - لقد أثقلت عليك يا أبي. - أكثر مما تظن. - أتدعو لي؟ - ولا أملك إلا أن أدعو لك.
واليوم يعود. أرجو أن يكون قد حقق آماله جميعا ، لا لا قدر الله، بل أرجو أن تمتد آماله ما امتدت به الحياة، ولكن أرجو فقط أن تكون القاهرة هي مسرح آماله وليست أوروبا وليست الصحراء، لعل عودته الناجحة هذه التي تحيطه بهالات من التكريم والحفاوة والتعظيم، لعلها تتيح له من قلوب القاهرة ما تجعله يستقر بآماله فيها، فإنني والله أخشى لو سافر مرة أخرى ألا أراه، أقصد ألا يراني بعدها، عودا حميدا يا صالح، مرحبا بك في حضن أبيك يا صالح.
7
تم الزواج كما شاءت أن يتم. كانت قد دبرت لكل عارض ما يهدمه، كانت تعرف أن الزواج حين يتم بهذه الصورة العنيفة التي رسمتها سيكون قاسيا على نفس نامق وسيجعله نافرا دائما منها ومن الحياة بجانبها، ولكنها تعلم أن الناس دائما يؤثرون العافية ولا يحبون أن تكون حياتهم نكدة، وهي تستطيع دائما أن تملأ الحياة مرحا وحبا. - أغاضب أنت؟ - لقد رسمت ونجحت. - اسمع، لقد أعطيتك نفسي لأني أحبك. - أم لأني سأكون ناظر الوقف؟ - اذكر جيدا، هل كنت مرشحا لنظارة الوقف يوم أعطيتك نفسي؟ - لم أعد أذكر شيئا. - ولا تلك اللحظات السعيدة؟ - أدفع ثمنها الآن. - أزواجك مني هو الثمن الذي تدفعه؟ - إرغامي على هذا الزواج. - ولو كان لك الخيار؟ - لعلني كنت أختارك. - أيهما أجمل: أن تختارني أم أن أختارك؟ - الرجال يختارون في العادة. - يختارون نساء لا يملكن من أنفسهن شيئا، ويعيشون معهن وهم لا يدرون إن كانت زوجاتهم يحببنهم أم هن يؤدين أدوارهن كزوجات بلا حب ولا عاطفة ولا ذكريات، أما أنت فقد اختارتك زوجتك من بين جميع الرجال، واختارتك لنفسك، لم تكن تعلم يوم وهبتك نفسها أنك ستصبح ناظر أكبر وقف في البلاد، وتمسكت بك وتزوجتك، أيهما أجمل عندك؛ أن تختار أنت أم أن أختارك أنا؟
وسكت، وبدا عليه شيء من الزهو، وأطرق قليلا ثم رفع رأسه إليها: على أي حال لقد أصبحت حرم ناظر الوقف. - أكثير هذا علي؟! - مطلقا، فأنت من بيت عريق. - إذن لماذا تظل تقول هذا؟! - لأن مكانتك تحتم عليك أوضاعا جديدة. - مثل ماذا؟ - لا حفلات، لا خروج، لا زيارات إلا بعلمي، لا بد أن أعرف في كل لحظة ماذا تفعلين. - لك هذا، ولكن. - نعم. - عليك أن تعوضني عن هذا السجن. - لك ما شئت من أموال. - لا يكفي. - فماذا تريدين؟ - أريدك أنت، أوقات فراغك. - كلها لك. - اتفقنا. - اتفقنا. - ولكن هناك مشكلة صغيرة. - ماذا؟ - ابنك. - ابني؟! - سيأتي في موعد غير مناسب. - كيف، أنت حامل؟
وضمها إلى صدره ونسي في حضنها فترات القهر. - لعله يأتي قبل الشهر السابع. - قبل الشهر السابع. - احسبها أنت. - وبعد؟! - في الوقف مشايخ كثيرون، وما أسهل أن يصدروا الفتيا. - إذن فأنت حامل؟ - سعيد أنت؟ - ولكنك لم تستعملي هذا السلاح وأنت تنفذين خطة الزواج. - لو كنت احتجت إليه لاستعملته. - لا تفكري في الأشهر واهتمي بصحتك. - أنت تستطيع أن تصنع كل شيء، ألست ناظر الوقف؟ - إذن فأنت حامل، إذن فأنت حامل.
وضمها إلى صدره ونسي في حضنها فترات القهر التي كانت السبب في فرضها عليه، نسى كل شيء إلا أن هذه المرأة المثيرة ستصبح قبل شهور سبعة أم ناظر المستقبل.
Неизвестная страница