وتدور الكئوس وتنتشي الآمال ويفكر كل ذي وعد في تحقيق موعده، ونامق يرنو ويتلطف، وهي ترنو وتعد، ويدور الحديث ويلوب ولا يصل إلى شيء، ولكنه بنظراته اللماحة وعينيه ذواتي البريق ينفض الحفل. - سعادة البك الوالد؟! - لم يأت الليلة. - والوالدة؟
وتطلق ضحكة خائرة: وهي أيضا لم تأت. - إذن؟ - جئت معي بصديقتي كريمة.
ويصمت قليلا ثم يقول بفرنسية متقنة: ولكن ليس من المحتم أن ترجعي مع كريمة.
وتكسر عينها الواعدة وتجيب في فرنسية خالصة: سنرى. - ألم تري بعد؟ - قلت: سنرى. - مرت شهور. - قلت: سنرى.
لقد أصبح الوعد أخيرا ابن كلمة بعد أن ظل شهورا طويلة ابن نظرة. تتصايح الرغبات في جوانحه وتعربد الآمال في كل قطرة من دمائه، وتنصرف نازك إلى صديقاتها تحادثهن كأنها لم تفسح لهذه الرغبات أن تتصايح ولا لهذه الآمال أن تعربد.
ولا يجد هو في نفسه ميلا إلى حديث وإنما يظل ملصقا نظراته بوجهها؛ طويل هذا الوجه، قوي، عذب، يتحدى ويأمر، ويريد ويفعل، عينان ما هما بالواسعتين ولكن السعة فيهما أصبحت عمقا، إن تمكن إنسان أن يطيل فيهما النظر تكشف له من ورائهما عوالم تفضي إلى عوالم تفضي إلى لا نهاية، لا نهاية للعمق فيهما. تحيط بهما رموش لا تنثني إلى أعلى وإنما هي رموش مشهرة تتكلم فتقول ما تريد. وفم دقيق الشفاه ينفرج عن أسنان عليها وشاح من ضباب فضي خفيف. والفم جميعه يبدو كأنه على صلة وثيقة بالعقل، حتى إذا ابتسم جمع العقل والقلب في ابتسامته. وفي الذقن ذكاء وإرادة ورغبة وتفكير وتأمل وتنفيذ. وحين تقف نازك يظل نامق ملصقا نظراته بقوامها الفارع النحيف كأنه كلمة حازمة، كيان رائع نازك، هي حرية في حركاتها، في حديثها، في لفتة الجيد منها، في إيماءة الرأس، في الشعر العربيد على كتفيها ينساب كأنه أحلام عذرية حتى ليخال المرء أنه بلا نهاية؛ فنهايته بداية، بحر من أشعة الشمس حين تميل إلى الغروب، بحر متلاطم بلا شطآن، بلا أول ولا آخر.
وتلتفت إليه فجأة وكأنها لم تكن تحس بنظرته التي التصقت بها منذ بذلت له وعدها الأخير: ألا نذهب للعشاء؟
وينتفض واقفا عن قامة تنحو إلى القصر بعض الشيء، وينحني في كبرياء ويقول: بكل تأكيد.
وفي الطريق إلى المائدة يهمس: ننصرف بعد العشاء مباشرة. - بل ننتظر حتى يهدأ الرقص. - أترقصين؟ - أتريد أن ترقص؟ - ليس هنا.
3
Неизвестная страница